للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


قليل من الحقائق عن تركيا
في عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني

الأرمن وفتنتهم
(تابع لما قبله)
قبل ختم الكلام في وصف ما نالته تركيا من التقدم في عهد السلطان الحالي
رأينا من الواجب علينا أن نقول كلمات في الفتنة الأرمنية التي شهدناها مدة الأشهر
الثلاثة الأخيرة وفي الأرمن الذين يتجنسون بالجنسية الأمريكية في الولايات المتحدة
ويرجعون إلى تركيا وشأنهم مع القانون.
للأتراك مثل مشهور في تبصر الأرمن وهو (لا بد لغش أرمني واحد وخديعته
من اجتماع ستة من اليهود عليه) وهذا يدل على مقدار ما لهؤلاء في نفوس أهل
الشرق من الاعتبار والاحترام؛ لاعتقادهم بصدقهم واستقامتهم , ولكن للأرمن
أنفسهم شعورًا شديدًا بأن هاتين الصفتين تعوزانهم فإن رجلاً منهم قد نشر من زمن
غير بعيد رسالة في جريدة مشهورة من جرائد نيويورك ينصح فيها لإخوانه في
الدين أن يلتزموا الصدق في أقوالهم فلا يفوهوا بغيره ومن أراد أن يعرف كيف
نجح هذا الأرمني الساذج في مساعيه ووصاياه فليقرأ هذه الحادثة التي ذاع خبرها
في جميع أرجاء الولايات المتحدة وأوربا وها هي نقلاً عن الجرائد.
(إن قصة زوجة جريجو الأرمني زعيم الثاثرين ارتج العالم لبشاعتها وهي
أن هذه المرأة فضلت الموت على عبث مضطهديها الأتراك بعرضها , فألقت بنفسها
وطفلها على يديها في هاوية عميقة , وتبعها غيرها من النساء حتى امتلأت الهاوية
بأجسادهن- هذه القصة لم تكد تريع الناس بانتشارها حتى ظهر بطلانها كما أنبأ
بذلك كثير من العارفين بالحقائق فإنه قد تبين أن هذه الحكاية الفظيعة ليست إلا
أسطورة قديمة شعرية نظمتها السيدة هيمانس من سنين مضت وعنونتها بعنوان
(الوالدة سليوت) فنقلت , وزيد عليها من الحواشي وأنواع التزويق ما يطابق
المقام.
وقد بعث الناس انكشاف هذه الحقيقة لهم على أن يعتقدوا أنه من المحتمل أن
لم يكن من المرجح أن معظم ما يسمى بالفظائع الأرمنية ليس هو إلا من مخترعات
الخيال عند بعض الغلاة في الدين خلقوه ابتغاء للربح أو الانتقام أو ما شاكلهما من
الأغراض السافلة , وسكن بذلك هياج القلوب على الأتراك سكونًا ظاهرًا في كل
جهة إلا بين مضرمي نار الفتنة من الأرمن المولعين بالمخالفة للجمهور لإقلاق
الخواطر فإن هؤلاء الأشخاص لا يودون أن يعتقدوا أن القصة لا أصل لها سوى
تلك الأنشودة الشعرية وينتظرون تقرير لجنة التحقيق التي قد وصلت إلى بلاد
الأرمن واثقين ثقة تامة بصحتها.
نعم إنه لا ينكر أن بعض القلاقل قد حدث في ساسون وعينت لجنة لتحقيقها
لما لجلالة السلطان من العزيمة الصادقة في معاملة كل رعاياه بالعدل والإنصاف
ومعاقبة جميع من له يد في ارتكاب الجرائم , ولكن من المهم على ما نرى أن
نعرف أولاً حقيقة ما حصل في بلاد الأرمن وثانيًا من هم المعتدون الحقيقيون.
ويمكننا إجمال الوقائع في كلمات مختصرة نتقلها عن جريدة نيويورك هرالد
(داعي نيويورك) وهي:
ظهر محركو الفتنة في جبال تالوري الوعرة الواقعة بين ساسون في الجنوب
الشرقي لموش (من ولاية بتليس) ومركز قول من متصرفية جوينج , وجمعوا
قواهم بإغراء من يدعى همبارتزن الذي انتحل لنفسه اسم مراد , وبادر بإلقاء بذور
الفتنة في تلك الجهات.
وهمبارتزن هذا أصله من قرية تدعى هجين (من ولاية أطنة) وبعد أن
قضى ثماني سنوات في دراسة الطب بالمدرسة الطبية الملكية بالقسطنطينية ,
واشترك في قلاقل (قوم قبو) هرب إلى جنوه , ثم ذهب بعد ذلك متنكرًا مغيرًا
اسمه من ديار بكر إلى ضواحي بتليس على طريق إسكندرونة وأنشأ من حين إلى
آخر ينفث في نفوس الأهلين سموم الثورة هو وخمسة نفر آخرين.
