للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الرد على اللورد كرومر
(٢)

تتمة الكلام في مسألة المعارف
إن اللورد يعلم أنه استعمل المغالطة في هذا الفصل، فعمل محمد علي وعباس
وإسماعيل ليس حجة على ما يجب اتباعه الآن من حَصْر تعليم الحكومة في
فرنجة عدد معين للوظائف. والإنفاق في وقت كانت الحكومة فيه على شفا الإفلاس
لا يجعل مقياسًا لوقت يزيد فيه دخلها على خرجها زيادةً عظيمةً. ولو كان عمل
محمد علي وعباس وإسماعيل مما يصح أن يتبع في هذا العصر لَكَان الواجب على
الناس أن يرجعوا القَهْقَرَى دائمًا , ولما ساغ لإنكلترا أن تدعي أن هذه البلاد محتاجة
إليها في تقدمها وارتقائها , فإنها تقدر بنفسها أن تكون على أحسن من زمن إسماعيل ,
فما بال اللورد يمثل ظلمات الماضي الحالكة شَرَّ تمثيل , ثم هو يجعلها أساسًا يبني
عليه سياسته في التعليم؟ !
اللورد قد ذم المتفرنجين في كتابه ذمًّا بليغًا , وبين أنهم لا قيمةَ لهم في نظر
الشيخ محمد عبده , فكيف لا يعذره إذا طلب لبلاده تعليمًا أنفع من هذا التعليم الذي لا
يقصد منه إلاَّ تكوين المتفرنجين؟ !
ومن المغالطة في تقرير اللورد قولُهُ: إن إبطال التعليم المجَّاني كان إلغاءً
لامتياز جائر؛ لأن الذين كانوا يعلَّمون مجانًا هم في الغالب أولاد الأغنياء، فإن
العدل في إزالة هذا الامتياز بما يوافق المصلحة إنما يكون بتحويل الامتياز عن
الأغنياء وتخصيصه بالفقراء , وما أسهل ذلك على الحكومة لو أراده القابضون على
أزمتها.
لو كانت الطريقة التي أزيل بها امتياز أولاد الأغنياء على أولاد الفقراء في
التعليم المجاني عادلة , لكان من العدل أن يمنع الماء عن الأراضي التي كان
الأغنياء يميزون فيها على الفقراء في الرّيّ حتى لا تزرعَ منها أرض فقير ولا غني ,
فإن العلم حياة النفوس كما أن الماء حياة الأرض.
لم يكن الشيخ محمد عبده راضيًا عن سياسة التعليم بمصر في وقت من
الأوقات. ففي زمن توفيق باشا حمل على نظارة المعارف حملةً قَلَمِيّةً منكرةً في
جريدة الحكومة الرسمية، ومقالاته في ذلك مثبتة في الجزء الثاني من التاريخ الذي
وضعناه له. وقد حمل ذلك الحكومة على الشروع في إصلاح التعليم والتربية ,
ولكن جاءت من الثورة العرابية, فأوقفت كل عمل , وتلاها الاحتلال ونفى الشيخ من
البلاد. وبعد عودته رأى سياسة التعليم غير سديدة؛ فقدم لعميد الدولة المحتلة -
وإياك أعني أيها اللورد - لائحة [١] فيما يجب اتباعه في التربية والتعليم , فوضعت
في زوايا الإهمال.
لعل اللورد لم يَنْسَ أن الشيخ كتب في هذه اللائحة ما نصُّهُ:
(المدارس الأميرية ليس فيها شيء من المعارف الحقيقية ولا التربية الصحيحة) [٢] ... ... ...
ثم ذكر غرض محمد علي باشا من إنشائه لها , وما كان حظها من خلفه إلى عهد إسماعيل باشا , ولكن الشيخ ذكر ذلك حُجة على فَقْدِ التربية والمعارف الحقيقية منها , فجاء اللورد يذكره مِن بعدِهِ في تقرير ١٩٠٥ , ويجعله حُجة على بقاء ما كان على ما كان إلاَّ المجانية , فإنه يرى إبطالها بعد انتظام مالية الحكومة وامتلاء خزائنها! .
مَرَّتِ الأيام على موت هذه اللائحة والشيخ محمد عبده قاضٍ في المحاكم ليس له
طريق رسمي إلى دعوة الحكومة إلى إصلاح التربية والتعليم , وقد جرب طريق
النصيحة , فلم يجده موصلاً إلى المطلوب , فلما صار مُفْتيًا وعضوًا في مجلس
الشورى حاول أن يجعل مجلس الشورى وسيلةً إلى غرضِهِ , وبرأيه طلب بعض
أعضاء الجمعية العمومية سنةَ ١٩٠٢ أن تعرض قوانين ولوائح التعليم في نظارة
المعارف (بروجراماتها ومنشوراتها) على المجلس , ولم ينس اللورد تلك المناقشة
التي دارت في ذلك بين الشيخ محمد عبده وفخري باشا ناظر المعارف في الجمعية
العمومية (وقد بيَّنَّا ضعفَ أقوال الناظر يومئذٍ في المنار ص١١٠و١٤٩م٥) .
ثم إن الشيخ محمد عبده اقترح باسم المجلس في سنة ١٩٠٤ أن يعلم تاريخ
الإسلام باللغة العربية في المدارس التجهيزية. وقد ذكر في آخر تقرير له بشأن
امتحان مدرسة دار المعلمين الناصرية (دار العلوم) ضعف تعليم التوحيد والتفسير
والحديث فيها , فإذا كان تعلم المعلمين للدين ضعيفًا , فكيف يكون تعليم هؤلاء
المعلمين له؟ .
نكتفي بهذه المذكرات في بيان غَلَطِ اللورد في قوله: إن ما كتبه الشيخ محمد
عبده لمسيو جرفيل كان يعلم أنه لا أصلَ له فهي تذكره - إن كان ناسيا - أن لها أصلاً
أصيلاً مؤيدًا بالبرهان والدليل، ومن العجائب أن يكابر اللورد في هذا مع ما يعلمه من
مؤيداته الرسمية وغير الرسمية. فمن ذا كتب ما يعلم لأنه لا أصل له؟
الشيخ أم اللورد؟ اللورد يعرف ذلك إذا لم يكن السَّخَط قد أنساه تلك اللائحة التي قدمت
إليه , وتلك الحجج المدونة في المحاضر والدواوين الرسمية , وكلها ناطقة بأن الشيخ
محمد عبده لم يكن راضيًا من التعليم والتربية في مدارس الحكومة. فهذا
ما نقول في السبب الأول لسخط اللورد على الأستاذ الإمام وتغيير كلامه فيه.
