للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


المعاهدة البريطانية الحجازية
وخدعة الوحدة العربية

بلغنا منذ بضعة أشهر أن الدكتور ناجي الأصيل الموصلي ذهب إلى مكة وأخذ
تفويضًا من ملك الحجاز بالسعي لدى أرباب الأموال من الإنجليز بعقد امتيازات في
الحجاز باستخراج المعادن وبغير ذلك، ثم سافر منها إلى (لندن) مارًّا بمصر، ثم
شاع أن الدكتور وكيل سياسي لملك الحجاز، ثم جاءتنا أخبار أوروبة العامة
والخاصة بأنه ذهب إلى لوازن لحضور مؤتمر الصلح فيها بالوكالة عن ملك الحجاز،
وأنه كان هنالك مع جعفر باشا العسكري البغدادي مندوب الملك فيصل ملحقين أو
تابعين للوفد البريطاني، ولنا من أخبارهما التفصيلية الفاضحة هنالك ما ليس من
موضوع هذا المقال.
ثم إن برقيات روتر الإنجليزية وجرائد لندن أذاعت في العالم كله نبأ عقد
مؤتمر عربي يمثل الشعوب العربية كلها؛ لأجل حل المسألة العربية ووضع أساس
الاتحاد العربي، ثم علمنا أن أعضاء هذا المؤتمر خمسة نفر من صنائع أمراء
الحجاز ووسائلهم لدى الإنجليز وهم جعفر باشا العسكري وناجي بك السويدي
والدكتور ناجي الأصيل وأمين بك التميمي وإحسان بك الجابر. فتذكرنا بذلك ما
كانت البرقيات والجرائد الإنجليزية بلغتنا إياه عند إعلان (اتفاق سايكس بيكو)
على قسمة البلاد العراقية والسورية بين إنجلترة وفرنسة، إذ زعمت أن الأمة
العربية قد اشتركت في الاحتفال بإعلان هذا الاتفاق في لندن بحضور ممثليها فيه،
ثم علمنا أن المراد بهؤلاء الممثلين تاجر سوري مسيحي مقيم بلندن ومتجنس
بالجنسية الإنجليزية وأسير مسلم من عكا اسمه إسماعيل.
وهذا شأن الأجانب في العبث واللعب بالشعوب والأمم والكذب والتزوير:
رجلان مجهولان يمثلان أمة بدون علمها ولا إذنها، ويقرران إبسال بلادهم
واستعبادها، أو ينسب ذلك إليهم، وخمسة نفر يعقدون مؤتمرًا باسم الأمة العربية
بدون توكيل ولا إذن ولا علم منها، وذلك أنهم يعملون بأمر الأجنبي في بلده.
وأما المؤتمر السوري الفلسطيني الذي عقد في جنيف ممثلاً للأحزاب
الاستقلالية في الوطن والمهاجر، والمؤتمر السوري العام المنتخب من جميع المناطق
السورية. والمؤتمرات الفلسطينية العامة المنتخب أعضاؤها من جميع بلاد
فلسطين - فهي لا تمثل من تتكلم باسمهم في عرف الأجانب المغتصبين للبلاد.
ثم أذاعت البرقيات والجرائد الإنجليزية في أقطار العالم أن ناجي الأصيل قد
اتفق مع الحكومة البريطانية على عقد معاهدة بريطانية عربية تقرر فيها اتحاد
الممالك العربية واستقلالها، فكانت الجرائد العربية تُعنى بنقل هذه الأخبار والتعليق
عليها في مصر وفلسطين وسائر سورية وفي مهاجر السوريين، واغتر بذلك كثير من
الناس وصدقوها، واتسع مجال الإيهام والتغرير لجرائد الدعاية (البوبغندة)
الحجازية في سورية وفلسطين بها فصورت للبسطاء تأليف سلطنة (إمبراطورية)
عربية مؤلفة من جزيرة العرب برمتها ومن ممالك فلسطين وشرق الأردن والعراق
والدويلات السورية، وصدق أحداث السياسة والعوام في سورية أن بلادهم داخلة
في هذه الإمبراطورية الجديدة. وروَّج هذه الخدعة الخيالية فيهم ما نقلته إليهم
الجرائد من تودد الأمير عبد الله الحجازي لفرنسة فحسن عندهم هذا لتحقيقه الغاية
التي أذاعوها منذ حلول ركابه في شرق الأردن، وهي أنه ما جاء إلا لإنقاذ سورية
من فرنسة، ومن البديهي أن إنقاذه إياها بالدهاء السياسي أولى وأسلم من إنقاذها
بالحرب. وكل ذلك غش وخداع لم يتقن هؤلاء الأمراء الحجازيون من أمور
السياسة العصرية غيره، وهو إنما يقوم بالبذل.
