للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الكتب العربية والإصلاح

لا تسعد الأمة إلا بالأعمال النافعة التي يقوم بها أفرادها ولا يعمل أحد عملاً
إلا إذا كان يعتقد أن فيه منفعة ومصلحة , فأعمال الناس إذن تابعة لعلومهم ومعارفهم ,
والناس متفاوتون في العلم بالمصالح والمنافع؛ لأن القارئين يكونون أعلم بها من
الأميين , بل هم الذين يفيضون عليهم المعارف , ويلقنونهم إياها بطرق مختلفة
أعمها المذاكرة والعمل بها , وكل ما وراء البديهيات من المعارف يستفيده الناس
من الكتب , فنتيجة هذه المقدمات كلها أن الأمة لا يصلح حالها إلا إذا كانت الكتب
المتداولة بين أفرادها في التعليم والمطالعة مشتملة على ما فيه صلاحها وطرق
منافعها على الوجه الصحيح من حيث الأخلاق والآداب , ومن حيث الأعمال.
وهل الكتب التي في أيدي أمتنا لهذا العهد وعليها مدار معارف الأكثرين منهم هي
كذلك؟ كلا ثم كلا , بل هي بخلاف ذلك: كتب التعليم صعبة لا ترشد إلى العمل،
وكتب المطالعة ملأى بالمجون والخرافات والأوهام التي تفسد العقول والآداب بل
والدين أيضًا.
ألف آباؤنا الأولون كُتبًا نافعة في جميع العلوم والفنون أيام كانت أسواق العلم
في أمتنا نافقة وبضاعة المعارف فيها رائجة , ثم لما كسدت تلك الأسواق وعمت
الجهالة والبطالة؛ مالت النفوس إلى اللهو الباطل والهذيان وطلب المنافع والمصالح
من غير طرقها الطبيعية لِما لابس النفوس من الكسل، وظهرت فيها كتب الخلاعة
والمجون وكتب الأوهام والخرافات وكتب الروحانيات والطلسمات وراجت بضاعتها
ونفقت أسواقها؛ لأن الناس يميلون في كل عصر إلى ما يناسب حالتهم , وصارت
الكتب النافعة تخفى عن العيون وتختزل من الأيدي، حتى لم يبق منها بين الأيدي
بل في البلاد العربية التي أُلفتْ فيها إلا أقل القليل , وهي الآن محشورة في مكاتب
باريس ولندن وبرلين وغيرهم من عواصم أوربا وفي القسطنطينية جملة صالحة
منها لم تقدر أيدي أوربا على انتزاعها كما انتزعت الكتب النافعة من مصر
وسوريا , ولولا تنظيم الكتبخانة الخديوية أخيرًا على النسق الجديد لما بقي فيها
شيء من مهمات الكتب , ولا نعرف حال الكتب الإسلامية في الهند وبلاد فارس
على وجه يعتمد. على أنه لا يخلو مصر من الأمصار الإسلامية التي سبقت لها
الحضارة والعلم من بقايا من تلك الكتب غفلت عنها عين الزمان , ولم تصل
إليها أيدي الحوادث التي أودت بأخواتها , ونحمد الله أن وفق منا من ألفوا شركة
في مصر لإحياء كل ما يعرفونه من تلك الكتب بالطبع ليعم نفعها , لكن جميع
هذه الكتب النافعة التي أشرنا إليها إنما ألفت للمشتغلين بالعلم في الأغلب , فالذين
ينتفعون منها هم العلماء , وإن من علماء عصرنا من يهاب قراءة كتب الأئمة
المتقدمين لا سيما ما لم يكتب عليه الشروح والحواشي وهو الأكثر، فإحياء هذه
الكتب ونشرها على ما فيه من الفائدة العظيمة لا يغنينا عن نوعين من الكتب نحن في
أشد الحاجة إليهما إذا أردنا العمل للنهوض والخروج من الحضيض الضيق الذي
نحن فيه:
النوع الأول: كتب سهلة مختصرة في اللغة والدين والأخلاق والآداب
والتاريخ وسائر الفنون المتداولة في هذا العصر لأجل تعليم النشء الجديد، يراعي
مؤلفوها فيها أعمار التلامذة وأفكارهم وسائر ما يرشد إليه فن التعليم , وأساليبه
الحديثة التي ثبتت فوائدها بالتجربة والاختبار , ولقد بعثت الحاجة أو الضرورة
بعض أساتذة المدارس الأميرية وشبه الأميرية في مصر والمدارس الأجنبية في
سوريا إلى تأليف كتب ورسائل في فنون اللغة العربية , وبعض العلوم والفنون
الأخرى التي تعلم في هذه المدارس , ولكن لما يوجد منها ما يفي بالمراد , بل إن ما
نحن أحوج إليه هو الذي لم يكد يوجد منه عندنا شيء يعتد به ككتب العقائد
والأخلاق والعبادات ومبادئ علم الاجتماع وآداب اللغة العربية , ألا ترى كيف
تلقفت المدارس كتاب (الدروس الحكمية) عندما ظهر , وما ذلك إلا لأن مؤلفه ما
كتبه إلا عند ما رأى شدة حاجة المدرسة العثمانية إلى مثله أيام كان ناظرها , وما
تحتاجه إحدى المدارس تحتاجه سائرها لأن المطلوب واحد للجميع , وقد طلب مني
بعض أفاضل أعضاء الجمعية الخيرية الإسلامية أن أكتب رسائل في الدين على
الوجه المطلوب لأجل دراستها في مدارس الجمعية , ومن يشاء من سائر المدارس
الإسلامية , وسألبي الطلب إن شاء الله تعالى عن قريب.