* * *
(إفضاء الأستاذ الإمام لمستر بلنت بعيوب الاحتلال)
أما السبب الثاني لسخط اللورد على الشيخ , وهو ما ظهر له من أنه هو الذي
لقن مستر بلنت جُلَّ ما في كتابه (التاريخ السري للاحتلال) من عيوب إدارة
المحتلين بمصر [٣] , فهو مما يعذر فيه فإن هذا مما يغيظ السياسي والحاكم المطلق
حقيقة. وأي شيء يؤلم الإنسان أكثر من بيان عيوبه وإظهار سيئاته؟ ولكن يجب
على المؤرخ أن يعذر حافظي الوقائع التاريخية ورواتها ومدونيها. واللورد في
كتابه (مصر الحديثة) مؤرخ لا حاكم , فكان يجب أن يتذكر ذلك. ثم إذا كان هو في
تدوينه لتاريخ مصر لم يتحام القدح في أمرائها وعلمائها وجميع أهلها بِنَاءً على
أنه مؤرخ يجب عليه إظهار الحقائق - إذا فرضنا أن كل ما كتبه حقائق - فكيف
يسخط على من سلك طريقته، ومن أعانه على ذلك؟ أليس من العدل العام أن يدين
المرء كما يُدان؟
هذا ما يُقال من الجهة العامة. ويقال من الجهة الخاصة: إن مستر بلنت كان
صديقًا للشيخ محمد عبده , وكان كل منهما يثق بأمانة الآخر وإخلاصه؛ فبأي حقٍّ
يحجر اللورد على صديقين متجاورين أن يفضي كل منهما إلى الآخر بما في نفسه من
المسائل العامة أو الخاصة , ويكاشفه بشعوره لا سِيَّمَا إذا كان مؤلمًا له , والشاعر
الحكيم يقول:
ولا بُدَّ من شكوى إلى ذي مروءة ... يواسيك أو يسليك أو يتوجع
ألا إن منتهى الاستبداد، واحتقار حرية الأفراد أن يؤاخذ الناس بما يتناجون
به في زوايا بيوتهم، وما يسرونه لأصدقائهم ومحبيهم.
ثم إن اللورد يعلم - كما يعلم كل عاقل - أنه لا يخطر في بال الإنسان عندما
يحدث صديقة أن كل ما يقوله سيحفظ ويدَّون وينشر بين الناس؛ ولذلك ينتقد بعض
أهل الرأي على مستر بلنت ذكر مسائل وخواطر حدثه بها الشيخ محمد عبده ,
فنشرها وهي مما لا ينبغي نشره كتمني جمال الدين لو يقتل إسماعيل باشا , واستحسان
محمد عبده لرأيه، على أن هذه المسألة أصغر من القالب الذي وضعها لورد كرومر
فيه كما سَنُبَيِّنُهُ.
بقي علينا , وقد بَيَّنَا اختلاف قولي اللورد في الأستاذ الإمام , وسبب هذا
الاختلاف أن نبين الحق فيما لَمَزَهُ به , فنقول: إنه ينحصر بِحَسَب ما اطلعنا عليه من ترجمة الجرائد في ثلاث مسائلَ:
(الأولى وصفه بأنه خيالي)
قول اللورد في الشيخ: إنه كان مفطورًا على الخيال [٤] . لا يتفق مع قوله فيه
من الجهة العملية في الحكومة وغيرها أنه كان مصلحًا - ومن الجهة
السياسية والاجتماعية أنه أنشأ في مصر مدرسةً فكريةً , وأن أتباعه إذا نجحوا
وسوعدوا على ما اختطه لهم من المبادئ المعتدلة فيهم تصل البلاد إلى الاستقلال ,
وأنهم كالجيرونديين في أحزاب الثورة الفرنسية؛ أي: في الاعتدال والعقل , كما
لا يتفق مع قول المستشار القضائي الذي وافقه هو عليه - ومن الجهة العلمية
والشرعية أنه كان متضلعًا من علوم الشرع , مع ما به مِنْ سَعَةِ العقل واستنارة
الذهن.
ما هي الآراء الخيالية التي كان يبديها اللورد , فيتعذر عليها تنفيذها له؛ لأنها
خيالية لا عملية؟ لعله يَعْنِي بها تلك اللائحة [٥] التي اقترح بها عليه جعل التربية
الدينية أساس التعليم في المدارس والكتاتيب , وبيَّنَ له فيها أنه لا يصلح حال البلاد
المصرية وتكون بمأمن حتى من التعصب وفتنه إلاَّ بالتربية الدينية الصحيحة؛ لأن
الدين الإسلامي رائد الألفة ورسول المحبة.
إن كان يعني اللورد باتباع الأستاذ الإمام للخيال هذا الرأي الذي أوضحه أتم
الإيضاح في تلك اللائحة , وكان يظهر على لسانه شيء منه في كل فرصة
(كاقتراحه في مجلس شورى القوانين تعليم تاريخ الإسلام في المدارس التجهيزية)
فلماذا يسيء الظن بدينه , وهل تكون هذه الغيرة على الدين لضعاف الإيمان أو
للاأدريين؟
للورد أن يعد طلب التربية الدينية والتعليم الإسلامي أمرًا خياليًّا؛ لأن سياسته
في ذلك مناقضة لاعتقاد الأستاذ الإمام , فإن أحدهما يرى أن الإسلام الحقيقيَّ هو
منتهى الكمال البشري كما عرف ذلك عنه القريب والبعيد , وصرحت به المجلة
الفرنسية [٦] ، والآخر يمثل الإسلام بأنه آفة المدنية , ومقيد البشر بالقيود التي لا
يرتقون ما لم يتركوها ويتركوه معها. ويمكن أن يقال: إن تقديمه تلك اللائحة لعميد
إنكلترا وأمله بأن يقنعه بما فيها هو الأمر الخيالي , فإنه قد بالغ في تحسين الظَّنّ
بهذا العميد وبدولته حتى أراد أن يستعين بهم على إصلاح شأن الإسلام، وتخيل أنه
رُبَّما يصل إلى ذلك بالبرهان، على أننا نحن نعرف السبب في محاولته ذلك , وهو
أنه لَمَّا كان منتهى غرضه من حياته الإصلاح الديني بالتربية والتعليم , كان يتوسل
إلى ذلك بكل ما يخطر في البال أنه ممكن قائلاً: (إذا لم ينفع لا يَضُرّ) .
