للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


فتاوى المنار
(س٦-٣٦) من صاحب الإمضاء في بيروت
حضرة صاحب الفضل والفضيلة سيدنا ومولانا العالم العلامة الإمام مفتي
الأنام الأستاذ السيد محمد رشيد رضا صاحب مجلة المنار الغراء حفظه الله تعالى.
السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، وبعد: فإني أرفع لفضيلتكم الأسئلة
الآتية راجيًا التكرم بالإجابة عليها، ولسيادتكم من الله تعالى جزيل الأجر، ومني
عظيم الشكر.
(١) هل رفع الحجاب عن وجوه المسلمات الحرائر، وإظهار أكفهن ظهرًا
وبطنًا إلى الكوعين [*] خارج الصلاة في الطرقات والأسواق والمجتمعات العامة،
جائز في الشريعة الإسلامية أم لا؟
(٢) وهل صوت المرأة الأجنبية المسلمة الحرة عورة، يحرم على الرجال
سماعه أم لا؟
(٣-٦) وهل التزيي بلبس القبعة (ما يسمونها بالبرنيطة) للرجل المسلم
حرام أو مكروه أم لا؟ فإذا قلتم: حرام أو مكروه. فما الدليل على الحرمة
أو الكراهة؟ وهل يجوز للرجل المسلم أن يتزيا بلبس البدلة الإفرنجية (ما يسمونها
بالسترة والبنطلون) أم لا؟ وهل تجوز صلاة الرجل المسلم وهو متزيٍّ بلبسها بلا
حرمة ولا كراهة، سواء كان إمامًا أو مأمومًا، أو منفردًا أو خطيبًا للجمعة
والعيدين أم لا؟ وهل للمسلمين من الرجال والنساء زي مخصوص يلبسونه أم لا؟
فإذا قلتم: إن لهم زيًّا مخصوصًا يلبسونه فما هو شكله وكيفيته؟ أرجو التفضل
ببيان ذلك.
(٧-٨) وهل السكروتة (ما يسمونها بالستكروزة) من الدودة أم من النبات؟
وهل يحرم لبسها كالحرير للرجال أم لا؟ وهل حرمة التحلي بلبس الحرير
للرجال من الكبائر أم من الصغائر؟
(٩-١٣) وما هي الحرمة الكبيرة والصغيرة؟ وما كيفية عذابهما؟ وهل
يتفاوتان في العذاب أم لا؟ وهل عذاب القبر للروح والجسد معا أم هو للروح فقط ,
وهل يكون العذاب مستمرًا دائمًا أم منقطعًا؛ أي: يرتفع ويعود وهكذا أم لا؟
(١٤-١٦) وما قولكم دام فضلكم في رجل مسلم مؤمن بالغ عاقل حر قتل
نفسًا مسلمة مؤمنة بالغة عاقلة حرة عمدًا بغير حق، ولم يقاصص في الحياة الدنيا لا
بدفع الدية ولا بغيرها مطلقًا وعليه أيضًا ديون ومظالم وخيانات وسرقات وكذب
وغش لأناس ولم تسامحه أربابها في الحياة الدنيا. ما حكمه في ذلك كله يوم القيامة؟
هل يعذب في قبره بسبب ذلك كله أم عذابه في الآخرة فقط؟ وهل إذا تاب إلى الله
تعالى في الحياة الدنيا من ذلك كله تقبل منه التوبة ولا يعذبه في قبره ولا في الآخرة
أم لا؟
(١٧) وهل هذان الحديثان الآتيان صحيحان معتمدان غير منسوخين أم لا -
وما معناهما - وهما: (لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقوم يذنبون
ويستغفرون الله فيغفر لهم) - رواه الإمام مسلم. (كل شيء يقدر حتى العجز
والكيس) ، رواه الإمامان مسلم وأحمد. أرجوكم أن لا تحيلونا على فتاوى سبقت
لكم في مجلدات مجلة المنار بهذا الخصوص، حيث إنه لم توجد لدينا مجلدات مجلة
المنار مطلقًا. تفضلوا بالجواب، ولكم الأجر والثواب.