النوع الثاني: كتب سهلة العبارة صحيحة المعاني لأجل قراءة العوام
ومطالعتهم , والكتب التي تتوجه إليها رغبات الناس ليست نوعًا واحدًا , وإنما هي
أنواع شتى منها القصص , وهذه على ضربين , الضرب الأول: القصص الدينية
كقصة المولد النبوي الشريف , وقصص الأنبياء , وقصة المعراج , وقصة فتوح
اليمن وقصة تودد الجارية وغير ذلك , وفي المنتشر بين الأيدي من هذه القصص
من الكذب على الله ورسوله وسائر أنبيائه ودينه العجب العجاب.
الضرب الثاني: القصص الوضعية كقصة عنترة العبسي وألف ليلة وليلة ,
ويسمون ما أُلف في هذا العصر من هذه القصص بالروايات , ومنها ما له أصل
زيد عليه , ومنها ما لا أصل له , وأكثر المتداول منها مشتمل على العشق والغرام
بحيث يُنتقَد , ويُخشى تأثيره في إفساد الآداب والأخلاق , والعصري يمتاز على
القديم بالنزاهة والخلو من ألفاظ الفحش والمجون , ولكنه مع ذلك قليل الجدوى لخلوه
غالبًا من الأفكار الصحيحة والإرشادات القويمة , ومنها كتب المناقب وحكايات
الصالحين , وفيها من الخرافات والأكاذيب ما يزلزل ركن التوحيد ويفسد الفكر
والعقل , ومنها كتب الأوراد والأدعية , وفيها من الشرور وأسباب الغرور ما نبهنا
عليه في العدد ٤٠ من المجلد الأول , وناهيك بدعاء عكاشة , والدعاء الذي طبعه في
العام الماضي عبد اللطيف القباج , وأمثالهما كثير , ومنها كتب الروحانيات
والطلاسم والتنجيم والعزائم , وفي هذه الكتب من المفاسد في الدين والدنيا ما لا سعة
في هذه المقالة لشرحه , ولكننا نشير إلى أهمه إجمالاً , فمن ذلك: تعليق الآمال
بحصول المنافع وقضاء الحوائج بغير أسبابها الطبيعية التي علقها الله تعالى بها , ومنه
طبع النفوس بطابع الخوف والجزع من مس الجن وملابسة الشياطين والعفاريت ,
وهذا الوهم يؤثر في النفوس , حتى إنه يولد فيها أمراضًا عصبية قد تؤدي بها إلى
الجنون , ويحملها على بذل المال للعرافين والدجالين الذين يدَّعون إخراج الجن من
المصروعين ونحوهم , ومنه تعويد العقل على التصديق بما لا دليل عليه , بل وبما
يقوم البرهان على بطلانه أو استحالته , وأي جناية على العقل الذي هو مشرق نور
الايمان وقائد الإنسان إلى جميع مصالحه أشد من هذه الجناية؟ ومنه رغبة المعتقدين
بهذه الخرافات عن معالجة الأطباء القانونيين لهم في أمراضهم لا سيما العصبية ,
والتجائهم إلى أصحاب الروحانيات والطلسمات , وإن تعجب فمن مثارات العجب أن
طلاب العلم في الأزهر الشريف هم أشد الناس تهافتًا على هذا النوع من الكتب , ومن
كان في ريب من هذا فليسأل الكتبخانة الخديوية؛ فإنها تنبئه بالخبر اليقين , هذا وهم
يقرءون في كتب الفقه تشديد الفقهاء في ذلك حتى إن منهم من رمى الآخذين بها
بالسحر أو الكفر (انظر فتوى ابن حجر في باب الآثار العلمية) .
والذي أقترحه في الكتب السهلة التي تؤلف للعامة أن تكون نزيهة لا مجون
فيها , وأن تكون مشتملة على التحذير من الخرافات والأمور المضرة بدلاً من
إقرارها والإغراء بها , وأن لا يكون فيها كذب على رجال الدين , لا سيما الشارع
صلى الله عليه وسلم , وأن تكون خالية مما يخالف عقائد الدين وآدابه وأحكامه ,
هذا ركن عظيم من أركان الإصلاح , وهو مطلوب من رجال العلوم وحملة الأقلام
لا من رجال السياسة والأحكام , فعسى أن تتوجه نفوسهم لإقامته خدمة لهذه الأمة
المرحومة والله ولي المحسنين.