كان هذا الرجل يؤكد لبسطاء العقول من أمته أنه مأمور أجنبي تشد أزره
الدول الأورباوية في إنفاذ مقاصده لتقويض سلطة الأتراك فنجح بذلك في جذب
قلوب الأرمن القاطنين قرى (سينار , وسيماي , وجوللي جوزات , وآهي , هيدنك,
وسنانك , وشيكاند , وإليفارد , وموسون , وإيتيك , وإديجسار) إليه واستمالتهم إلى
مساعدته في الوصول إلى مآربه الأثيمة كما أفلح في استمالة أرمن
إقليم تالاري المشتمل على أربعة مراكز.
ثم اجتمع أولئك الثائرون تحت إمرة همباتزون مغادرين قراهم في النصف
الأخير من شهر يولية الماضي بعد أن وضعوا نساءهم وأطفالهم وأمتعتهم في أماكن
معينة , وبعد أن انضم إليهم أيضًا قوم آخرون مسلحون من العصاة أرسل بعضهم
من قبل والي موش , والبعض الآخر من قضائي قول وسلوان , فبلغ عدد
المحتشدين أكثر من ثلاثة آلاف , وكان اجتماعهم في مكان يدعى أندوك داغ فعزم
خمسمائة أو ستمائة منهم على الإغارة على موش , وابتدأوا بالهجوم على قبيلة
دليقان فوق جبل قورلنك في جنوب موش , وقتلوا قليلاً منهم وسلبوا أمتعتهم ,
وجميع من وقعوا في أيديهم من المسلمين أهينوا في دينهم , وقُتلوا أشنع قِتْلة , وقد
هجم العصاة أيضًا على عساكر الحكومة التي في ضواحي موش ولكنهم لم يجسروا
على مهاجمة موش نفسها بسبب ما فيها من القوى العسكرية العظيمة.
فشكل هؤلاء العصاة مع بقية المحتشدين في أندوك داغ من أجل ذلك عصابات
أخذت تناوش القبائل من كثب , وترتكب فيها أفظع أنواع القتل والسلب فإنها
أحرقت ابن أخي عمر أغا وهجمت على نساء ثلاثة بيوت أو أربعة من المسلمين
وأكرهتهم على تقبيل الصليب , ومثلث بهم فاقتلعت أعينهم وصلمت آذانهم وجعلتهم
موضوعًا لأشنع أنواع التحقير.
ثم هجم هؤلاء العصاة أنفسهم في أوائل أغسطس الماضي على قبائل فانينار ,
وبيكران , وباديكان , وارتكبوا فيها مثل ما تقدم من الجرائم , وهاجم عصاة
قريتي إيليغار نوق , وإيرموس الواقعتين في قضاة ديجان (بمركز قلب) الأكراد
المتوطنين هناك كما هاجموا قريتي قيسار وتشاتشات.
وفي أواخر شهر أغسطس الماضي هجم الأرمن على الأكراد المقيمين في
ضواحي موش , وأحرقوا ثلاثة قرى، أو أربعة منها جوللي جوزات.
أما الثائرون في تالوري البالغ عددهم أكثر من ثلاثة آلاف فإنهم بعد أن
أحلوا الرعب والموت بالمسلمين والمسيحيين معًا رفضوا التسليم للحكومة , ولجُّوا
في ارتكاب الفظائع , فأرسلت الحكومة بعضًا من عساكرها المنتظمة إلى تلك الجهة
لقمع عصيانهم , فهرب زعيمهم همباتزون , واعتصم بجبل عالٍ هو وأحد عشر من
شركائه في الإثم فقبض عليه حيًّا , لكن لم يكن ذلك إلا بعد أن قتل عسكريين
وجرح ستة وفي نهاية أغسطس الماضي كانت جميع عصابات الثائرين قد تشتتت.
وقد عامل العساكر نساءهم وأطفالهم وذوي العاهات منهم بما يجب لهم من
الرعاية , وبما تتقضيه في حقهم أحكام الشريعة الإسلامية وعواطف الإنسانية , ولم
يقتل من رفضوا التسليم وفضلوا أن يقوموا محاربين في وجه حكومتهم الشرعية.