كان بعض الإخوان يسألونني عن رأيي في هذه الأخبار كلما حملت الجوائب
شيئًا منها فأقول: إنني أتمنى لو يكون فيها خير ولكنني أعتقد أنها خداع وتضليل
فلو كان الإنجليز يريدون للعرب الاستقلال والاتحاد لما احتاجوا إلى الدكتور ناجي
الأصيل في وضع الخطط لذلك، وإنما يريدون من وكيل الملك حسين الاتفاق على
خدعة ينالون بها ما يريدون منه، وهو موافقته الرسمية على ما قرروه ونفذوه في
البلاد العربية، وقد سألني بعض هؤلاء الإخوان أن أكتب رأيي في ذلك وأنشره في
الجرائد لكشف الغش والتلبيس للأمة العربية فكنت أقول: أرى أن نصبر إلى أن
تظهر نتيجة هذه الأخدوعة الجديدة فنكون على بينة فيما نقول، ولا نرمي من
أعوان الخادعين باتباع الهوى أو الفضول، وإنني على سوء ظني المبني على
طول التجربة والاختبار أتمنى أن أكون مخطئًا في هذه المرة، وإذًا أكون في طليعة
أنصار ما يأتي من كل مشروع أو عمل لاستقلال العرب واتحادهم.
صبرت إلى أن انكشف الستر، وظهر ما بُولِغَ في إخفاءه من الأمر، وتركت
السبق لغيري في إنكار ذلك فكان أول المنكرين له من كانوا أول المحسنين للظن
بالملك حسين والأمير عبد الله وهم أهل فلسطين. ولما زالت ثقتهم بالثاني ظلوا
واثقين بالأول، حتى كانوا يكابرون أنفسهم، ويكذبون الأخبار الرسمية البريطانية
الجلية، اغترارًا ببرقيات الحجاز المبهمة الموهمة.
ألم تر أن ناجي الأصيل عاد من لندن إلى مصر فسبقه إليها كل من الشيخ عبد
القادر المظفر وأمين بك التميمي من دعاة ملك الحجاز في فلسطين فاستقبلاه في
الإسكندرية فاستنطقاه ليسبقا بالبشائر إلى قومهما فلم يفهما منه شيئًا جليًّا، ألم تر أنه
سافر إلى الحجاز في بارجة بريطانية فسابقه إليها الشيخ عبد القادر المظفر ثم سبقه
بالعودة إلى مصر مبشرًا بتأويل حلم الاتحاد العربي، وبأن عهد بلفور قد ألغي،
أخبرني بذلك فلم أصدق، ولكنني قلت له: إنني أصبر فإن صح هذا كنت أول
مؤيد له ومُنَوِّه به، وإن كوفئت على ذلك بالإيذاء وإعراض هؤلاء الزعماء، وقد
استنبط الشيخ بشائره من فرح الملك بهذه المعاهدة واحتفاله بالدكتور ناجي الأصيل
كاحتفال الأمم بالقواد الفاتحين، ولم يطلعه أحد على شيء من مواد المعاهدة كدأب
الملك حسين في الكتمان وعدم استشارة أحد في شيء من أمور الأمة، ولكنه روى
لنا عن فؤاد الخطيب وكيل الخارجية عن الملك الجزم بإلغاء وعد بلفور، فجزمت
بعدم صحة متن هذه الرواية جزمًا لا تردد فيه وتركت الكلام في سندها، ثم أيدت
الحوادث كذب المتن بما لا يعد طعنًا في سنده، إذ علم أن الملك فهم ذلك من
المعاهدة وهي نص في ضده، كما ثبت في النصوص الرسمية الآتية. بناء على هذا
الفهم الملكي أعلن المعاهدة بمكة يوم عيد الفطر باحتفال رسمي حافل، وتضمن
الإعلان الملكي الأمر بجعل هذا اليوم عيدًا. وهاك نص الإعلان منقولاً عن العدد
٦٨٨ من جريدة القبلة الرسمية المؤرخ في ٥ شوال الحال بعد ذكر الاحتفال بعيد
الفطر:
عيد على عيد
إعلان استقلال العرب ووحدتهم في جميع الجزيرة العربية