(المنار)
إننا نجيب عن هذه المسائل بشيء من الإجمال لبعض مباحثها، ومن التكرار
لبعض معانيها، ولما سبق لنا من تفصيل القول في أكثرها.
***
كشف وجه الحرة وكفيها
نقل الحافظ ابن عبد البر وغيره أن المسلمين قد أجمعوا على أن على المرأة
أن تكشف وجهها في الصلاة والإحرام، ومن المعلوم أن مدة الإحرام طويلة تبتدئ
من الميقات المعين، وتنتهي بأداء النسك من حج أو عمرة، وأن النساء كن ولا
يزلن يشاركن الرجال في أعمال فرائض النسك وواجباته، وأنهن كن يصلين مع
الرجال، ويتوضأن حيث يتوضؤون في باقي الأوقات والأحوال، فالستر الذي
فرض عليهن في أثناء الصلاة والنسك هو أكمل الستر وأتمه؛ لأنه يكون في أفضل
المجامع الدينية المشتركة بينهن وبين الرجال، ولا ينافي ذلك كونهن يصلين صلاة
الجماعة خلف الرجال، وأنهن قد يفرد لهن المطاف فيطفن وحدهن؛ إذ من المعلوم
بالضرورة أنهن يقبلن على المساجد في الحالة التي يصلين فيها أو يطفن، فيراهن
الرجال، وأنهن يتنقلن مع الرجال من مواقيت الإحرام إلى مكة، ومنها إلى عرفات
والمزدلفة ومنى.
ولا بأس بأن ننقل هنا ملخص مذاهب علماء الأمصار في المسألة في الصلاة
وخارجها عن كتاب المفتي للشيخ الموفق الحنبلي، فإنه كتاب في فقه الإسلام لا في
فقه الحنابلة وحدهم، قال (ص٦٤١ج١) :
لا يختلف المذهب في أنه يجوز للمرأة كشف وجهها في الصلاة، وأنه ليس
لها كشف ما عدا وجهها وكفيها، وفي الكفين روايتان، واختلف أهل العلم، فأجمع
أكثرهم على أن لها أن تصلي مكشوفة الوجه، وأجمع أهل العلم على أن للمرأة
الحرة أن تخمر رأسها إذا صلت، وعلى أنها إذا صلت وجميع رأسها مكشوف أن
عليها الإعادة، وقال أبو حنيفة: القدمان ليسا من العورة؛ لأنهما يظهران غالبًا فهما
كالوجه، وإن انكشف من المرأة أقل من ربع شعرها أو ربع فخذها أو ربع بطنها لم
تبطل صلاتها. وقال مالك والأوزاعي والشافعي: جميع المرأة عورة إلا وجهها
وكفيها، وما سوى ذلك يجب ستره في الصلاة؛ لأن ابن عباس قال في قوله تعالى:
{وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا} (النور: ٣١) : الوجه والكفين. ولأن
النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى المحرمة (أي بالحج أو العمرة) عن لبس
القفازين والنقاب. ولو كان الوجه والكفان عورة لما حرم سترهما، ولأن الحاجة
تدعو إلى كشف الوجه للبيع والشراء، والكفين للأخذ والإعطاء، وقال بعض
أصحابنا: المرأة كلها عورة؛ لأنه قد روي في حديث عن النبي - صلى الله عليه
وسلم -: (المرأة كلها عورة) ، رواه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح.
لكن رخص لها في كشف وجهها وكفيها لما في تغطيته من المشقة، وأبيح النظر
إليه لأجل الخطبة؛ لأنه مجمع المحاسن اهـ، ومثله في الشرح الكبير (ص
٤٦٢ج١) .
