للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


خطاب عام للمسلمين في شأن الحجاز
(٥)

علاوة
(في ظلم الملك حسين وولي عهده الأمير علي في المدينة المنورة)
كتب إلينا ناقد خبير من سكان المدينة المنورة مقالاً طويلاً ذا فصول في ذلك ,
فرأينا من إتمام الموضوع أن نلخصه بما يأتي:
(١) نهبهما للأوقاف الأهلية الخيرية:
لما استولى الشريف حسين على المدينة المنورة بعد هدنة الحرب , كان أول
شيء فعله أن وضع يده على أوقافها حتى الموقوفة على سكان البلاد كوقف المغاربة ,
وهو يحتوي على نخيل وأراضي وبيوت , وكذا وقف الهنود والبخاريين وغيرهم ,
فريع هذه الأوقاف يوضع الآن في الخزينة النبوية , ومنها يرسل إلى خزينة
الشريف في مكة إلى يومنا هذا , وسنذكر بعض الوقائع في مخاصمة بعض
مستحقي هذه الأوقاف للأمير علي والشكوى لوالده.
ولم يكفه هذا كله بل تسلط على الأوقاف الخيرية المحبوسة على الفقراء في
المدينة , وأمر بتحويلها إلى الخزينة النبوية؛ لتصرف في شؤون الحرم مدعيًا أن
المستحقين ليسوا موجودين , والله يعلم أن عدد الفقراء في المدينة المنورة أكثر من
سائر سكانها , ولكن ليس المقصد ذلك , بل هو استيلاء الخزينة على غلة هذه
الأوقاف , واطلاعها على تفرعاتها وريعها , وأن تجمعها وترسلها في صناديق مقفلة
إلى الملك بمكة , وهذه العادة مستمرة إلى يومنا هذا.
(٢) نهبهما للحجرة النبوية:
ثم مد يده إلى الحجرة النبوية المعطرة فجردها من جميع ما بقي فيها , بعد أن
أخذ الترك ما أخذوا من جواهرها وذخائرها , وأخذ جميع الأمتعة التي تركها فخري
باشا على ضريح السيدة فاطمة البتول رضي الله عنها , ولولا أن فخري باشا تدارك
الأمر , وأرسل مجوهرات الحجرة الشريفة إلى الآستانة لتَصَرَّف فيها الشريف
حسين , ووضعها في خزائنها مثل بقية الأمتعة.
فمن جملة تصرفه في أموال الحجرة الشريفة أنه أخذ ما ينوف عن عشرة كيلو
(غرام) من الذهب , كان فخري باشا ذوبها وجعلها سبائك , وهو قطع بعض
الأمتعة المكسورة و٢٥٠ كيلو من الفضة المسبوكة , وكان قد أراد فخري باشا
إرسالها إلى الآستانة مع بقية الأمتعة , فحال دونه قطع المواصلات.
والنقود التي طبعها الشريف حسين في المدة الأخيرة من هذه السبائك ,
ومن جملة الأحوال التي يتأثر بها الإنسان؛ أن الحجرة الشريفة بعد أن كانت
توقد قناديلها كلها من الزيت الرفيع , أصبح يوقد عدد قليل منه بالزيت المكروهة
رائحته , إلا أن أمر بإيقاد شمعتين في الحجرة فقط.
وقد نقل إلى مكة كل ما كان في الخزينة النبوية من جواهر وحلي وأمتعة
موقوفة من أهل البر والإحسان لكل عائلة تريد التحلي بها والتزين في الأعراس ,
مع ما تركه فخري باشا من النقود التي تزيد عن مليون ونصف مليون جنيه من
القراطيس المالية (بانقونوط) , وخمسين ألف جنيهًا عثماني أصلها من أموال
الخزينة وأوقافها , غير مبالٍ بحق الله أو بحق رسوله , أو بحق العباد وحرمان
الفقراء المستحقين من القوت.