ولما استقر بجلالة المنقذ المقام في بهو الاستقبال العام مثُل بين يدي جلالته
الأشراف والسادة العلماء والأعيان والوجهاء وأماثل الأمة على اختلاف طبقاتها
حاضرها وباديها، وحينذاك تفضل جلالته ففاه بخطاب ملوكي سامٍ، حمد الله فيه
وأثنى عليه ثم أشار إلى أن هذا العيد المبارك لا شك في تضاعف يمنه حيث صادف
قبول المراجع الإيجابية [١] لجميع المطالب العربية فلا ريب في أنه يوم اجتمع فيه
عيدان: عيد الفطر السعيد، وعيد الاعتراف باستقلال العرب ووحدتهم، وعليه
فجلالته يعلن ذلك للأمة العربية حاضرها وباديها.
وعلى إثر ذلك أمر جلالته صاحب الإقبال رئيس الديوان العالي أن يلقي في ذلك
المحفل الجليل الخطاب الملوكي الهاشمي الآتي، وهذا نصه:
بسم الله الرحمن الرحيم
(نصرح في هذا العيد المبارك بمآل المعاهدة العربية البريطانية المؤسسة
على مقرراتنا السياسية والتي يعترف بها صاحب الجلالة البريطانية لنا باستقلال
العرب بجزيرتهم وسائر بلادهم، ويتعهد لنا حشمته الملوكية بالمعاضدة الفعلية
لتأسيس الوحدة العامة الشاملة لكل هذه البلاد بما فيها العراق وفلسطين وشرق الأردن
وسائر البلاد العربية في جزيرة العرب (ما خلا عدن) فنأمر أن يعتبر هذا اليوم
المبارك عيد الاعتراف باستقلال الأمة العربية، والله ولي التوفيق. انتهى.
وعقبه خطاب مندوب الحكومة بلندن، وهذا نصه أخذناه منه بخط يده:
مولاي:
(أحمده تعالى وأشكره على هذه الوقفة الفريدة التي مننتم يا مولاي عليَّ بها
لأقف بين يدي جلالتكم في هذا اليوم العظيم لأقول كلمتي عن المعاهدة العربية
البريطانية التي انتهت - والحمد لله - باعتراف بريطانيا باستقلال العرب في
جزيرتهم وسائر بلادهم، وبتعهدها لجلالتكم بالمعاضدة الفعلية لتأسيس الوحدة
العربية العامة.
إن بداية هذا الانقلاب الكبير في تاريخ الأمة العربية ظهر يوم نادى جلالتكم
بأمته مستصرخًا إياها بالنهوض وفك القيود لإعادة حريتها القديمة واستقلالها
المغصوب، فيا لها من نهضة مباركة قامت فحطمت سلاسل الذل والاستعباد،
وجاءت اليوم بالاستقلال والاتحاد لأمة عرفها التاريخ بفتوحاتها العظيمة ومجدها
المشيد. فالأمة العربية مديونة لكم (يا مولاي) في نهضتها، مديونة لكم في العهود
التي قطعتموها لحفظها وصيانتها من مصائب الحرب ونتائجها، مديونة لكم في هذا
الاعتراف باستقلالها ووحدتها، فكما أني ما قمت إلا بواجبي الوطني يوم لَبَّيْتُ الدعوة
فتركت الجيش التركي والتحقت بجيوش جلالتكم لأشترك بالدفاع عن استقلال بلادي
العربية في تلك المعركة الكبرى، أيضًا يا مولاي بذهابي إلى لوزان حسب تنسيب
جلالتكم للدفاع عن القضية العربية أمام المؤتمر وثم إلى عاصمة بريطانيا لمطالبتها
بإيفاء العهود - لم أقم إلا بنفس ذلك الواجب السامي الذي يفديه كل عربي صميم
بروحه وماله وما تملك يداه) (أسأله تعالى أن يؤيد جلالة مولاي المنقذ الأكبر ويبقيه
ذخرًا للأمة العربية، وأن يجعل هذا اليوم بدء كل خير لصالح الأمة العربية) انتهى.