وذكر الإمام الشوكاني في نيل الأوطار خلاف هذه المذاهب وغيرها، فقال:
(وقد اختلف في مقدار عورة الحرة، فقيل: جميع بدنها ما عدا الوجه
والكفين، وإلى ذلك ذهب الهادي والقاسم في أحد قوليه، والشافعي في أحد أقواله،
وأبو حنيفة في إحدى الروايتين عنه، ومالك. وقيل: والقدمين وموضع الخلخال:
(أي: كالوجه والكفين) ، وإلى ذلك ذهب القاسم في قول وأبو حنيفة في رواية عنه،
والثوري وأبو العباس، وقيل: بل جميعها إلا الوجه، وإليه ذهب أحمد بن حنبل
وداود , وقيل: جميعها بدون استثناء، وإليه ذهب بعض أصحاب الشافعي،
وروى عن أحمد. وسبب اختلاف هذه الأقوال ما وقع من المفسرين من اختلاف في
تفسير قوله تعالى: {إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا} (النور: ٣١) اهـ.
أقول: بل هنالك أسباب أخرى كما تقدم عن المغني، وأقواها ما كان معروفًا
في الصدر الأول من معاملة النساء للرجال في البيع والشراء والشهادة، وخدمتهن
لجرحى الحرب، وإنما ورد النهي عن خلوة الرجل بالمرأة الأجنبية وعن متابعة
نظر الشهوة. وفي حديث ابن عباس من صحيح البخاري وغيره أن النبي - صلى
الله عليه وسلم - أردف الفضل بن العباس خلفه في سفر حجة الوداع، فعرضت له
صلى الله عليه وسلم امرأة خثعمية جميلة تسأله، فطفق الفضل ينظر إليها، فأخذ
النبي - صلى الله عليه وسلم - بذقن الفضل يحول وجهه عن النظر إليها. وفي
رواية الترمذي للقصة أن العباس قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: لويت عنق
ابن عمك؟ فقال: (رأيت شابًّا وشابة فلم آمن عليهما الفتنة) فالنبي - صلى الله
عليه وسلم - لم يأمر المرأة بستر وجهها، ولم يأمرها ولا أمر الفضل بعدم نظر كل
منهما إلى الآخر، إلا أنه حول وجه الفضل عنها؛ لما رآه يتعمد إطالة النظر إليها
فعلم أنه عن شهوة. ولذلك ورد أن النظرة الأولى للمرء والثانية عليه، وهذا بعد
نزول آية الحجاب بخمس سنين، وقد استدل به من السنة العملية، على أن
الحجاب المنصوص في سورة الأحزاب خاص بنساء النبي - صلى الله عليه
وسلم - كما هو صريح الآيات، ولا سيما قوله تعالى في أولها: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ
لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاءِ} (الأحزاب: ٣٢) إلخ.
وتعليلهم المتقدم لكون الوجه والكفين لا يجب سترهما بالحاجة إلى كشفهما
للبيع والشراء والأخذ والإعطاء، وبما في التغطية من المشقة؛ صريح في عدم
قصر كشفهما على حال الصلاة. ومن حرم كشف الوجه والكفين من الفقهاء
- كالنووي من الشافعية - عللوه بخوف الفتنة، وهو أمر عارض لا أصل ولا غالب
في النظر، فهو يراعى في الأحوال التي هي مظنة الفتنة، وليست دائمة ولا غالبة،
فإن البر والفاجر من جماهير الناس يرون أبرع النساء جمالاً في شوارع الأمصار
العامة، ولا يكاد يفتتن أحد منهم برؤيتهن، على أن الكثيرات منهن يخرجن
متبرجات بكل ما أباحته حرية الفسق من زينة وتهتك وإغراء، وإنما يفتتن بعض
الفجار الذين يبحثون عن الفواجر، فمن يريد التحري لدينه من رجل وامرأة فلا
يخفى عليه، ما كان مظنة الفتنة الواجب عليه اجتنابها والبعد عن مواقف الشبهة
ومواضع الريبة. ولم يكن الأمر بالستر في عصر التشريع إلا لأجل هذا، وقد أبيح
للإماء كشف رؤوسهن مع وجوههن، ومن العلماء من قال: إن عورة الأمة كعورة
الرجل، ما بين السرة والركبة، وربما كانت الفتنة فيهن أشد؛ لأن الوصول إليهن
أيسر، والعفة فيهن أقل وأضعف، ويجب عليهن ما يجب على الحرائر من صيانة
أعراضهن، ويحرم عليهن من الفجور ووسائله ما يحرم عليهن، ولا يقول فقيه
بإباحة تعرضهن للفتنة، فإذا وجدن في مكان يتعرض فيه الفجار لهن فعليهن أن
يسترن رؤوسهن ووجوههن أيضًا وإلا فلا.
