(١) كان من مقتضى ناموس الارتقاء أن تبلغ اللغة العربية الشأو الأعلى من التقدم بعد ظهور الإسلام، لكن هذه اللغة لم تخط مع تقدم الإسلام إلا بعض خطوات، حتى اعتورتها العثرات، وانتابتها الصدمات، ولولا أن الله تعالى قيَّض لها قومًا من الأخيار تداركوا الخرق قبل اتساعه لمحيت رسومها، وطمست حدودها، ولم يبق منها إلا ما بقي من بعض لغات الأمم البائدة - كالكلدانيين والآشوريين -، ولكن علماء المسلمين مع عنايتهم الكبرى في علوم اللغة، واشتغالهم بها عن علوم كثيرة كانوا في حاجة إلى التوسع فيها لم يتنبهوا في أكثر عصورهم للطريقة المثلى في التعليم التي تحفظ ملكتها في الألسنة، وتجري في ميدانها فرسان الأقلام، فخرجوا بالعلوم العربية عن الغرض منها، وسلكوا في قواعدها ومسائلها مسلك العلوم النظرية من: التعليل والتدقيق، حتى صار تحصيل ملكة هذه العلوم غير تحصيل ملكة اللغة في القول والكتابة، ثم اعتاصت الكتب المؤلفة فيها على الأفهام؛ لدقتها التي أشرنا إليها، والإيجاز المخل في متونها، والخلط في شروحها وحواشيها بين الفنون وكثرة الآراء التي ليست من الفن في شيء. فآل الأمر إلى قلة الطالبين لها، ثم إلى قلة من يحصل ملكة الفن من هؤلاء الطالبين، بل صار قصارى ما يصل إليه الطالب أن يحصل ملكة الفهم في كتبها، وعند ذلك يسمونه عالمًا أو علاَّمة في العربية (صاحب كرّاس) ، وإذا اتفق لأحد تحصيل ملكة الفن فإن ذلك لا يفيده في تقويم لسانه بالكلام العربي الفصيح، ولا يقتدر معه على الكتابة العربية البليغة؛ لأن ملكة هذه الفنون لابد في الحصول عليها من سلوك طريق آخر كما ألمعنا. ولقد تنبه جماعة من عقلاء هذا العصر وفضلائه إلى إحياء اللغة التي يئس الجماهير من إحيائها، وذلك بإصلاح كتب الفنون وطريقة التعليم (اللتين صارتا عقبة في طريق العربية) ، وبالتنبيه على الطريقة التي تطبع ملكة اللغة في النفوس بحيث تقتدر على الإتيان بالكلام العربي الصحيح من غير روية ولا تكلف. لكن الدهماء من أبناء أهل هذا اللسان لم يلتفتوا إلى هذا الإصلاح، بل منهم من يستنكره ذهابًا مع العادة أو ترفعًا واستنكافًا من الاستفادة. والساعون في إماتة هذه اللغة الشريفة مجدون في سيرهم، ثابتون في جهادهم، يقيمون العقبات، ويوالون الصدمات، والصدمة الجديدة التي أشرنا إليها في عنوان هذه المقالة هي: إحياء اللغة العامية المصرية، بجعلها لغة كتابة، لكن أتدري بماذا تكتب؟ تكتب بحروف إفرنجية اخترعت لها، والهمة مبذولة في نشر ذلك وتعليمه للمصريين. لهفي على اللغة العربية المقدسة. ألم يكفها تحقيرًا وامتهانًا أن المصريين ينشؤون الجرائد باللغة العامية؟ كان في الأمل أن كثرة الجرائد باللغة الصحيحة تكون من أنجح وسائل إحيائها، فقامت جريدة (الحمارة) و (اللجام) و (الغزالة) و (الشيطان) تعارض الإسلام، والمقتطف والهلال والمؤيد والأهرام والمنار، بل سقطت مجلة البيان الفصيحة، ونهضت الحمارة باللجام (واخجلتاه) ، ألم يكفها هذا حتى قام جماعة يسعون لتعميم تعليم اللغة العامية بحروف إفرنجية يقربون بها المصريين إلى تناول لغاتهم من حيث يبتعدون عن لغة علومهم ودينهم التي فيها عزهم وشرفهم. ومما يضحك الثكلى ويبكي المسْتَيْئِس الذي جاءته البشرى: قول صاحب الكراسة في بيان فوائد هذه الحروف: (والذين يرتئون استعمال هذه الحروف الجديدة لكتابة اللغة المصرية العامة التي يتكلمها سكان مصر على اختلاف طبقاتهم يحسبون أن نتيجة ذلك ستكون خيرًا عظيمًا على القطر المصري) . وقوله بعد بيانها: ونتيجة ذلك كله جعل الأمة المصرية أمة متعلمة عزيزة الجانب متحدة الكلمة. فليت شعري ما هي العلوم والآداب المودعة في هذه اللغة العامة التي ينتج حفظها في الكتابة الإفرنجية هذه العزة والمنعة، ويمنحها هذا الاتحاد في الكلمة، ومع من يكون هذا الاتحاد، هل هو مع سائر إخوان المصريين في اللغة من الحجازين والسوريين والمغاربة والعراقيين أم مع غيرهم؟ ؟ مَن أعطى هذه الخلابة بعض حقها من النظر تجلى له أن أهل هذا الاختلاب يعتقدون فينا الجنون والاختبال، وأننا فقدنا الإدراك والشعور بوجوه المنافع والمضار، فلا نفرق بين الخير والشر، ولا نميز بين الإصلاح والإفساد؛ فإن الغوائل التي أبرزها صاحب الكراسة في صورة الفوائد لا يمكن أن ينخدع بها عاقل مهما كانت مموهة الظاهر، وهي أربع، أشير إليها هنا إجمالاً، ثم أفصل الكلام في المناقشة عليها تفصيلاً في العدد التالي إن شاء الله تعالى، وهي: (١) تسهيل التجارة. (٢) تعميم التعليم. (٣) حفظ اللغة العربية (العامية) ، ولم يخجل مؤلف الكراسة عند ذكر هذه الفائدة من بيان أن اللغة العربية الصحيحة آخذة في الاضمحلال بتعلم اللغة الإنكليزية واللغة الفرنساوية، وأنه ينبغي الاعتياض عنها بلغة العامة. (٤) قلة نفقات الطبع وتوحيد اللسان بين الوطنيين والأجانب، وأن ذلك مما يقوي الوطنية (انتهت الفوائد) . وأنت ترى أنه ألحق بالفائدة الرابعة فائدة أخرى أهم منها، ولعله إنما عدهما فائدة واحدة، وجعل توحيد اللسان وقوة الوطنية تابعًا لقلة نفقات الطبع مع عدم المناسبة بينهما؛ لشدة ظهور الخلابة والخديعة في دعواه " قوة الوطنية بتوحيد اللسان العامي بين الأوربي والمصري ". وأي شيء يكون أوضح من بطلان دعوى من يدَّعي أن الشمس مظلمة، والطاعون الجارف نعمة، والعسل قوي المرارة، والحنظل شديد الحلاوة. وهَبْني قلت هذا الصبح ليل ... أيعمى العالمون عن الضياء وإذا صح هذا التعليل فإننا نشكر لحضرة المخترع اعتقاده أنه ربما يوجد عند البعض منا قليل من الفهم والتمييز يفطن به لخلابته هذه فأوردها في عرض القول وأخريات الكلام. ((يتبع بمقال تالٍ))