وقد جاء في رسالة أرسلت من جدة إلى الأهرام نبأ الاحتفال بالمعاهدة فيها
بالنص الذي أرسله الملك إلى حاكمها الإداري (قائمقام جدة) وأن هذا قال بعد تلاوة
أمر الملك في الحفلة: (وقريبًا سنتفق مع فرنسة على سورية اتفاقًا مرضيًا) . ولقب
ملك الحجاز بملك البلاد العربية ومؤسسها.
مضمون الإعلان الملكي وما ترتب عليه:
دل هذا الاحتفال وما قيل فيه دلالة قولية فعلية على الأمور التالية:
(١) أن المعاهدة التي حملها الدكتور ناجي الأصيل من لندن قد اشتملت
على اعتراف صاحب الجلالة البريطانية باستقلال العرب في جزيرتهم وجميع
بلادهم.
(٢) أنها مبنية على المقررات السابقة، وهي التي عرضها أمير مكة
حسين بن علي على الدولة البريطانية في بيان شروط قيامه بالثورة العربية فقبلتها
مع تحفظات مبينة في كتب السر هنري مكماهون له وقد نشرنا ذلك كله في الجزء
الثامن من مجلة المنار م٢٣ الذي صدر في سلخ صفر من هذا العام (الموافق ٢٠
أكتوبر سنة ١٩٢٢) .
ولعل القراء يتذكرون أن المادة الأولى من تلك المقررات: أن الحكومة
البريطانية تتعهد بتشكيل حكومة عربية مستقلة ... إلخ، وأن المادة الثانية نص
صريح في محافظة الدولة البريطانية وصيانتها لهذه الحكومة بأي صورة كانت في
داخليتها وسلامة حدودها البرية والبحرية من أي تعدٍّ في أي شكل يكون، حتى
الدسائس والفتن الداخلية، وأن المادة الثالثة تصرح بأن هذه الحكومة العربية حكمها
حكم القاصر في حضن الدولة البريطانية.
وبناء على هذا يكون الاستقلال المعترف به نوعًا من أنواع استقلال بعض
المستعمرات البريطانية لا الاستقلال المطلق من كل قيد.
(٣) أن الملك قد فهم أن فلسطين داخلة في مملكته الجديدة ومن لوازمه أن
عهد بلفور بإنشاء وطن قومي لليهود قد ألغي كما لقن الشيخ عبد القادر المظفر قبل
الاحتفال بإعلان المعاهدة عند سفره من الحجاز، وكان من لوازم هذا الفهم أن
(ملك البلاد العربية ومؤسسها) أرسل برقية إلى كاظم باشا الحسيني رئيس الوفد
الفلسطيني - وهو في القدس - بلغه فيها خبر المعاهدة وأمره لرعيته أهل فلسطين
بالتزام الهدوء والسكينة، أي إلى أن تتسلم جلالته إدارة البلاد بالفعل، حتى إنه قال
له في البرقية: (وأنتم المسئولون عن كل ما يحدث) وظاهر هذا أنه يرى أن
حكومة فلسطين البريطانية الصهيونية تلغى بمجرد وصول برقيته.
لهذا بادرت هذه الحكومة إلى نشر بلاغ رسمي صرحت فيه بأن المعاهدة
الجديدة لا تتضمن أدنى تغيير في حكومة فلسطين، فهاج ذلك أهل فلسطين وبلغوا
الملك حسينًا خبره فكذب بلاغ الحكومة الفلسطينية؛ إذ صرح بأنه مخالف لنص
المعاهدة الواردة من وزارة الخارجية البريطانية. فنشرت هذه الحكومة خلاصة
نص المعاهدة ومنها التصريح بأن فلسطين غير داخلة في البلاد التي اعترفت
الحكومة البريطانية باستقلالها؛ إذ سبق بيان ما تقرر بشأنها، وتضمن هذا بقاء
عهد بلفور وأنه لم يُلْغَ ولم يُعَدَّل كما سيأتي.