(٣) نهبه للحرم النبوي الشريف:
أمر الملك حسين ولده الأمير عليًّا والي المدينة المنورة بأن يرسل إليه جميع ما
في الحرم النبوي الشريف زائدًا على فرشه من السجاد والبسط فنقلها إلى مكة شيئًا
فشيئًا , ففرش الملك بها قصره وداره ودوائر أولاده , حتى بيوت عبيده وغلمانه ,
وكل ما يهدى إلى الحرم الشريف من زيت وشمع وعطر وغيرها , يأمر بإرسالها
إليه قبل أن تفتح , وأن يراها أحد , وهو يُخْبَر بكل شيء من هذه الهدايا عند
وصلها , وأكثرها تجيء من الهند.
ولا أعلم أنه أرسل يومًا من الأيام شيئًا إلى الحرم النبوي , بل كلما بلغه أن
هناك هدية قدمت للحرم فقبل أن يخبروه بها هو يرسل في طلبها حالاً , حتى
أصبحت الخزينة النبوية لا تستطيع شراء أقل شيء يحتاجه الحرم ولو (مكنسة) ,
وإذا اطلعت على قيود الخزينة النبوية , ترى أن لها مخصصات تبلغ خمسمائة جنيه
في كل شهر , ربما تتقاضى هذا المبلغ في مدة سنتين , بَيْدَ أن مداخل الخزينة تقدر
بالألوف من الليرات , فإيرادات الحرم النبوي في الحالة الحاضرة ليست بقليلة؛ بل
هي تقوم بجميع ما يحتاجه إليه مع رواتب مأموريه , ولكن الشريف لا يرضيه ذلك ,
ولا يهمه إلا تكديس الذهب الأحمر في خزائنه , وهو لا يصرف لخدمة الحرم من
أئمة وخطباء ومؤذنين وأغوات وغيرهم إلا نصف المرتب , ولكن في كل ثلاثة
أشهر مرة , ثم إنه يعطيه بدل الجنيه الإفرنجي ستة ريالات مجيدية , وإنما سعره
في الخارج يساوي ١٤ مجيديًّا , وهو لا يدفع لهم مرتباتهم إلا قطع فضة , وكذلك
بقية عمال حكومته؛ لأنه يحتكر الذهب لنفسه.
وقد بلغ الحرم في الحالة الحاضرة إلى حالة سيئة؛ لإهمال ترميمه في كل
سنة حسب العادة , يقال: إن ترميمه في الحالة الراهنة يحتاج إلى مصرف قدره
خمسة آلاف جنيه وزيادة ليعود كما كان.
ولولا مساعدة أرباب الغيرة من المسلمين , وبذلهم ما في إمكانهم؛ لشراء
(البوية الخضراء) وجلبها من مصر؛ لأجل طلاء القبة الشريفة لأصبحت القبة
غبراء , وكذلك بقية ملزمة الحرم التي ترسل تارة من إخواننا المصريين والهنود
وغيرهم.
(٤) إن بعض أغنياء الهنود يبذلون كثيرًا من الهدايا والصدقات لأهل
المدينة في أثناء زيارتهم , وذلك يسوء الملك جدًّا , فيتوسل جواسيسه وأعوانه بما
يعلم أهل المدينة من مساءته إلى مشاركتهم في هذه الصدقات والهدايا وإلا أخبروه
بها , وفي رمضان الماضي زار المدينة المنورة ملك (جترال) واسمه شجاع الملك ,
وأقام فيها خمسين يومًا , فبذل كثيرًا من الصدقات على جميع الأهالي من طعام
ولباس وفلوس حتى رجال الحكومة عمومًا , فكان كل يوم يدعو جماعة من الدوائر
للإفطار في رمضان , ووسع على بعض علماء المدينة الذين عرفهم , وكانت نفقاته
اليومية تقدر على الأقل بخمسين جنيهًا , ماعدا العطايا التي كان يبذلها لخدمة
الحجرة المعطرة , والحرم الشريف , ومؤذنيه , وخطبائه , وأئمته , والسقاة
والبوابين إلخ , فلما بلغ الأمر إلى الشريف الحسين , وكان أمر بمراعاته وخدمته ,
أخذ يضيّق عليه بطرق أزعجته وأضرّت بكثير من الناس , فقد أمر بمنع الأهالي
من زيارته حتى العلماء والفقراء إلا بإذن من الحكومة , فكانوا يمنعونهم جهرًا
ويهينونهم [١] فأدرك الملك المشار إليه ذلك؛ فحزن ووعد بأن يساعدهم من بلاده ,
ويتحرى أن لا يصيبهم من مساعدته ضرر , وقد أرسل الشريف حسين إليه من
يبلّغه شكره , ويقول له: إن المطعم الهاشمي يكفي فقراء المدينة حاجتهم.