إذا كانت تلك اللائحة هي دليل اللورد على أن الرجل كان خياليًّا , فلا يبعد أن
يكون تقريره في إصلاح المحاكم الشرعية خياليًّا أيضًا في نظر اللورد؛ فإنْ لم يكن
التقرير نفسه خياليًّا فإلحاح كاتبه على اللورد بالسماح بالمال من خزينة الحكومة
لتنفيذه هو الخيالي , فإنه إنما سكت عن هذه المطالبة حين قال له اللورد: (إنني لا
أعطي قرشًا واحدًا للمحاكم الآن) , كما أخبرني بذلك الأستاذ الإمام في وقته , وقال:
إنه هكذا قال: لا أُعْطي , بضمير المتكلم , وهكذا يقول: فليقل لنا اللورد أي شيء
في ذلك التقرير يُعَدُّ من الخياليات , أو من الأماني والأحلام التي هي غير ممكنة في
ذاتها؟ ولكن يمكن لمن أساء الظن باللورد وحكومته أنْ يقول: إنهم لا ينفذون
تقريرًا فيه إصلاحٌ لِمحاكمَ شرعيةٍ وراء إصلاحها إصلاح كبير للبيوت الإسلامية؛
لأن من سياسة إنكلترا موتَ الشرع في مصر وإبطالَ ثقة المسلمين به , حتى إن لورد
كرومر الذي يُعَدّ من خيارهم يرى مطالبته بإصلاح المحاكم الشرعية من الخيالات
والأوهام، أو من الأماني والأحلام، إذا قال من يسيئون الظن باللورد وحكومته مثل
هذا القول؛ أفلا يكون رمي الشيخ محمد عبده بأنه خيالي رميًا للورد وحكومته بما
هو شر من ذلك؟
نَعَمْ , إنه كان للأستاذ الإمام آمال في حسن مستقبل الإسلام قد يعدها حتى
بعض المسلمين من الأماني والأحلام، فإن منها أنه سينتشر في أوربا نفسها في يوم
من الأيام، ولكن هذه الآمال مما لا أظن أن لورد كرومر قد علم بها؛ إذ لو علم بها
ظن أو خشي أن يكون الشيخ (لا أدريًّا) , فإنها آمال مبنية على الإيمان بصدق
وُعُود القرآن أولاً، وعلى فلسفة دقيقة في طبيعة الأديان وطبائع البشر ثانيًا، فهو قد
كان يقول على رءوس الأشهاد في قوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ
الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ} (النور: ٥٥) الآية.
إن هذه الآية لم يأت تأويلها بعد، ولا بُدَّ أن يأتيَ ولو بعد حين , وإن كان بعيدًا
فهل تكون هذه الثقة بوعد في القرآن كهذا (قيل: إنه قد حصل) من رجل (لا
أدريّ) ؟
نحن أعرف بالأستاذ الإمام من لورد كرومر فإننا نعرف عنه كل شيء واللورد
لا يعرف عنه إلا أشياء محدودة منها بعض الآراء في مصلحة مصر , وكان صاحب
هذه المجلة من بطانته ومواضع سره , ولا أعرف عنه شيئًا يمكن اللورد أن يستدل
به على كونه كان مفطورًا على الخيال غير ما ذكرت من مطالبة اللورد بالمساعدة
على التربية الإسلامية وإصلاح المحاكم الشرعية إلاَّ أن يكون ذلك توجه همته إلى
إصلاح الأزهر , ولكن كل ما تشبث به من الإصلاح كان عمليًّا وقد نفذ شيء كثير
منه كما هو مدون بالتفصيل في كتاب (أعمال مجلس إدارة الأزهر في عَشْرِ سنين) ,
وما لم يتم منه لم يكن المانع من تمامه كونه خياليًا , وإنما كان له مانع آخر يعرفه
اللورد , وكثير من الناس وليس هذا المقام بمحل لذكره.
نعم , إنه كان للأستاذ الإمام آمال في الأزهر هي أعلى وأسمى مما تشبث به
من مبادئ الإصلاح التدريجيه - آمال لها ارتباط قوي بآماله في الإسلام , وهي
تربية رجال يعرفون حقيقةَ الإسلام ويقدرون على بيانها والدفاع عنها بالكتابة
والخطابة ليكون منهم دعاة يدعون جميع الأمم إليه، وهداة يهدون جميع
طبقات أهله إلى ما جهلوا منه، ولكن العوائق التي اعترضته في طريق الإصلاح
حالت دون الدعوة إلى هذا المقصد أو إلى مقدماته الأولية، وما أظن أن اللورد كان
مطلعًا على هذا وإلا لَمَا خطر في باله أن يكون الرجل (لا أدريًّا) .
أما المسائل المتعلقة بالقضاء أو الإدارة فعهدي أن آراء الأستاذ الإمام فيها
كانت تعجب اللورد سواءٌ عمل بها كعدوله عن إلغاء النيابة العمومية عَمَلاً برأيه , أو
لم يعمل بها كمشروع الجنايات الأخير الذي طالت فيه المناقشة بينهما , ولكن بعد أن
كان اللورد قد أشرب المشروع في قلبه , وإن أكثر النابغين من رجال القضاء كانوا
على رأي الأستاذ الإمام في معارضة المشروع.
وما ذهب إليه المؤيد في تأويل كلمة اللورد من أن الشيخ كان يحاول القبض
على السُّلْطَتَيْنِ , فيجعل الأمير وعميد الاحتلال معًا في يديه , فهذا من آراء صاحب
المؤيد التي لم تخطر للورد على بالٍ فيما يغلب على ظني.
(الثانية ظن اللورد أنه لا أدريٌّ)
نبز اللورد الأستاذ الإمام بلقب (اللاأدري) [٧] وهو قد أخذه من ستانلي على
أنه لم يجزم به , فقد ترجم المؤيد عبارته فيه بكلمة (وأخشى) أن يكون كذا ,
وترجمها بعض الجرائد (وأظن) أن يكون كذا. وهذا من الظن الذي قال الله فيه
{إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} (الحجرات: ١٢) , وقد قال بعض العلماء النابغين من
مريدي الأستاذ الإمام: إن اللورد قال هذه الكلمة لينفرنا من طريقة المرحوم الدينية ,
ولكننا لا نترك ما عندنا من اليقين فيه لأجل ظن لورد كرومر.