لا يتوهمن أحد أننا سررنا بخطأ الملك حسين في فهمه وبخيبة أمله، والله إننا
نتمنى لو تستقل فلسطين استقلالاً صحيحًا ولو بسعيه لدخولها في حدود ملكه، فإن
لم يكن أهلاً لإدارتها فما هو بخالد فيها، على أننا نعلم أنه لا يستطيع أن يستبد فيها
كما يستبد في مكة وجدة، وإنما نحن ندون أهم أحداث تاريخنا الحديث بما فيه
العبرة لأهل العصر ولمن بعدهم.
وأهم ما نُذَكِّر به من العِبرة في هذه المسألة: التفكير في سبب خطأ الملك في
فهم الذي كان سببًا لأقبح الخزي المُحْزِن، ونحن نرى أن الذنب في هذا على
الدكتور ناجي الأصيل وفؤاد أفندي الخطيب وزير خارجية الملك الذي اشترك مع
الدكتور في ترجمة المعاهدة.
ذلك بأن صيغة المعاهدة قد وضعت باللغة الإنجليزية قطعًا ومن دأب الملك
حسين عدم إطلاع أحد على شيء من أسرار سياسته إلا من يضطر إلى استخدامه
فيها، ولا نرى منجاة للدكتور ناجي الأصيل ولفؤاد أفندي الخطيب من تبعة غش
الملك في الترجمة إلا إذا كانت الترجمة صحيحة، وألقيت إلى الملك مكتوبة فلم
يفهمها ولم يجعلها هو والمترجمون لها موضع البحث، بل بلَّغ فلسطين ما بلَّغها قبل
أن يبحث مع وكيله ووزير خارجيته فيها، ولكن هذا بعيد وخلاف الظاهر- وإن
كان الملك لا يفهم اللغة العربية العصرية ولا القديمة فهمًا صحيحًا بدليل أن كتابته
كثيرة الغلط والعسلطة فلا تُفْهَم إلا بالقرائن- فإن ناجي الأصيل حضر إعلان
الاستقلال ووافق عليه ببيان منه بخطه، فإن قيل: إنه تعذر عليه أن يصحح خطأ
الملك عقب إلقاء خطابه فكيف لم يتنبه له بعد ذلك وتركه على غلطه حتى تجرأ
على تخطئة حكومة فلسطين الإنجليزية في فهمها للمعاهدة وعلى مخاطبته
للفلسطينيين بعد مراجعتهم إياه في المسألة بما يدل على أنه لا يزال على فهمه الأول،
وكذا رده على الجرائد المصرية فإنه يدل على ذلك أيضًا.
وأما احتمال عدم فهم ناجي الأصيل للنص الإنجليزي الذي لم يوضع إلا بعد
طول البحث مع وزارتي الخارجية والمستعمرات الإنجليزيتين فيه - فغير معقول،
وقد جرى له حديث مع مكاتب الأهرام في الإسكندرية إثر وصوله إليها عائدًا من
لندن يدل على أنه واقف على دقائق المعاهدة، وعلى أن المناقشة في مسألة فلسطين
معه كانت شديدة، وقد علم أن فؤاد الخطيب قد ساعده على ترجمة المعاهدة، فهل
يتفقان على الخطأ في جعل المنفي مثبتًا.
على أن البلية في عدم فهمهما للمعاهدة حينئذ أعظم من البلية في غشهما للملك،
فما أعظم مصاب العرب فيمن يقيِّدونهم بمعاهدات لا يفهمون معناها مع دولة
يحتاج من يعقد معها أي معاهدة أو اتفاق أن يكون من أدق الناس فهمًا وأقدرهم على
تحديد المعاني بحيث لا تحتمل التأويل بضرب من ضروب الاشتراك أو المجاز أو
الكناية؛ لأن رجالها أبرع الناس في التفصي من المعاهدات بالتأويل كما قال
البرنس بسمارك.