وإنا لنعلم أن المتفرنجين من المسلمين يبغون برفع أدب الحجاب عن
المسلمات التوسل إلى مثل إباحة نساء الإفرنج كما فعل الترك، فليحذر المسلمون
الحريصون على دينهم وأعراضهم وأنسابهم ذلك، فإن الخوف من هذه العاقبة هو
الذي يحمل أهل الدين - من صنف العلماء وغيرهم - على إطلاق القول: بوجوب
كذا من الحجاب، وتحريم كذا من السفور مثلاً. والتحريم والتحليل الدينيان حق الرب
وحده على عباده فهو يتوقف على النص، والنص عام وخاص، ومطلق ومقيد،
وتطبيق النصوص على الوقائع والنوازل أعسر مسلكًا من معرفة النصوص وفهم
معانيها، ولذلك ورد في الحديث (استفت قلبك وإن أفتاك الناس وأفتوك) رواه
أحمد والدارمي وأبو يعلى من حديث وابصة مرفوعًا.
وأما صوت المرأة فليس بعورة فما زال النساء يكالمن الرجل في إفادة العلم
واستفادته، حتى نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - وفي المحاكمات والشهادات
والمبايعات وغير ذلك من المعاملات: كخطبة النكاح، وكذا الخطب السياسية بغير
نكير. وقال الله لنساء نبيه في آيات الحجاب: {فَلاَ تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي
فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْروفاً} (الأحزاب: ٣٢) .
***
مسائل اللباس والزي
قد حققنا هذه المسألة في كتابنا (الحكمة الشرعية) الذي هو أول مؤلفاتنا، ثم
عدنا إليه في المنار مرارًا، وصفوة القول فيه: إن الدين الإسلامي لم يفرض ولم
يحرم على المسلمين زيًّا مخصوصًا، بل ترك هذا وأمثاله من العادات إلى اختيار
الناس، والإسلام دين عام فرضه الله تعالى على جميع الناس كما تراه مفصلاً في
تفسير هذا الجزء، وما يصلح لهم من اللباس في بعض الأقطار لا يصلح في غيرها،
ولكن شرعه حرم عليهم الضرر والضرار، فليس لمسلم أن يرتكب ما يضر نفسه
ولا ما يضر غيره، فاجتناب الضرر والضرار قيد تقيد به جميع المباحات لذاتها
من أكل وشرب ولباس وصناعة وزراعة وغير ذلك، فمن علم بالتجربة أو بقول
الطبيب الصادق أن أكل الخبز أو شرب الماء يضره لمرض مثلاً حرم عليه،
ويقاس على هذا غيره، وما يضر الناس أفرادًا وجماعات أولى بالتحريم مما يضر
النفس، فليس لمسلم أن يضر أحدًا بعبادته فضلاً عن عادته.
فمن عرف هذا الأصل علم أن لبس السراويل المسمى بالبنطلون أو القلنسوة
المسماة بالبرنيطة ليس محرمًا لذاته بل مباحًا، فإن كان هذا اللباس بصفة تصده
عن الصلاة أو تحمله على تأخيرها عن وقتها لتعذر أدائها أو تعسره في حال لبسه،
ككون السراويل حازقًا؛ أي: ضاغطًا على البدن يمنع لشدة ضيقه من السجود،
وككون القلنسوة تمنع منه كذلك بشكلها.. . فإن ذلك يكون ضررًا دينيًّا مقتضيًا
للتحريم ما دام مانعًا، وكذلك إذا كان لبس الحاذق يضر البدن كما قالوه في المشد
الذي تشد النساء به خصورهن. وقد قال الدكتور سنوك المستشرق الهولاندي
المشهور الذي دخل في الإسلام، وجاور في مكة بضع سنين، وكان صديقنا السيد
عبد الله الزواوي مفتي مكة من شيوخه يعتقد صحة إسلامه- قال: إنه ثبت التجربة
الدقيقة في البلاد المختلفة أن المسلمين الذين يتركون زيهم ويلبسون الزي الإفرنجي
يترك أكثرهم الصلاة أو المحافظة عليها، مع العلم بأن أكثرهم يجعلها واسعة لا
يتعذر السجود ولا يتعسر في حال لبسها.