أما أنا فأقول: إن قاعدة ستانلي التي استنبط منها اللورد كلمتَه هي من
المسلمات عندهم فينا , وهي: (إن المسلم من الطبقة العليا لا بُدَّ أن يكون أحد اثنين:
متعصبًا أو ملحدًا في سِرِّهِ) وعندنا قاعدةٌ مثلها كنتُ أسمعها وأنا تلميذ مبتدئ ,
وهي: (إن النصراني المتعلم ملحد لا دينَ له , فإنْ تعصَّبَ لقومه وأهل دينه فإنما
يتعصب لهم تعصبًا جنسيًّا) ومما كنا نسمعه من آبائنا وبعض مشايخنا: (أن مما
يمتاز به الإسلام على النصرانية المعروفة أن المسلم يزداد قوةً في الإسلام كُلَّمَا ازداد
سَعَةً في العِلْم , وأن النصراني إذا تعلم العلوم مَرَقَ مِن الدِّين؛ ولذلك كانت مدنية
المسلمين وعلومهم في حياةٍ ونموٍّ أيامَ كان الإسلام حَيًّا في نفوسهم في أول نشأتهم ,
ولم يصر للنصارى عِلْم ولا مدنية إلاَّ بعد ضعف الدين وزعزعته عندهم) فالأمم
والمِلَل تتشابه في حُكْم بعضها على بعض.
قد ذكرنا دليل المسلمين على قاعدتهم من الجهة النظرية , ويؤيدونه من الجهة
الحِسّيّة بحال من يعرفون من النصارى المجاهرين بالإلحاد , وكثير ما هم. ولما
كان النصراني يعتقد بطلان الإسلام اعتقادًا تقليديًّا إن كان متدينًا واعتقادًا نظريًّا إنْ
كان مُلْحِدًا - كان للملحد منهم أن يظن بهذا الدليل النظري أن المسلم العاقل المطلع
على العلوم والفلسفة لا بُدَّ أن يكون ملحدًا , ولا يعدمون من المسلمين المتفرنجين من
يجاهرون أمامهم بالكفر , ويسكرون معهم في نهار رمضانَ , فيؤيدون دليلهم بالحس
ولا يعلمون أن هؤلاء الذين يظنون أنهم قد ألحدوا بعد إسلام لم يعرفوا يومًا ما من
الإسلام شيئًا.
قد عرفت رجلاً من فضلاء الإنكليز , ذوي التربية العالية فيهم , وجرى بيني
وبينه مناظرات كثيرة في المسائل الدينية , فكان كلما سمع مني جوابًا عن شبهةٍ مِنَ
الشبه التي يوردها على الدين مطلقًا , أو على الإسلام خاصّة يقول: إن ما تقوله
معقول , ولكنه فلسفة لا دين , وما أظن أن علماء الأزهر يقولون به لو سئلوا هذا
السؤال. وقال لي مَرَّةً: (إنْ كان الإسلام ما تقرره فأنا مسلم) . وقال لي مَرَّةً بعد
كلام قُلْته في الإسلام: (إنني أنا أعتقد هذا , فإما أن أكون مسلمًا , وإما أن تكون
كافرًا) وقال لي مرة: (ما أظن أحدًا يوافقك على هذا الاعتقاد في الدين إلاَّ الشيخ
محمد عبده) ولا يبعد أن يكون ظنه فينا كظن اللورد في الأستاذ الإمام. وقد
ذكرت في المنار سؤاله إيَّايَ في رمضان: هل تصوم؟ وعن جوابي له , وما
ذكرته له من حكمة الصيام وإعجابه به.
وقد دعاني غير واحد من فضلاء النصارى للغداء في رمضان , وعرضوا
عَلَيَّ القهوةَ مِرارًا كثيرة , فكُنتُ أقولُ متعجبًا: أَوَنَسِيتُمْ أَنَّنَا في رمضانَ؟ فيقولون:
أَوَأَنْتَ تَصُومُ أيضًا؟ فأقول: أي شيء يبيح لي الفِطْرَ ولستُ مريضًا , ولا على
سفَرٍ؟
ولكن إذا كان الملحدُ من النصارى هو الذي يظن أن المسلم العاقل لا بُدَّ أن
يكون إسلامُه ظاهريًّا وهو يسرّ الإلحاد في قلبه؛ فهل اللورد ملحد أم هو مقلد لستانلي
في قاعدته من غير دليل ولا فكر؟ وكيف يتفق هذا مع شهادته للشيخ محمد بيرم
بالإيمان والعقل جميعًا؟
قال اللوررد بعدما ذكر أنه يخشى أن يكون الشيخ محمد عبده لا أدريًّا (وإن
كان يستاء من هذه النسبة) فقوله هذا يشعر بأنه ذكر أمامه ما يدل على أنه يظن
فيه هذا الظن تصريحًا أو تلويحًا , فاستاء وامتعض، وتبرأ من ذلك , وأنكره؛ وكيف
لا ينكره على اللورد مستاءً , وقد كان أعز شيء عليه وهو الذي جعله لا يخاف في
الحق لومةَ لائم , وهو الذي جعل السياسة مأيوسًا منها عنده , فكان جُلُّ قَصده من
معرفة رجالها ومداراتهم الاستعانة بهم على خدمة العلم والدِّين من جهة , وخدمة
مصر من جهة أخرى , فكان يتردد على الأمير ليستعين به على إصلاح الأزهر ,
ويختلف إلى اللورد ليستعين به على إصلاح المحاكم والمعارف وغير ذلك من
المصالح التي شهد له اللورد بالوطنية الصادقة لسعيه لديه فيها، كان يستجديها معًا
لمصر وللإسلام , وقد أعطى كل منهما قليلاً وأكدى. فلا عجب إذا جاءت كلمة
اللورد في دين الأستاذ الإمام غَثَّةً باردةً , تتضاءل في طِمْرِ بَالٍ , فإنها عبارة عن
ظَنٍّ لم يستيقنه، في موضوع لم يعرفه.