وقد تأيدت هذه الوقائع فيما بعد بشهادة شاهد عاينها بنفسه , وهو سائح أسباني ,
وعضو في الجمعية الجغرافية بإنكلترا يسمى كزيمنس وهاك ما قاله عن مشاغب
ساسون منقولاً عن الجرائد:
(قد عاد الآن المسيو كزيمنس بعد أن أتم العمل الجغرافي الذي كلفته به
الحكومة التركية في كردستان وموزوبوتاميا وقضى فيه ثمانية أشهر من مارس إلى
نوفمبر الماضي وقد اتفق له الوجود في إقليم بتليس حين حصول القلاقل المزعوم
حصولها في ساسون وهو يقرر أنه لم ير ولم يسمع شيئًا يؤيد ما ذاع خبره من
قصص (الفظائع الأرمنية) . (وقد أقام المسيو كزيمنس في القسطنطينية شهرًا
لكنه لم يود أثناء وجوده فيها أن ينافس في تلك الفظائع المدعاة بوجه من الوجوه ,
أما الآن فهو في لوندرا مع ووس باشا فلم يبق بعدُ سببٌ لالتزامه السكوت عنها
ورأيه هو أن الذين يجب توجيه كثير من اللوم المهم عليهم بما حدث في أرمينيا من
المشاغب هم المرسلون الأمريكيون المتشددون المقيمون في آسيا الصغرى , فهو
يقول: إن هؤلاء المراسلين يلقون على الأرمن من قشور التعاليم ما لا يناسب حاجات
طائفتهم , فتجد التلامذة المتخرجين عليهم لا يقنعون بعد تعلمهم بالرجوع إلى بلادهم
والاشتغال بأرضهم , بل إنهم على الدوام يهتفون بحرية الأرمن واستقلالهم , وقد
ظهر في معظم القلاقل التي حدثت ببلاد الأرمن أن محركيها هم تلامذة أولئك
المراسلين.
ثم قال المسيو كزيمنس بعد ذلك: إن ما نسب للأتراك عساكر وملكيين من
تعذيب نساء الأرمن وأولادهم وانتهاك حرماتهم لا أثر له من الصحة , وأن كل ما
وقع مما كثر به الإرجاف والتهويل إنما هو تشويش حصل من بعض الأرمن في
جهة فحسمت مادته فيها دون أن يتعدى ذلك إلى غيرها.
وبعد أن وصف المسيو كزيمنس ما وقع بين الأرمن والأكراد في أوائل
الصيف الماضي من المشاغب والمقاتل قال: إن الأرمن احتشدوا جموعًا كبرى في
ولاية تالوري على مقربة من ساسون , فطلب حاكم بتليس إلى الحكومة أن ترسل
بعضًا من الجند لتسكين الفتنة وإعادة النظام إلى أصله فصدرت الأوامر إلى زكي
باشا بجمع أربعة طوابير وهي تبلغ حوالي ١٢٠٠ جندي وإرسالها على الفور
لتمزيق شمل الأرمن المتألبين فأدركتهم هؤلاء الجنود على ربوة في تلك الجهة ,
وطلبت إليهم التسليم فسخر منهم الأرمن لأن عددهم كان يقرب من ثلاثة آلاف ,
وأنشأوا يرجمونهم بالحجارة , ولم يقتصروا على ذلك , بل إنهم أطلقوا عليهم بعض
مقذوفات نارية فأجابهم العساكر بإطلاق الرصاص عليهم مرة واحدة فهربوا متشتتين
ثم اجتمعوا في وادٍ ضيق فأدركهم فيه العساكر ونصح إليهم القائد بكلام سلمي أن
ينصرف كل منهم إلى شأنه وأن يكفوا عن هذا الاحتشاد , فسمع بعضهم النصح
وانصرف , ولكن معظمهم بقي مصرًّا على عناده فأطلقت الجنود عليهم الرصاص
مرة أخرى , وبلغ كل من قتل منهم في هذه الواقعة ثلاثمائة وهي على قول مسيو
كزيمنس أهم شغب حصل في الفتنة كلها , نعم إن كثيرًا منهم أسروا لكنهم قد أطلق
سراحهم بعد) .
هذا ما حصل في بلاد الأرمن قد بيناه , أما ما يتعلق بالمحركين الحقيقيين
للفتنة وبما وصلوا بالأمور إلى ما صارت إليه فلا شيء فيه أجدر بالقبول بين
الناطقين بالإنكليزية من قول رجل مثل القسيس المبجل سايروس هملن في رسالته
الشهيرة التي نشرت في ٢٣ ديسمبر سنة ١٨٩٣ في الجريدة الدينية المسماة
(نصير الاستقلال الكنيسي) وها هي بحروفها.
لها بقية
***
من إدارة المنار
نرجو من القراء الكرام الذين لم يدفعوا لنا قيمة الاشتراك عن السنة الثانية
(وقليل ما هم) أن يقدموها لنا حوالة علي إدارة البريد أو طوابع بريد لأننا لم نظفر
بمحصل أمين بعد خيانة من سبق , وبهذا يحق لنا أن نفتخر بجميع قراء المنار ,
وأنهم من الخواص الأخيار.
((يتبع بمقال تالٍ))