ونحن نزيد على هذا أننا رأينا بالاختبار في مصر أن الذين تركوا الزي
الوطني: الجبة والقباء (القفطان أو الغنباز) ، والعمامة حتى من غير المنسوبين
إلى طبقة رجال العلم والتعليم، واستبدلوا به الزي الإفرنجي، صار أكثرهم
يجلسون في الحانات، ويعاقرون الخمور على قارعة الطريق، ويختلفون إلى
معاهد الرقص والخلاعة ومواخير الزنا جهرًا، ومنهم من غير زيه؛ لأجل هذا
فكان عاصيًا لله تعالى به وسيلة ومقصدًا. وما كل من يلبسه كذلك ولا سيما الذين
اعتادوه من الصغر.
ثم إن هذا الزي قد صار - إذا استثنينا (البرنيطة) - من جملة الأزياء
الوطنية بمصر وبلاد أخرى، يلتزمه جميع رجال الحكومة ما عدا رجال الشرع
عنهم، فإذا أضيفت إليه البرنيطة التي لا تزال خاصة بالإفرنج ومقلديهم من الشعوب
غير الإسلامية، ولا يلبسها من المسلمين إلا الأفراد الذين يسافرون إلى بلاد الإفرنج؛
لأجل التنكر وإيهام أهل البلاد أنهم منهم، ويعتذرون عن هذا بأنهم إذا دخلوا البلاد
بزيهم الوطني يكونون مطمح أنظار الساخرين والمستهزئين، وقد يؤذون منهم.
وهذا اعتذار باطل كما جربنا بنفسنا، فقد زرنا أوربة بزينا الوطني الذي يعد زي
علماء الدين في بلادنا، ولم نلق أذًى من أحد باحتقار ولا غيره، نعم كانت تتوجه إلينا
الأنظار، وتلتفت نحونا الأعناق، ولا سيما إذا صلينا في بعض المتنزهات العامة،
ولكن كان يكون ذلك مع الأدب التام، بل كنا قد نحترم عند الذين يعرفوننا أكثر من
غيرنا.
وقد لبس النبي - صلى الله عليه وسلم - الجبة الرومية والطيالسة الكسروية
لبيان الجواز، ولكنه أمر أمته بمخالفة الكفار في عادتهم وأزيائهم لا في أمورهم
الدينية فقط، ولما كان هو بمكة كان يخالف المشركين وإن وافق أهل الكتاب، فلما
صار في المدينة كان يأمر بمخالفة أهل الكتاب لمجاورته لهم فيها، كما أمر بصبغ
الشيب؛ لأنهم لم يكونوا يصبغون، وروى أحمد وابن ماجه والطبراني عن أبي أمامة
(رضي الله عنه) قال: قلنا يا رسول الله: إن أهل الكتاب يتسرولون ولا يأتزرون،
فقال صلى الله عليه وسلم: (تسرولوا وائتزروا، وخالفوا أهل الكتاب) أي فأمر
بمخالفتهم بالجمع بين الأمرين، ولم يأمر بترك السراويل ألبتة لمخالفتهم؛ إذ الغرض
أن يكون للمسلمين مشخصات من العادات خاصة بهم، ولا يكونوا تابعين
لغيرهم؛ لأن الاستقلال في العادات وغيرها، مما يعد من مشخصات الأمم التي
تعرف بها، يزيد استقلال الأمة في مقوماتها الملية: كالدين واللغة والآداب، وما
يسمونه الثقافة القومية قوة ورسوخًا.