(٥) وأما خبر المطعم الهاشمي فهو أنه لما امتنعت التكية المصرية في
المدينة المنورة من إعانة الفقراء من جراء الخلاف بين الحكومتين الهاشمية
والمصرية , أمر الشريف حسين بإنشاء مطعم يغنيهم عن إعانة التكية , وأمر تجار
المدينة بأن تقوم بجميع نفقاته , فقاموا بذلك ظانين أن الحكومة تعطيهم ما ينفقونه ,
فلما طال الزمان ولم يروا منها شيئًا ,علموا أن هذا من جملة الغرامات التي تلقيها
على رقابهم , فقصروا , واختل نظام المطعم , وأصبح يطعم يومًا ويمنع أيامًا ,
ويعطي أقل ما ينفقه للفقراء وأكثره لرجال الحكومة الهاشمية وجواسيسها وعبيدها؛
ليشهدوا لهم عند من لا يقبل شهادة غيرهم.
أي الرجلين أظلم حسين بن علي أم علي بن حسين؟
(٦) لأهالي المدينة المنورة أوقاف كثيرة , بعضها موقوف على بعض
العائلات بموجب فرمانات وحجج شرعية , فلما نهق الشريف حسين نهقته
المشهورة بإبادة العالم الإسلامي , ودخل المدينة المنورة بعد الحرب , وضع يده
على المباني الأميرية , وعلى الأوقاف العائدة لأهاليها الحاضرين بالمدينة المنورة ,
فحول ريعها إلى خزينته , كما تقدم غير مبالٍ بالمستحقين فيها من أيتام وأرامل
وغيرهم , وهو يعلم أنه ليس لهم من دونها أقل دخل يعتمدون عليه في تدبير
معيشتهم , وقد ظن بعض الناس أن هذا خطأ , فقام بعضهم بواجب الدفاع عن
حقوق بعض العائلات التي أُدخلت أراضيهم ودكاكينهم في الأوقاف الأميرية ,
وعرضوا الفرمانات والحجج الشرعية التي تثبت أن الوقف أهلي له مستحقون ,
فتلقى الأمير علي أمير المدينة المنورة هذه الحجج والمستندات بغاية الغضب
والاشمئزاز , وأخذ يتدبر في حل المشكل , فأوعز إلى قاضي المدينة بتشكيل هيئة
تدقق الحجج وتنهي المسألة على حسب مرغوبه في الباطن , فقامت الهيئة بالعمل
فاتضح الحق: كالشمس في رابعة النهار , ولكن المخلصين من رجال الهيئة لم
يمكنهم المجاهرة بالحق , ففوضوا الرأي (لمولانا) القاضي لأن يحكم بما أنزل الله ,
فحكم بما أنزله الأمير علي بقوله: للحكومة حق فيها من حيث إن أصل الأراضي
أميرية , وقد تبرعت بها الحكومة التركية على بعض الأهالي , وبما أن القوانين
التركية لا يعمل بها في الحكومة الهاشمية فلا عبرة بحججها ولا بغيرها.
وأتى بنص أخرجه من كتب الزنادقة (كذا) أيد به رأيه , فعارضه بعض
الأعضاء ببطلان نصه وإثبات صحة الوقف شرعًا ونفاذه. ولكن الأمير عليًّا أخذ
بقول القاضي؛ وكتمت المسألة حتى جاء والده المدينة زائرًا قبل سفره إلى شرق
الأردن , فرفعوا الأمر إليه , فأمر بتأليف لجنة للنظر في القضية , فقال له الأمير
علي: إن اللجنة تشكلت وحكمت , والتفت إلى الشاكين وهددهم بقوله: سأناقشكم
الحساب , فقال الملك: أي حساب يا ولدي؟ شكل اللجنة ثانية؛ واعتذر هو
للشاكين بأنه زائر ما جاء ليحكم , وإن في ولده الغنى عن حكمه , وإنه لولا حبه
إياهم لما ترك عندهم أعز أولاده في وقت هو محتاج إليه فيه , (قال) : فأرجو
مساعدته وحفظه , وما هو إلا أمانة مودعة عندكم , فراعوا حقها وواجبها فإني
أوصيكم به خيرًا.