وما طرقت باب هذا المبحث إلا لأنني قد عزَّ عليَّ أن أوافق من يظنون أن
الملك حسينًا قد خدع الفلسطينيين ليؤيدوه فيما رضيه للبلاد كلها من الوصاية
البريطانية ولفلسطين معها من عهد بلفور إلى أن ينفذ السهم، وإنما أوافقهم بسهولة
إذا جعلته الحكومة البريطانية هو القوس الذي ترمي سهمها عنه. على أنه خدع
الأمة العربية منذ بدء الثورة فإنه اتفق مع حلفائه على استقلالها ولا يزال يدعي ذلك
بعد علم الناس بمقررات النهضة، ومع أخذ البلاد باسم الانتداب الذي وافقهم عليه
في هذه المعاهدة.
سوء تأثير هذه المعاهدة:
احتفل الملك حسين بهذه المعاهدة احتفالاً رسميًّا في مكة المكرمة وغيرها من
بلاد الحجاز وجعل يوم هذا الاحتفال عيدًا وطنيًّا دائمًا كما تقدم، وقدم له أركان
حكومته وكبار الدولة التهاني على هذه النعمة التي أصابت الأمة العربية بسعيه،
واحتفل مثل هذا الاحتفال في شرق الأردن عاصمة إحدى أركان هذه الدول العربية
المستقلة المتحدة (؟!) ولُقِّب الملك حسين في هذه الاحتفالات بـ (ملك البلاد العربية
ومؤسسها) و (بأمير المؤمنين) ومُدِحَ هو ونجله الأمير عبد الله بالخطب والقصائد،
ورجعت صدى ذلك كله الجرائد، وأظهرت المستأجرة والمغرورة منها غاية الحبور
والابتهاج.
في أثناء هذا نشرت حكومة فلسطين خلاصة المعاهدة مترجمة باللغة العربية
ففهم منها جميع الناس في كل مكان أنها أعظم نكبة على الأمة العربية والإسلام،
واجتمع المؤتمر الفلسطيني العام للنظر فيها فقرر رفضها والاحتجاج عليها، وقامت
قيامة الصحف المصرية وانبرت جميعها للرد والاحتجاج والتشنيع على ملك الحجاز.
وستفعل ذلك سائر جرائد العالم الإسلامي، وهذه ترجمة خلاصة المعاهدة.
خلاصة المعاهدة البريطانية العربية
نشرت حكومة فلسطين بلاغًا رسميًّا قالت فيه:
فيما يلي خلاصة المعاهدة التي جرت المفاوضة بشأنها بين حكومة جلالة ملك
بريطانيا وجلالة ملك الحجاز، أما المعاهدة فلم تبرم نهائيًّا حتى الآن وقد اقترح
جلالة الملك حسين تعديلات صغيرة لم تعرف تفاصيلها تمامًا والبحث جارٍ فيها.
المادة ١ تنص على وجود سِلم بين الحكومتين، وعلى منع استعمال بلاد
الحكومة الواحدة قاعدة لأعمال موجهة ضد الحكومة الأخرى.
وهذا نص المادة الثانية:
يتعهد جلالة ملك بريطانيا بأن يعترف باستقلال العرب في العراق وشرقي
الأردن والدول العربية في شبه جزيرة العرب ما خلا عدن وأن يعضد هذا الاستقلال.
وأما فيما يتعلق بفلسطين فقد تعهد صاحب الجلالة البريطانية بأن لا يجري شيء
في هذه البلاد مما يمكن أن يجحف بحقوق الأهالي العرب المدنية أو الدينية. وأما
إذا أبدت إحدى هاته الحكومات أو كلها رغبة في الاشتراك في الجمارك أو خلاف
ذلك بقصد إيجاد حلف في ما بعد - فإن صاحب الجلالة البريطانية يسعى لترويج
رغبتهم إذا طلب إليه ذلك المتعاقدون ذوو الشأن.
ويعترف صاحب الجلالة الهاشمية بالمركز الخاص الذي لجلالته البريطانية
في العراق وشرقي الأردن وفلسطين ويتعهد بأن يبذل غاية جهده في التعاون مع
جلالته البريطانية على القيام بتعهداته في المسائل التي تقع ضمن نفوذ جلالته
الهاشمية بشأن هذه البلاد.