(الثالثة استحسان قتل إسماعيل باشا)
نقل اللورد عن كتاب التاريخ السري للاحتلال أن السيد جمال الدين كاشف
الشيخ محمد عبده بفكرةٍ خطرت له وهي قتل إسماعيل باشا عند مرروه على
(الكبري) إذ كان يمر كلَّ يوم عليه , وأن الشيخ محمدًا استحسن ذلك , ولكن الأمر
لم يتجاوز الكلام بينهما [٨] أي: لم يكاشفا به أحدًا لاعتقادهما أنهما لا يجدان من يتجرأ
على ذلك.
كبر اللورد هذه المسألة وعظمها , ووجه قوة عقله المنطقي الأوربي الإنكليزي
للاستنتاج منها , فكانت نتيجته (أن العالَم المتمدن كله ينظر بعد هذا إلى الوطنيين
شزرًا! ! ويحتقر بالأكثر أولئك الفلاسفة الذين لا يتأخرون عن تعزيز مقاصدهم السياسية بمثل ارتكاب القتل) .
ربما يسهل على أضعف الشرقيين الذين يقول اللورد عنهم: إن عقولهم غير
منطقية. فهي ضعيفة الاستنتاج والاستنباط , بل على أضعف المصريين الذين يعدهم
من أضعف الشرقيين عقولاً واستنتاجًا أن يفنّدوا أمثال هذه النتائج التي استخرجها
ذلك العقل الغربي المنطقي الكبير. فلو سألنا أحد لابسي الجلابيب الزرقاء من
فلاحي مصر والفيلسوف سبنسر والفيلسوف أرسطو: هل تقولون: إن تفكر رجل
غريب كالسيد جمال الدين الأفغاني في قتل أمير ظالم كإسماعيل باشا , واستحسان
تلميذ له كمحمد عبده المصري لفكرته وهو شابّ في سِن الطلب والتحصيل ينتج
وجوب احتقار العالم المتمدن لهما , وللوطنيين المصريين دائمًا؛ لأن تلميذًا منهم
استحسن من زُهَاء ثلاثين سنة قتل أمير خرّب بلاده ومهد للأجانب احتلالها؟ ؟
لو سئل الثلاثة هذا السؤال لأجاب الفلاح المصري وأشهر الفلاسفة المتقدمين
وهو أرسطو مؤسس علم المنطق , وأشهر الفلاسفة المتأخرين وهو سبنسر بجواب
واحد وهو أن الوطنيين لا يلحقها ذنب ولا لوم من تلك الفكرة إن فرضنا أنها فكرة
تنافي المدنية، وأن المنطق يتبرأ ممن يقول بمثل هذه النتيجة.
وفد السيد جمال الدين على مصر في سنة ١٢٨٦ وكان الشيخ محمد عبده في
سن العشرين (لأنه ولد سنة١٢٦٦) وكان همه من حياته إيجاد حكومة إسلامية
عزيزة قوية؛ فاستمال الناس إليه بالعلم والفلسفة حتى إذا ما اجتمعوا حوله بثّ فيهم
أفكاره السياسية بطريق تعليم الكتابة والخطابة حتى كون لنفسه حِزْبًا له ارتباط بولي
عهد الخديوية (توفيق باشا) وكان إسماعيل باشا هو العَقَبة الْكَئُود في طريق
الإصلاح المطلوب له , فهل يعدّ من الغريب عند الأمم الممدنة أن يتمنى إزالتها أو
يفكر فيها , فينظر العالم الممدن إلى جميع الوطنيين المصريين الآن النظر الشزر؛
لأن من علمهم السياسة وطلب الإصلاح فكر في ذلك منذ ثلاثين سنةً؟ .
يالله مَن هذا العالم المدني الذي لم يفكر في مثل هذا قط: ما هو وأين هو؟
أليس هو العالم الأوربي الذي قتل من الملوك والرؤساء في بلاده واحدًا وعشرين
ملكًا ورئيسًا في مدة لا تتجاوز قرنًا من الزمان [٩] , وَنَعْنِي بالرؤساء رؤساءَ
الجمهوريات الذين تبعتهم أقلّ من تبعة الملوك.
إن خطور الذنب بالبال ومكاشفة بعض البطانة به قد يكون تمنيًا لا يصل إلى
درجة العزم، وقد يعزم الإنسان على الشيء حتى إذا ما هَمَّ بمباشرته راجعَ نفسه
وثنى عزمه , فرجع عنه نادمًا، فَلَيْتَ شِعْرِي ماذا كان يكون حكم لورد كرومر على
جمال الدين ومحمد عبده وجميع الوطنيين المصريين الذين يودون استقلال بلادهم
لو وفق السيد جمال الدين يومئذ إلى تنفيذ ذلك الخاطر؟ ؟
أما كون السيد جمال الدين كان يعمل في مصر عملاً سياسيًّا , فهذا مما لا
يجهله لورد كرومر , ولا أحد من سَاسَةِ إنكلترا وفرنسا الواقفين على أحوال مصر
الأخيرة، وهم يعلمون أنه إذا ترك السعي لقتل إسماعيل باشا فإنه قد سعى لعَزْلِهِ.
قال الأستاذ الإمام في كتاب تاريخ الثورة العرابية الذي عهد إليه بتأليفه الأمير
عباس حلمي الثاني في سياق الكلام على السعي في عزل إسماعيل باشا , وذكر
إرسال فرنسا موسيو تريكو مأمورًا فوق العادة؛ ليتحد مع وكيل إنكلترا بمصر على
ذلك ما نصه:
ولكن كان الناس كافَّةً في شوق إلى رؤيته (أي: إسماعيل) بعيدًا عن كرسي
الخديوية، وطلاب الحرية من الأهالي كانوا يترددون على رئيس الوزارة
المصرية يظهرون له الميل إلى جَناب الخديو السابق توفيق باشا رحمه الله ,
وكانت بينه وبين السيد جمال الدين مكالمات ومخابرات في هذا الأمْر , فسعى هو
والكثير من الأعيان عند شريف باشا حتى يقنع الخديو الأسبق بوجوب التنازل (عن
الخديوية) , وقد فعل , فأشار عليه بأن رفض الطلب لا يفيد , وأن الدولتين لا بُدَّ
أن تنالاَ ما تطلبان عاجلاً أو آجلاً , والفكر في الحرب رأي طائش , فإن الناس
عمومًا في انحراف عنه , فإذا حصل حرب خذله الجيش في أول واقعة , وكانت
عاقبة ذلك أشنعَ، وإن أمسَّ شيء بالصواب أن يحوَّل الأمر على السلطان.