(٧) كان صدر أمر الأمير علي بأخذ العشور عن كل ما يباع في أسواق
المدينة من صنف الخضر والفواكه التي تزرع في نفس البلاد , فكان هذا الأمر ساء
زراع أهل المدينة مع مخالفته لحديث المصطفى صلى الله عليه وسلم بقوله ما
تأويله: (لا يؤخذ عن سوقنا هذه شيء , ولما هو مكتوب على باب السلام من
ثلاثمائة سنة سوق المدينة المنورة معفي من أداء العشور) فعرضت على الملك
حسين وهو في المدينة , فسأل ولده الأمير عليًّا عن صحة ذلك فأجابه في حضرة
المدعين: بأنه لم يأخذ باسم العشور , وإنما أخذ باسم الزكاة وفقًا لأصول مكة ,
فسأل الملك الحاضرين ما قولكم؟ فأجابوه: إننا تؤخذ منا الزكاة وتؤخذ منا العشور
وما نحن بكاذبين أمام صاحب الجلالة , فسكت قليلاً وقال: أنا أمرت ألا تؤخذ
عشور من المدينة , فما سافر الملك حسين حتى ازدادت قيمة العشور فوق ما
كانت اهـ. [٢]
خاتمة الخطاب والغرض منه:
إن مجموع ما أثبتناه في هذا الخطاب يوجب وجوبًا كفائيًّا على من علم به من
المسلمين أن يسعوا لإنقاذ الحرمين الشريفين وأهلهما من ظلم هذا الطاغوت وظلم
أولاده , وتأمين أهلهما ومن يقصدهما للنسك أو غيره على نفسه وشرفه وماله ,
ومنع الغرامات والضرائب والظمأ القاتل والغلاء الفاحش منهما , بتغيير شكل
حكومتهما , ومنع نفوذ حسين وأولاده أن يعود إليها , ثم السعي لإعلاء شأنهما بالعلم
والعمران.
فأما القادرون على إزالة هذه المنكرات بأيديهم: كأمراء جزيرة العرب وأئمتها
فهم المسؤولون قبل كل أحد عن القيام بهذه الفريضة بالتعاون أو الانفراد , فأيهم قام
بها يسقط بعمله الإثم عن الباقين وسائر المسلمين.
وقد كنا أفتينا بهذا من قبل , وطالبنا هؤلاء الأمراء بهذا الواجب في السر
والجهر , وبينا لهم أن ما كانوا يخشونه من تدخل الأجانب غير المسلمين في أمر
الحجاز بدعوة حسين , ولا سيما من ناط بهم أمر حمايته , مخالف لتقاليدهم
السياسية إلا أن يكون بالدسائس السرية , وهي لا خطر فيها , ولا تسقط الفريضة
بها.
وأما الأفراد الذين لا يملكون من القوة ما ينقذون به الحرمين وإصلاح شأنهما ,
فيمكنهم نصيحة القادرين , والتعاون على العمل بوضع نظام للعاملين , وقد تألفت
لذلك جمعية خاصة باسم (جمعية السلم العام , في بلد الله الحرام) .