في المادة الثالثة يتعهد جلالة ملك الحجاز بالمحافظة على العلاقات الودية التي
وجدت قبل الحرب بين جلالته وبين حاكم العسير وحاكم نجد.
في المادة الرابعة يتعهد صاحب الجلالة الهاشمية بأن يسعى في تسوية
المنازعات بشأن الحدود بين بلاده وبلاد حاكمي العسير ونجد بمخابرات ودية ويتعهد
صاحب الجلالة البريطانية بأن يسعى في المساعدة بتسوية منازعات كهذه عندما
يُرْغَب في ذلك.
وفي المادة الخامسة يتعهد صاحب الجلالة البريطانية بأن يصد بجميع
الوسائل السلمية والممكنة أي اعتداء يقع على بلاد جلالته الهاشمية ضمن الحدود
التي قد تقرر نهائيًّا.
المادة ٦ تنص على تعيين وكيل من قِبَل جلالته الهاشمية في لندن، وعلى
تعيين وكيل من قبل جلالته البريطانية في جدة أو أي مدينة ساحلية أخرى. ويجوز
لجلالته الهاشمية أن يعين أيضًا قناصل من قبله في إنكلترا والهند وكذلك يحق
لجلالته البريطانية أن يعين قناصل في جدة وغيرها من المدن الساحلية كما يرى
جلالته موافقًا ويتمتع هؤلاء الوكلاء والقناصل بالامتيازات السياسية والقنصلية
العادية.
في المادة السابعة يعترف صاحب الجلالة الهاشمية بالترتيبات الصحية
(الكورنتينات) الموضوعة مؤقتاً من قِبَل صاحب الجلالة البريطانية في (قمران)
قيامًا بنصوص الاتفاق الصحي الدولي الموضوع في سنة ١٩١٢.
ويتعهد صاحب الجلالة البريطانية بأن يعترف بالتدابير المتممة التي قد تتخذ
في جدة أو غيرها من المرافئ الواقعة في بلاد جلالته الهاشمية وفقًا لأنظمة
يصدرها صاحب الجلالة الهاشمية.
في المادة الثامنة يتعهد صاحب الجلالة البريطانية بأن لا يتدخل في التدابير
التي يتخذها صاحب الجلالة الهاشمية للاعتناء بالحجاج ويتعهد صاحب الجلالة
الهاشمية أن يعضد المساعي التي يبذلها الرعايا البريطانيون المسلمون لمساعدة
الحجاج في الحجاز.
المادة التاسعة تنص على تعيين مبلغ محدود كي يدفعه كل حاج، وعلى نشر
المبلغ المعين سنويًّا.
وتنص المادة العاشرة أيضًا على الاعتراف بالصفة الهاشمية التي لرعايا
جلالته الهاشمية في بلاد جلالته البريطانية وكذلك تنص على الاعتراف من قِبَل
جلالته الهاشمية بالصفة البريطانية التي لرعايا جلالته البريطانية في بلاد جلالته
الهاشمية.
المادة١١ تنص على تسليم أموال الرعايا البريطانيين ممن يموتون في
بلاد جلالته الهاشمية إلى المعتمدين البريطانيين في تلك البلاد، ويصير التصرف
بأموال كهذه وفقًا للقانون الساري على ظروف كهذه.
المادة١٢ تنص على حضور قنصل بريطاني في محاكم جلالته الهاشمية
عندما تنظر هذه المحاكم في قضية يكون فيها أحد الرعايا البريطانيين مدعيًا أو
مُدَّعًى عليه وعلى تأجيل أي حكم إذا رغب المعتمد البريطاني في إجراء المخابرات
طلبًا للعدالة.
ولا تسري نصوص هذه المادة في حالة الرعايا البريطانيين أو الأشخاص
الذين يتمتعون بحماية جلالته البريطانية القاطنين في بلاد جلالته الهاشمية بصورة
دائمة.
المادة١٣ تنص على تسليم صاحب الجلالة الهاشمية الرعايا البريطانيين
الذين يلقى عليهم القبض من قبل السلطات الهاشمية إلى البريطانيين بشرط أن
يعطي هؤلاء ضمانًا لإحضارهم عند الاقتضاء.