ثم ذهب وفْد من المصريين ومعهم السيد جمال الدين إلى وكيل دولة فرنسا ,
وأبانوا له أن في مصر حزبًا وطنيًّا يطلب الإصلاح , ويسعى إليه , وأن الإصلاح
المطلوب لمصر لا يتمُّ إلاَّ على يد وليّ العهد توفيق باشا , وانتشر ذلك في القاهرة
وغيرها، وتناقلته الجرائد وهي أول مرة عرف فيها اسم (الحزب الوطني الحر)
اهـ المراد منه.
إن لورد كرومر يعلم هذا , ويعلم أن إسماعيل باشا لم يكن أمثلَ من أولئك
الملوك الذين قتلهم العالم المتمدن وآخرهم ملك البرتغال بل ولا من أولئك الذين
ثاروا عليهم وقتلوهم بمحاكمة , أو بغير محاكمة , ومنهم شارل الأول ملك الإنكليز ,
الذي قامت في وجهه الثورة الأهلية المشهورة وانتهت بقتْلِه. وإن اغتيال ملك أو أمير
مخرب للبلاد، ظالم للعباد، مضيع للملك، مهلك للحرث والنسْل أهون في نظر
الفيلسوف من القيام بثورة عليه تسفك فيها دماء الألوف الكثيرة من الشعب، ثم يقتل
الملك بعد ذلك بمحاكمة صورية أو حقيقية إن لم يقتل اغتيالاً.
إن ما شرحه لورد كرومر في تاريخ (مصر الحديثة) من فظائع إسماعيل
باشا كافٍ في بيان كونِهِ أسوأَ حالاً من الملوك الأوربيين الذين ثارت عليهم رعيتهم
بتدبير فلاسفتهم وعقلائهم؛ فأين من إسماعيل باشا لويس السادس عشر وشارل
الأول.
قد مثل الأستاذ الإمام في تاريخ الثورة العرابية حالة مصر التي تركها عليها
إسماعيل باشا تمثيلاً تلطف فيه واستعمل الرأفة التامة في الحكم؛ لأنه كتب ذلك
لحفيده الأمير الحالّ كتابة حاول فيها الإعلام مع توقي الإيلام , فقال:
شئون البلاد المصرية في شهر رجب سنة ١٢٩٦ هـ
تولى الجناب الخديو السابق توفيق باشا بعد أن تداخل دولتا فرنسا وإنكلترا في
شئون البلاد المالية , وارتبطت الحكومة معها بعقود ووعود عدت قوانين وأصولاً
يجب احترامها.
- وبعد أن كان قد أفضى الأمر إلى تعيين وزيرين , أحدهما إنكليزي للمالية ,
والآخر فرنساوي للأشغال العمومية في أواخر عهد إسماعيل باشا.
- وبعد أن كادت أحكام المحاكم المختلطة تئوي بتنفيذها إلى إشهار إفلاس
الحكومة، وأدت بالفعل إلى انتزاع أملاك كثير من ذوي الثروة من الأهلين.
- وبعد أن كان موظفو الحكومة من أية طبقة كانوا في اضطراب من حالتهم
المعاشية؛ لتعود الحكومة على تأخير دفع المرتبات لأربابها أشهرًا.
- وبعد أن صار رجال الحكومة في درجة من الغفلة عن مصالح البلاد إلى
حدِّ أنهم كانوا لا يفهمون للوظائف مَعْنًى إلاَّ أنها وسيلة لِتحصيل النقود من الأهالي
بأيَّة طريقة , لِيُدَسّ منها شيء في جيوب المباشرين للتحصيل , ويرسل الباقي إلى
خزائن الخديو أو إلى صناديق بعض المحتفين به، والمقربين إليه.
- وبعد أن صارت الجندية في البلاد صورةً لا يعقد بها دفاعٌ ولا حمايةٌ وإنما
يُراد بها الظهور بعظمة الملك , فلم يكن فيها تربية عسكرية ولا تدريب حربي ,
وكثيرًا ما كانت في حفر التُّرَع , وإقامة الجسور للمنافع العامة أو الخاصة , وكان
المرجع في بعض الحروب إلى ضباط من الأجانب كانوا أركان حربها، وعليهم
المعوَّل في أغلب شئونها.
- وبعد أن فتح على الأهالي أنفسهم باب الإسراف والرَّفَهِ في المعيشة تقليدًا
للمقربين من مسند الخديوية ومن يليهم , وذلك قبل أن يعرفوا لنفقاتهم ميزانًا صحيحًا
يعادلون به بين ما بأيديهم من الأموال وما ينفقون في اللذات.
- وبعد أن نشأ عن هذا وعن شَرَهِ الحُكَّامِ في التحصيل وعدم رعايتهم لِمَا عليه
الأهالي مِن غِنًى وفقر , واستعمالهم أشد العقوبات في سلْب ما بأيديهم أن اضطر
الأهالي إلى التداين بالربا الفاحش , حتى كان صاحب الأرض يأخذ مِن المرابي
المائة بمائة في ثلاث أشهر , ولم يكن يرى في ذلك عيبًا , ولا يخشى عاقبةً , فإن
أمامه القدوة العظمى , وهي الحكومة تستلف النقود بمبالغ من الفائدة لا يمكن لِعَقْل
عاقلٍ تصديقها لو نُسِبَت إلى حكومة ما لو لم يَرَهَا بِعَيْنِهِ.
- وبعد أن صار للربويين بذلك سُلْطَةً على الأهلين وطمع في أموالهم،
يفوقان سلطة الحكام وطمعهم.
- وبعد أن تعود كثير من الذين يسمونهم أكابر البلاد وأعيانها، أو ذوات
الحكومة وأمراءها، على أن ينالوا من الحكومة ما يشتهون في الوقت الذي يريدون
متى صادفوا مكانًا مِن رِضَى الخديو , أو بعض المقربين إليه , فكانوا يُسَخّرون
الأهالي في أعمالهم الخاصة , ويتصرفون فيهم كما يتصرف الراعي في ماشيته
بدون أن يراعي أحد منهم في ذلك نظامًا ولا عدلاً , ولا استبقاء منفعة من يوم إلى
آخر , وتعود الأهالي على الشكوى إلى الله وَحْدَهُ مِن ضِيق الحال , وخمود العزائم
وانطفاء مصابيح الرُّشْد في جميع الطبقات.