ونحمد الله تعالى أننا قبل ختم هذا الخطاب الذي أبطأنا في نشره علمنا أنه تعالى
قد وفق عبد العزيز آل سعود إمام نجد وملحقاتها للقيام بما كان يجب على أولي
الاستطاعة كافة - وجوب كفاية - من إنقاذ الحجاز من هذا الظالم وأولاده , وقد
نصره الله نصرًا عزيزًا فاستولى على مكة المكرمة , وخر حسين بن علي عن
عرش ملك العرب والخلافة العظمى , اللذين تنحلهما بالباطل , وفر منهزمًا من
الحجاز مشيعًا من قومه بمقتهم له وسخطهم ودعائهم عليه , بأن لا يريه الله خيرًا ,
ولأنفسهم بأن لا يريهم له وجهًا , فظننا أن قد حصل الغرض من الخطاب قبل
تمام نشره , ولكن إبطاء جند السلطان ابن السعود المؤلف من عرب الحجاز وعرب
نجد في إنقاذ مكة , وقطع طريق جدة والاستيلاء عليها مكّنه من نقل ألوفِ ألوفٍ
من الدنانير الذهبية الإنكليزية والجنيهات المصرية الورقية (الأنواط) , وسبائك
الذهب والفضة التي نهبها من المدينة المنورة , وما لا يحصى من الذخائر
والجواهر.
سيرة حسين بعد فراره من الحجاز:
إنه قد شحن سفينتين من البواخر التي كان ابتاعها للتجارة , مما ذكر من
الأموال والأثاث والرياش الذي كان في داره وفي دار الإمارة؛ لأنه وإن قيل: كذبًا
وخداعًا إنه استقال بعد كل ما للحكومة من مال وعقار وأثاث مِلْكًا له , وكان
يتصرف في كل شيء إلى يوم إبحاره من جدة , وسافر بذلك من جدة إلى خليج
العقبة , فألقى مراسيه فيه , وهنالك بسط يديه الكزتين بالمال لولده علي الذي خلفه
في الحجاز , وبإذنه سماه الحزب الوطني المؤلف من بعض أهالي مكة وجدة ملكًا له
وحده , فهو فيه تحت سلطان والده ملك ملوك البلاد العربية وأمرائها كلهم وخليفة
المسلمين كافة؛ ولولده عبد الله الأمير البريطاني من قبل الدولة الإنكليزية على
شرقي الأردن بإذنه ورضاه أيضًا , وهما اللذان جعلا لها حق السيادة الانتدابية على
هذه البقعة من قلب جزيرة العرب , وهي مركز الخطر الأكبر عليها؛ إذ هي بين
الحجاز ونجد وفلسطين وسورية والعراق
وإنما بسط يديه الكزتين لولديه المذكورين؛ لأجل جمع المقاتلة بالأجرة ,
وجلب الأسلحة والذخائر الحربية؛ لقتال الوهابيين وإخراجهم من الحجاز , ثم
القضاء على قوتهم , وثل عرش ملكهم في عقر ديارهم إن أمكن , وأملهم في القتال
ضعيف , وإنما يظنون أن الاستعداد له يكون وسيلة لإقناع سلطان نجد بالصلح
ليعود حسين إلى مكة أشد ظلمًا وإلحادًا في الحرم مما كان؛ ولاستمالة أعراب
الحجاز الساخطين عليه الماقتين لحكمه , حتى قيل: إن ما خصصه لهؤلاء
خمسمائة ألف جنيه من الذهب الإنكليزي؛ وما قيل من استقالته أو خلعه فهو من
خداعهم وإفكهم؛ لأنهم يعلمون أن جميع بدو الحجاز وحضره يمقتونه , ويفضلون
سلطان نجد على حكمه , وأما علي ابنه فضعيف الإرادة , فلا يظلم إلا ضعفاء
الحضر , ولكنه مبايع لوالده بملك العرب وبالخلافة , وإنما يعمل لإعادته , ولولا
ذلك لما أمده بالمال , فإن عاد كان الخطر على جزيرة العرب أشد مما كان.