لهذه العلة أجاب عمر (رضي الله عنه) معاوية وغيره ممن طلبوا منه أن
يتجمل أمام أهل بلاد الشام؛ لأنهم اعتادوا أن يروا حكامهم من الروم في مظاهر
عظيمة من الزي وغيره - فقال ما معناه: جئنا لنعلمهم كيف نحكم لا لنتعلم منهم،
ولهذا الغرض نفسه كان يوصي قواده الفاتحين لبلاد الأعاجم وعماله فيها
بالمحافظة على عادات العرب وزيها، وينهاهم عن التشبه بالأعاجم.
روى مسلم في صحيحه عن أبي عثمان النهدي قال: كتب إلينا عمر ونحن
في أذربيجان: يا عتبة بن فرقد إنه ليس من كدك ولا من كد أبيك ولا من كد أمك،
فأشبع المسلمين في رحالهم مما تشبع منه في رحلك، وإياكم والتنعم وزي أهل
الشرك ولبوس الحرير، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن لبوس
الحرير إلا هكذا.. . ورفع لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أصبعيه
الوسطى والسبابة وضمهما اهـ. وعتبة هذا كان قائد جيش عمر هنالك. قال النووي
في شرح مسلم: ومقصود عمر (رضي الله عنه) حثهم على خشونة العيش
وصلابتهم في ذلك، ومحافظتهم على طريقة العرب في ذلك، وقد جاء في هذا
الحديث زيادة في مسند أبي عوانة الإسفراييني وغيره بإسناد صحيح قال: أما بعد
فائتزروا، وارتدوا، وألقوا الخفاف والسراويلات، وعليكم بلباس أبيكم إسماعيل،
وإياكم والتنعم وزي الأعاجم، وعليكم بالشمس فإنها حمام العرب، وتمعددوا،
واخشوشنوا، واقطعوا الركب، وابرزوا وارموا الأغراض اهـ.
فقد أمرهم بإلقاء الخفاف والسراويلات، وكانوا يلبسونها في عهد النبي -
صلى الله عليه وسلم - بإذنه كما أمرهم بغير ذلك من لبوس العرب وعاداتهم،
ليحافظوا على مشخصاتهم فلا يندغموا في الأعاجم، ولولا ذلك لاندغموا في
الأعاجم بدلاً من تعريبهم لهم، والتمعدد التشبه بمعد بن عدنان، وكان شديد القوة
والبأس، يؤثر الخشونة في العيش على الترف والرخاوة , وقوله: واقطعوا الركب
هو بضمتين جمع ركاب - ككتاب وكتب - أي: اقطعوا ركب شروجكم، فهذه
الأوامر والنواهي ليست دينية مفروضة على كل مسلم، بل هي من سياسة الإسلام
التي تطلب من جمهور الأمة في مثل هذه الأحوال، ولحكامهم أن يلزموهم إياها
شرعًا، وعليهم طاعتهم فيها إن كانت لتقوية بناء الأمة ورفعة شأن الملة.
وقد التزم هذه السياسة العربية الإسلامية في هذا العصر الشعب الإنكليزي،
ولا سيما في مستعمراته، فهو يتحرى أن يكون ممتازًا أو متبوعًا؛ ولذلك كان
أعز الشعوب نفسًا وأعلاهم همة وقدرًا. وقد رأيت السيد عليًّا ملاحظ أو وكيل
الشحنة (البوليس) في آغره من الهند يلبس قلنسوة (برنيطة) بريطانية،
فكلمته في لبسها وما فيه، وسألته: هل هو شرط رسمي في عمله؟ فقال: إن
الإنكليز يمنعون أهل الهند رسميًّا من لبس هذه البرانيط؛ لئلا يتشبهوا بهم فلا
يلبسها أحد إلا بإذن خاص، ولا يعطى هذا الإذن لكل أحد، وقد أعطيته بعد
أن طلبته؛ لأن التجوال في الشمس عامة النهار يؤذي رأسي.
(للبحث بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))