- وبعد أن صار كل واحد من الناس في خوف دائم , واضطراب لا يهدأ على
نفسه وما بيده، إذا تكلم تَتَعْتَعَ في كلامِه، وإذا قصد أمْرًا خَطَا إليه على هدى
يتلفت وراءَه خوفَ مفاجأته بما يكره.
- وبعد أن كانت الفاقةُ قد شملت جميع الطبقات الدنيا والوُسطى حتى خِيفَ
القحط العامّ لو استمرت الحكومة على سيرها الماضي سنة أخرى من الزمان.
- وبعد أن صارتْ عيون الناس بأسرهم شاخصةً إلى ما عساه ينزل من
السماء لِيَمُدهم بالمعونة على الخروج مما هم فيه.
هذه كانت حالة البلاد عندما تولى المرحوم توفيق باشا مسند الخديوية فيها،
هذه كانت شدائد مهلكة، وظلمات حالكة، يضلّ فيها الرشيد، ويتعثر فيها العزم
الشديد. اهـ المراد مما كتبه هناك.
وقد استطرد منه إلى بيان اعتقاد أهل مصر في حكامهم إلى ذلك العهد , ثم إلى
بيان ما أحدثه السيد جمال الدين من الانقلاب في الأفكار , وقد سبقت الإشارة إليه،
وكان كل ذلك من مبادي الحوادث العرابية ومقدماتها، وإن شئت قلتَ من عللها
وأسبابها، فكل ما كتبه عن سوء حال البلاد في حكم إسماعيل لم يكتب على سبيل
القصد , ولم يرد منه الاستقصاء في بيان الحال، فَضْلاً عن المبالغة في التقبيح
والتنفير، فهل يُلاَمُ من له عقل يفكر، وقلب يشعر، إذا مقت ذلك الأمير، وتمنى
لو يغتاله أحد من أولئك المظلومين المقهورين , أو استحسن تمني من تمنى ذلك؟
* * *
(الشيخ محمد عبده وموقف حزبه بمصر)
وهناك مسألة أخرى عدها بعض الناس قدحًا من اللورد في الشيخ محمد عبده
وحزبه , وهي قوله فيهم: إنهم (أدنى من المسلم المحافظ في إسلامهم , وأدنى من المصري المغالي في تفرنجه) [١٠] . والحق أن هذه العبارة لا ينتقد منها لفظها , فهي
مدح كتب في حال استياءٍ وامتعاضٍ , فجاء شبيهًا بالذم؛ إذ توهم أنهم دون الفريقين
في علم أو فضل , ومعناها الحقيقي أن هؤلاء القوم وَسَطٌ بين طرفين مذمومين؛
طَرَف المتشددين في المحافظة على الرسوم والتقاليد القديمة باسم الدين , وطرف
المتغالين في تقليد الإفرنج الذين أضاعوا دينهم وثروتهم في ذلك , وقد بالغ اللورد في
ذمهم. ولم يرد اللورد بهذه العبارة إلاَّ ما أوضحه في تقرير سنة ١٩٠٥ من أن حزب
الشيخ محمد عبده هو الحزب المعتدل في مصر , الذي يناط بنجاحه استقلال
هذه البلاد الاستقلال الحقيقي , فلا فَرْقَ بين عبارته في التقرير وعبارته في التاريخ
في بيان المراد إلاَّ أن إحداهما كتبت في حال رضى , فمثلت المعنى مضيئًا واضحًا ,
والثانية كُتِبَتْ في حال السَّخَطِ , فغشي المعنى غاشية من ظلمة الإيهام.
وقد زلَّ قَلَمُ اللورد بسوء تأثير وجدان السخط زلةً أشنعَ مِن هذه , لعله إذا
ذكرها يعرق من الخجل , وهي أنه ذكر في التقرير أن توفيق باشا صفح عن الشيخ
محمد عبده (طبقًا لما اتصف به من الحلم وكرم الخلق) [١١] , وقال في كتاب
مصر الحديثة: إنه عفا عنه (بما فطر من مكارم الأخلاق , وانقيادًا لتشديد الإنكليز
عليه في ذلك) [١٢] , فزيادة انقياده لتشديد الإنكليز نقضت ما قبلها الموافق لِمَا ذكر
في التقرير , فإن العفو إذا كان عن انقياد لتشديد الإنكليز لا يكون عن حلم وكرم
خلق , وإلا فلا أثرَ لتشديد الإنكليز بل لم يكن هناك حاجةٌ إليه.
فاللورد جدير بأن يخجل من هذه العبارة إذا قابلها بعبارة تقريره في المسألة؛
لأنها جعلت كلامه متناقضًا أو متعارضًا , وأبانت أن يحابي في المدح عند الرضى ,
فإنه جعلَ عَفْوَ توفيق باشا عن الشيخ محمد عبده عند رضاه عنهما معًا كَرَمًا وحلمًا
وكرم خلق , فلما سخط من الثاني جعل ذلك العفو ناشئًا عن تشديد من الإنكليز في
طلبه لا عن مجرد الطلب , فيُقال: إنه طلبٌ وافقَ حلمَ توفيق وكرم خلقه , وإنما
أراد اللورد بذلك أن يظهر فضله عليه؛ ليثبت أنه أساء إلى مَنْ أحسنَ إليه، بما
أظهر عن عيوب سياسة الاحتلال وإدارته لمستر بلنت. والمؤرخ المحابي متهم لا
يوثق بمدحه لمن يرضى عنه، ولا بذمه لمن يسخط عليه، على هذه القاعدة نقول:
إن ثناء اللورد على الشيخ محمد عبده في كتاب مصر الحديثة يعد بما فيه من الشوائب
منتهى الفضل , وشهادة اللورد به شهادة جديرة بالاعتبار والإيثار , وهو يلخص في
هذه الكلمات:
(١) أنه أحسن العمل في القضاء , وأدى الأمانة حقها.
(٢) كان واسعَ الرأي.
(٣) كان على علم ونباهة.
(٤) كان عدوًّا للخديويين والباشوات غير الصالحين.
(٥) كان وطنيًّا حقيقيًّا , ومن مصلحة الوطنية المصرية أن يكثر أمثاله.
(٦) أنه أسس في مصر مدرسةً فكريةً.