أما وله ببذل المال غرض آخر هو بث الدعاية العامة في العالم؛ لتحسين
سمعته وتشويه سمعة ابن سعود وأهل بلاده , بوصفهم بالتعصب الديني والتوحش
والضراوة بسفك الدماء , وهو يعلم ما لا يعلم أهل نجد من تأثير هذه الدعاية , وقلما
يسخو إلا في سبيلها من حيث لا يقيم لها سلطان نجد وزنًا , وقد بذل في هذه السبيل
كثيرًا مما جمع من السحت , ولكن كان كل ما ربحوه أن بعض الجرائد نشرت لهم
ما شاءوا , وقل من يصدقها لتعارضها وظهور كذب ما تنشره في الغالب, ولأن
سياستها أجنبية غير إسلامية , وما برح الرأي الإسلامي خصمًا لهم ومؤيدًا عليهم
فلم أر لمسلمٍ معروف بمصرَ كلمة خير فيهم , وقد أخبرنا الثقات أن أنصارهم في
سورية وفلسطين يقلون ولا يزيدون.
ويليها الدعاية في بلاد العرب لتأليب القبائل على حكومة نجد والوهابيين ,
وحملهم على قتالهم , واسترداد إمارة آل الرشيد لهم (في ظل ملك البلاد العربية
كلها وخليفة المسلمين) ولإغراء العداوة والبغضاء الدينية بينهم وبين قبائل الشيعة
في العراق , وهذه المهمة منوطة بالملك فيصل , ولولا أن الشيعة مقتوه مع مبالغته
في التملق لهم؛ لما علموا من إخلاصه للأجانب دون الأمة والملة , لنجح في هذا
الأمر نجاحًا عظيمًا , ولعلماء الشيعة وزعمائهم ورؤساء قبائلهم في العراق الفضل
الأكبر في مقاومة الإنكليز , واضطرارهم إلى تأليف حكومة عربية مستقلة في دائرة
الإمبراطورية البريطانية والسعي للاستقلال المطلق؛ ولولا الشيعة لكان العراق
ولاية هندية محضة , فإن أكثر المنتمين إلى السنة هنالك أضعف عزيمة وأوهن
عصبية من الشيعة , فالمصلحة العربية تقضي باتفاق الشيعة كأهل السنة مع أهل
نجد ومن تبعهم , وذلك ممكن إذا كف الله كيد هؤلاء الحجازين عن البلاد العربية.
وقد أبطأ النجديون في احتلال ثغور الحجاز , حتى تمكن حسين وأولاده من
تحصين جدة بعد أن استغاثوا وليتهم وسيدتهم الدولة البريطانية , وطلبوا منها أن
تحمي الحجاز , وتكف سلطان نجد عنه , فامتنعت من ذلك لِما رأت من مشايعة
العالم الإسلامي له ومقته لهم , ولا سيما الهند ومصر , وكان دعاتهم قد أذاعوا أنها
تحمي لهم جدة بأسطولها , ثم استنجدوا إيطالية , وأذاعوا أنها أنجدتهم , ثم كذبوا
ذلك كعادتهم ولكنهم لا يزالون يسعون لذلك سرًّا.
وكان أفضل ما عمله سلطان نجد التقي العادل أن أعلن أنه لا يريد بإنقاذ
الحجاز توسيعَ ملكه به ولا الاستبداد بالأمر فيه , بل أمنه وإعلاءَ شأنه , وطلب من
جميع الأقطار الإسلامية إرسال مندوبين إلى مكة؛ لعقد مؤتمر من أهل العلم والرأي ,
يضعون نظامًا لحكومة الحجاز يرضيهم , وهذا هو الباعث على تأليف
(جمعية السلم العام , في بلد الله الحرام) منذ ثلاث سنين ونيف , فنشكر لهذا
السلطان هذا العمل العظيم الذي لم يسبقه إلى مثله أحد من سلاطين المسلمين الذين
تولوا أمر الحجاز , وقد قاوم ذلك حسين وأولاده بدسيسة شيطانية , وهي أن هذا
تحكيم للأعاجم في بلاد العرب , وهذا من أقبح الكذب الذي يضر العرب ويفرق
بينهم وبين من ينفعهم من إخوانهم المسلمين ولا ينتفع منهم , فندعو جميع أصحاب
الشأن من مسلمي الأرض لإجابة هذه الدعوة , ومن قصّر فهو الذي أسقط حقه ,
وندعو أصحاب الصحف الإسلامية لترويج الدعوة إلى ذلك , والعقبة للمتقين ,
وسلام على المرسلين , والحمد لله رب العالمين.
((يتبع بمقال تالٍ))