للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


رئيس الولايات المتحدة والحرب
يتشوف العالم الآن للوقوف على ما عساه يحدث بين الولايات المتحدة وأسبانيا والأنظار كلها شاخصة إلى مستر ماكنلي رئيس جمهورية الولايات المتحدة،
وكتاب السياسة يقولون: إن الحرب والسلم بين يديه، وربما يخطر في بال القارئ
أن حكومة تلك البلاد جمهورية، والحكم في البلاد الجمهورية للأمة، والرئيس ليس
إلا منفذًا لما يقرره نواب الأمة وشيوخها. ونحن ننقل من القانون الأميركي ما يتعلق
بسلطة الرئيس؛ ليعلم القراء أن ما يقوله الكتاب هو عين الصواب، فنقول: إن
شرائع جمهورية الولايات المتحدة تختلف عن شريعة الجمهورية الفرنساوية وغيرها
اختلافًا كثيرًا. ذلك أن السلطة في تلك الولايات موزعة على أصحابها توزيعًا لا يدع
للبعض حق المداخلة في شؤون البعض الآخر. وغني عن البيان أن السلطات في
هيئة كل حكومة ثلاث: (تشريعية - وتنفيذية - وقضائية) ، فكل واحدة من هذه
السلطات منفصلة في أميركا عن الآخرين انفصالاً تامًّا، ولا يد لها ألبتة في غير
شؤونها الذاتية. فرجال السلطة التشريعية يضعون القوانين، ورجال السلطة
التنفيذية ينفذونها، ورجال القضاء يراقبون سير السلطتين. فلا يجوز مثلاً للوزراء
المداخلة بالشؤون التشريعية، كتقديم مشروع قانون إلى مجلسي الأمة، أو البحث في
أمر من أمورهما، بل ليس لهم دخول ذينك المجلسين ألبتة. وكذلك لا يجوز لرئيس
الجمهورية أن يعرض مشروع قانون على المجالس أو المداخلة بشؤونها التشريعية،
فإنه مع الوزراء أصحاب السلطة التنفيذية ولا يد لهم في الأمور التشريعية.
وقد يظن البعض بناء على ما تقدم أن رئيس الجمهورية آلة بيد المجالس
النيابية، والحقيقة أن له من السلطة القانونية ما ليس لكثير غيره من رؤساء
الحكومات الجمهورية.
فهو إذا أراد وضع قانون لم يقدم به مشروعًا إلى المجالس من عند نفسه، بل
يوعز إلى أحد أنصاره السياسيين من أعضاء مجلس الأمة أو السنات فيقترح هذا
العضو على المجلس الاقتراح المطلوب، فيضعه المجلس موضع البحث والمناقشة،
وبذلك يتم ما أراده الرئيس.
فهو إذًا قادر على اقتراح وضع القوانين، إن لم يكن مباشرة فضمنًا، وهذا ما
جرى أمس في مشروع العشرة ملايين جنيه التي قررتها المجالس للدفاع عن الوطن،
فإن الرئيس أوعز إلى صديقه النائب مستر كنون أن يقترح ذلك على المجلس،
فتم ذلك على ما نقلته إلينا الرسائل البرقية.
أما وقد علمنا الآن أن للرئيس حيلة في وضع النظامات التي يرى
لزومها، بقي لنا أن نعلم مقدار ما للرئيس من السلطة وما يكون من أمره عند
خروج أحد المجلسين عن سواء السبيل بتقريره ما لا ينطبق على المصلحة العامة،
وسياسة الرئيس.
نقول: إن للرئيس - والحالة هذه - سلطة الاعتراض على المجلس فيما قرره
وإرجاع قراره إليه ليعيد النظر فيه مشفوعًا برسالة منه يظهر فيه وجه الخطأ ورأيه
في الوجهة التي يجب على المجلس قصدها، مراعاة للحق أو للصالح العام. وعلى
الرئيس حينئذ أن يطبع صورة ذلك القرار والرسالة التي بعث بها إلى المجلس
وينشرها في البلاد، لتطلع الأمة عليها، وتبدي رأيها فيها. وعند بحث المجلس في
هذا القرار المردود لا يكون تقرير رفضه أو قبوله إلا بأكثرية ثلثي الأعضاء، وبعد
قراءته ثلاث مرات في المجلس، فإن بقي المجلس مصرًّا على قراره كان للرئيس
إرسال ذلك القرار للمجلس الثاني بالصورة الأولى بعد نشره، ونشر آرائه فيه،
لتقف الأمة عليها وتكون الحكم فيها. وغني عن البيان أن المجلسين لا يستطيعان في
هذه الحال أن يحكما حكمًا لا يرضاه الرأي العام؛ لأن الشعب لهما بالمرصاد وهو
الحكم الأعلى في تلك البلاد المتمدنة.
ومن المعلوم أن إشهار الحرب مختص بالمجلسين لا برئيس الجمهورية. غير
أن للرئيس حق الاقتراح ضمنًا، وحق الاعتراض مباشرة كما ذكرنا، فإن أراد
المجلسان إعلان الحرب الآن كان له أن يقترح على أنصاره الأعضاء أن يقاوموا
مريدي الحرب أشد مقاومة. فإن غلبوا على رأيهم وتقرر إشهار الحرب، كان
للرئيس أن يرد ذلك القرار للمجلسين ليعيدا فيه النظر، ويقرره بأكثرية ثلثي
الأعضاء لا بأكثرية قليلة بعد أن ينشر سلامة آرائه في المسألة. ولا يعدم حينئذ من
عقلاء الأمة الأميركية من يرون رأيه الصحيح في إيثار السلم على الحرب، والتمدن
على البربرة، فيتكاتفون على الوقوف في وجه من يريدون إضرام نار الحرب
للتشفي والانتقام، أو للربح من وراء المضاربة والالتزام.
ففيما مر بك تفسير لما رواه روتر من عزم أسبانيا على استرجاع سفيرها من
الولايات المتحدة حين تصديق الرئيس مكنلي على قرار مجلس الأمة. ذلك أنها ترى
في تصديق الرئيس إعلانًا للحرب، وقطعًا للأمل في السلم، أما تقرير المجلس فلا
تعبأ به إذ للرئيس مكنلي أن يرده بالصورة الآنفة.
إذًا صدق مَن قال بأن السلم والحرب بين يدي مستر مكنلي رئيس الجمهورية،
فحبذا لو يحقق آمال محبي السلام في تغليب الحلم والعقل على الطيش والجهل وحب
الانتقام.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... (ف)