(٧) أن له في مصر حزبًا معتدلاً يجمع بين أصول الإسلام والمدنية.
(٨) أن أتباعه هم حلفاء المصلح الأوربي الطبيعيون الجديرون بمساعدته.
(٩) أن له برجرامًا لجَعْل مصر مستقلةً استقلالاً ذاتيًّا حقيقيًّا.
(١٠) أن تقدم أتباعه خير رجاء له في تنفيذ برجرامه هذا.
فَحَسْبُنَا من اللورد الشهادةُ بهذه العَشْرِ , ولا يضرنا معها ظنه أنه كان لا أدريًّا،
ولا جزمه بأنه كان خياليًّا، ولا إيهام عبارته أن حزبه الوسط دون كل من الطرفين
الذي هو وسط بينهما.
نعم كان حزب الشيخ محمد عبده معه , ولا يزال من بَعْدِه وسطًا بين
المحافظين الجامدين، والمتفرنجين المقلدين، ومنهم من هو أقرب إلى هؤلاء ومَن
هو أقرب إلى أولئك، أمّا الشيخ نفسه فقد كان من آياته أن أذكياء كل فريق من
المتفرنجين والجامدين يجلّونه مع احتقار كل منهما للآخر. وقد عرَفَ أصحاب
المقطم والمقتطف من كنه هذه المزية ما لم يعرفه اللورد , أو صرحوا بما لم يصرح
هو به؛ إذ قالوا في تأبينه بالمقطم (ع٤٩٥٢) ما نصه [١٣] :
فأول مزية امتاز بها الفقيد أنه كان في مقدمة كل فريق من الفريقين اللذين
انقسم إليهما المصريون في هذا العصر؛ فقد كان علمًا يهتدي بنور علمه فريق
المحافظين , الذين لا يروقهم غير ما جرى عليه المتقدمون كالعلماء والأئمة وطلبة
العلوم الدينية واللغوية ومن جرى مجراهم. وكان قائدًا للآراء ومدبّرًا للأفكار عند
الفريق الذي جعل شعاره التقدم والارتقاء من أبناء هذا العصر , الذين يرون أن
القديم لا يغني عن الحديث , وأن من لا يتقدم يتأخر , والسكون المطلق محال.
ونقول - ولا نخشى في الحق لومةَ لائم -: إن الفقيد فاق الأقران كلهم في هذه
المزية حتى انفرد فيها أو كاد , إلخ.
وكتبوا في الجزء الثامن من المجلد الثلاثين لمجلة المقتطف ما نصه [١٤] :
(وكان ذكي الفؤاد بالطبع , قوي الحُجة , حَسَنَ المحاضرة , لا يخاف في
الحق لومةَ لائم , ولا يتهيب الكبراء والعظماء لمجرد ما هم أو ما أدركوه من رفعة
المقام؛ فاستطاع أن يكون عَلَمًا يهتدي بنور علمه المحافظون الذين لا يروقهم إلاَّ ما
جرى عليه المتقدمون كأكثر العلماء وطلبة العلوم الدينية واللغوية ومن جرى
مجراهم؛ لأنه كان على ثقة فيهم - وعضدًا قويًّا لأبناء هذا العصر الذين استناروا
بالعلوم الحديثة والآراء الجديدة، ومرشدًا صادقًا للذين يطلبون الاستنارة بها
والسير في سبيلها) , إلخ.
هذا رأي أصحاب المقطم والمقتطف سقناه إلى اللورد؛ لأن مثبتيه غير
متهمين عند اللورد بقلة المعرفة , ولا بالتشيع للشيخ محمد عبده.
وإذا أراد اللورد أن يعرف مكان الأستاذ الإمام من نفوس أرقى الطائفتين
(المحافظين والمتفرنجين) فَلْيَقْرَأْ ما أَبَّنَهُ به الشيخ أحمد أبو خطوة أرقى الأزهريين
علمًا وفهمًا , وقاسم بك أمين أرقى المتعلمين في أوربا , واللورد يشهد بنبوغه وقد
أثنى عليه في خطبته التي ودّع بها مصر ذلك الوداع المشهور.
قال القاضي الشرعي الشيخ أبو خطوة في ابتداء كلامه: (اجتمعنا اليوم هنا
حوالي هذا القبر المجلل الموقر الذي انتهى إليه أمر الإمام الكبير الأستاذ الشيخ محمد
عبده) إلخ , ثم فصل إصلاحه للأزهر وللمحاكم الشرعية تفصيلاً.
وقال القاضي الأهلي قاسم بك في ابتداء كلامه: (مهما قَلَّبْنَا النظرَ , ودققنا
في البحث والتفتيش فلا نجد في أمتنا من يعوض علينا ما خسرناه بفقد أستاذنا الشيخ
محمد عبده) وقال: إنه (وصل إلى أسمى مقام يمكن أن يناله إنسان في هذه الحياة
...... مقام الإمامة بأوسع معناها تركه الشيخ محمد عبده , ولا يوجد في مصر واحد
يجرأ على أن يدعي فيه استحقاقًا بعده) ثم قال:
(سادتي: إن كل نفس بشرية لها نصيب من الجمال والقبح، والجمال
المطلق لا يوجد في هذا العالَم , ولكن بعض النفوس الممتازة تقرب من الكمال أكثر
من غيرها , فتنمو زهرة الجمال فيها نموًّا عجيبًا , وتتكاثر فروعها، وتمتدّ طولاً
وعرضًا , ولا تترك محلاً لسواها فيضعف ويذبل كل نبات خبيث بجانبها. ومن هذا
القسم الممتاز كانت نفس إمامنا العزيز. نفس خلقت على أحسن شكل زينها
صاحبها بالفضائل حتى صارت مثالاً في الجمال , يجب أن نضعه دائمًا أمامنا لِنعلمَ
منه) كذا وكذا , وذكر بعض مزايا الإمام , ثم قال:
(ونتعلم منها أيضًا مبلغَ ارتقاء الخلق في إنسان أجهد نفسَه ورباها حتى
أرسلها إلى أقصى ما تصل إليه نفس بشرية من الجمال والكمال) .
وبهذا نكتفي في هذه المسألة التي يعرف منها طريق اللورد في الكلام عن
رجالنا , وننتقل منها إلى المقصد الأهم وهو كلامه في الإسلام والمسلمين , فنقول.
((يتبع بمقال تالٍ))