ولا تسري نصوص هذه المادة على الرعايا المقيمين بصورة دائمة في بلاد
الحكومة الهاشمية خارج جدة وغيرها من المرافئ التي قد يعين لصاحب الجلالة
البريطانية قناصل فيها.
المادة١٤ تنص على رؤية دعاوي الرعايا البريطانيين التي لا تمس فيها
مصالح رعايا الحكومة الهاشمية من قبل القناصل البريطانيين.
المادة١٥ تنص على التنازل من قِبَل جلالته البريطانية عن جميع الامتيازات
والاستثناءات خلاف المنصوص عليها في هذه المعاهدة التي كان يتمتع بها الرعايا
البريطانيون بمقتضى الامتيازات بين بريطانيا العظمى وتركيا.
المادة ١٦ تنص على إعلام جلالته الهاشمية المعتمد البريطاني عند ما
يرغب جلالته في إبعاد أحد الرعايا البريطانيين.
المادة ١٧ تعالج الشروط التي بموجبها يعترف صاحب الجلالة البريطانية
بعَلَم جلالته الهاشمية.
المادة ١٨ تصرح بأنه لا يجوز لأي الفريقين المتعاقدين الساميين أن يعقد أية
معاهدة أو اتفاق مع فريق ثالث ضد مصالح الفريق المتعاقد السامي الآخر.
المادة ١٩ تنص على أن لا شيء في هذه المعاهدة يبطل أي تعهد قد تعهد به
أو قد يتعهد به في المستقبل أحد الفريقين المتعاقدين الساميين بمقتضى عهد جمعية
الأمم.
المادة٢٠ تنص على تصديق هذه المعاهدة وأنها نافذة الفعل لمدة ٧ سنوات
من اليوم الذي توضع فيه موضع العمل.
هذه خلاصة المعاهدة التي نشرتها حكومة فلسطين البريطانية. فهم الناس منها في
فلسطين ومصر وفي كل مكان أنها تستثني فلسطين من البلاد العربية التي
يعترف ملك الإنجليز لها بالاستقلال- على ما فيه- معللة ذلك بأنه قد سبق للحكومة
البريطانية تقرير أمرها، وأنها تضمن للعرب في حكمها إياها حريتهم المدنية والدينية
أي لا يمنعون من البيع والشراء ورفع القضايا إلى حكامهم من الإنجليز واليهود،
ولا يمنعون من الصلاة والصيام - مثلاً - وجميع الناس يعلمون أن المراد بذلك هو ما
يسمونه الانتداب المتضمن لعهد بلفور بالوطن القومي لليهود، وهذه العبارة الضمانية
مأخوذة من صك الانتداب المذكور، هذا ما فهمه الناس كافة، وهو خلاف ما فهمه
الملك حسين أو أراد أن يُفهمه للناس في فلسطين وغيرها.
ولهذا قامت قيامة المسلمين في مصر وشايعتهم الجرائد كلها على الطعن في
هذه المعاهدة باسم الإسلام، فعسى أن يكون في هذا وفي رفض أهل فلسطين لها ما
يحمل الملك حسينًا على ترك عناده وإصراره على عقدها، أو يحمل الحكومة
الإنجليزية. وسنشرح مواد خلاصة المعاهدة في الجزء التالي، ونعجل في هذا
الجزء بإعلام الشعب البريطاني الحكيم بشعور العالم الإسلامي وشعور الأمة
العربية بهذه المعاهدة لعله يتدارك الأمر ويحول دون عقدها، ويتلافى شر ما نكرهه
من جعل العداء بين الإنجليز والإسلام أمرًا واقعًا نهائيًّا لا مفر منه. فإننا نعلم ما في
تفاقم هذا العداء من الضرر والفساد، وما في استبدال الصداقة به - إن أمكن - من
الخير الخاص العام. ولهذا القصد ننشر الخطاب التالي، على أن نُقَفِّيَ عليه بخطاب
آخر يبين للشعب الإنجليزي الطريقة المثلى لصداقة الإسلام والعرب كما بيناها
لحكومته من قبل:
((يتبع بمقال تالٍ))