أحمد عزت باشا العابد: لما وصلنا إلى جنيف كان قد جاءها من باريس أحمد عزت باشا العابد من كبار وجهاء وأغنياء سورية والذي كان الكاتب الثاني عند السلطان عبد الحميد، فاجتمعنا به زائرين، ودعوناه إلى حضور المؤتمر، فاعتذر بأنه مضطر إلى السفر إلى باريس لأعمال مالية يضره تأخيرها، وقال: إنه يشرح لنا رأيه فيما ينبغي أن نطلبه من تخفيف وطأة الوصاية على سورية، وهو ما كان طلبه بنفسه من وزراء فرنسة. فرددت عليه بأننا نحن طلاب استقلالٍ مطلقٍ من قيود الوصاية لا طلاب وصاية خفيفة، وأكبر عار على السوريين أن يقبلوا الوصاية، أو يسكتوا عن رفضها، ويقعدوا عن السعي لدرء نائبتها. ثم قلت له سرًّا: إنني أعلم أنك تخاف الفرنسيس أن يضروك إذا اتحدت معنا، وانتظمت في مؤتمرنا، ويمكنك أن تتلافى هذا الضرر بأن تمنَّ عليهم بأنك حاولت أن تخدمهم بالتوسط بيننا وبينهم، وجعْل دخول المؤتمر وسيلة إلى ذلك، ويمكنك أن تذكر ذلك لمَن تلقاه منهم في باريس، حتى الرئيس موسيو بريان، فلعلهم يأذنون لك بالعودة إلى هنا، ومساعدتنا على هذه الخدمة الوطنية، وأنت بمأمن من الضرر والاعتداء على أملاكك في الشام. قال: وفي الباطن أكون مع مَن؟ قلت: أنت بالطبع منا ومعنا في خدمة وطنك، وكُلٌّ يسلك طريقًا، والغاية واحدة، فأعجبه هذا الرأي فيما ظهر لي من وجهه وقوله؛ إذ قال: إنه يجتهد أن يعود من باريس إذا تمكن من إتمام عمله قبل انفضاض المؤتمر. كان هذا الحديث في يوم السبت (٢٠ أغسطس) ، وفي اليوم التالي زارنا قبل ذهابه إلى المحطة للسفر إلى باريس، فأعدت الحديث معه في وجوب مساعدة المؤتمر بنفسه وماله، وأتيته بدلائل وآيات، دينيات، وعقليات، وأدبيات، حتى حلف لي بالطلاق بأنه سيجتهد في العودة إلينا! وإن أدري أيجتهد في إقناع الحكومة الفرنسية، وإرضائها بذلك، أم في غير ذلك، وأما المساعدة المالية فقال: إنه مستعد لها، ولكن مثل هذا العمل يجب أن يشترك فيه جميع أغنياء البلاد، ومَن هو أكبر منهم كالملك حسين. قلت: نعم، إن ذلك واجب على الجميع، وعلى الملك حسين، وأولاده الذين كانوا من أسباب وقوع البلاء في هذه البلاد، ولكن تقصير بعض الناس فيما يجب عليهم لا يكون عذرًا لغيرهم، وعلى كل أحد أن يطالب نفسه بالواجب قبل أن ينظر إلى غيره ... وما أشبه هذا الكلام، الذي قابله بالتسليم، والاستحسان، ثم سافر إلى باريس، ومنها إلى الآستانة لأجل تعاهد أملاكه فيها، ومطالبة الدولة بصرف ما يستحقه من المعاش (التقاعد) على ما هي عليه من الفقر، وما منيت به من المصائب، والنوائب، ومنها فقد البلاد العربية كلها، على أن معظم ثروته العظيمة من خيرها وفضلها. زيارة رئيس لجنة الوصايات في جمعية الأمم: وفي أصيل يوم الأربعاء (٢٤ أغسطس) زُرنا رئيس لجنة الوصايات لجمعية الأمم موسيو (رابار) ، وهو من علماء سويسرة وأغنيائها، مستقل الفكر، مهذب الأخلاق، وكان توفيق أفندي اليازجي أخذ لنا موعدًا منه بهذه الزيارة؛ لأنه عرفه من قبل، وذهب معنا رفيقانا وهبي أفندي العيسى، ويوسف أفندي سالم، وأما الأمير ميشيل، فكان قد خرج من جنيف لزيارة شقيقته في مصطافها. وبعد التعارف دار الحديث بيني وبينه في مسألتنا، وكان المترجم بيننا زميلنا وهبي أفندي العيسى، وشاركه في ذلك الرفيقان الآخران. بدأت الكلام ببيان نظرية الرئيس ويلسون في مشروع جمعية الأمم التي اقترحها، ومكيدة الدولتين الاستعماريتين وخداعهما له بإدخال مسألة الوصاية (الانتداب) في عهدها؛ ليكون منفذًا لهما إلى ما تعاهدتا عليه من استعمار البلاد، واقتسامها بينهما، وأن هذا منافٍ للغرض الأول منها، وهو السلم الدائم بحرية الأقوام. ثم انتقلت من ذلك إلى سعي هاتين الدولتين إلى إبطال ثقة الشعوب المعتدَى عليها، وغيرها بجمعية الأمم، وإقناعهم بأنها آلة في أيدي رجالهما، وأننا مع ذلك لم نيأس من فائدتها ونفعها، ولا نجزم بأنه يسهل عليهما تسخير هذا العدد العظيم من مندوبي الدول الكثيرة لتحقيق مطامع دولتين، لولا مطامعهما لما وقعت أكثر الحروب في أوربة بجعْلهم استعبادهما للأقوام قانونيًّا مؤيدًا من العالم المدني كله. ثم انتقلتُ من هذه المقدمات إلى أن آمالنا في جمعية الأمم هي التي حملتنا على المجيء إلى جنيف؛ لأجل بيان حقيقة الحال في سورية وفلسطين لها، ثم شرحت له خلاصة تصرُّف الدولتين في سورية وفلسطين، وأنه من قبيل تصرف المالك في ملكه، على أن وجودهما هنالك بحسب القانون الدولي احتلال مؤقت في بلاد الأعداء لأجل حفظ النظام إلى أن يتم الصلح بينهما وبين الدولة صاحبة البلاد (ولا حاجة إلى ذِكْر ما قيل هنا؛ لأنه مما أودع بعد في النداء الذي وضعه المؤتمر، وقُدِّمَ للعُصبة) . ومما سألني عنه موسيو رابار في أثناء الحديث: أرأيت إذا خرج الجيش المحتل من بلادكم، وترك أمرها إليكم، أتقدرون على حفظ الأمن فيها، والقيام بشئون الإدارة؟ ، قلت: نعم، وأستدل على قولي بالحق الواقع لا بدعاوي تحتمل المناقشة، ذلك بأن الترك قد جلوا عن سورية، وتركوها لأهلها قبل وصول الحلفاء إليها، ولم يبقَ فيها أحد من ضباطهم، ولا من رجال الإدارة والقضاء منهم، وقد قام الأهالي السوريون بحفظ الأمن وسائر أعمال الحكومة عدة أيام، إلى أن احتلها الجيش العربي المؤلف من السوريين وغيرهم، وكانت جُل الأعمال الإدارية في أيديهم إلى أن شاركهم الجيشان البريطاني والفرنسي في احتلال البلاد، ولم يقع في هذين العهدين خلل، ولا تعدٍّ على أحد، كما صار يقع كثيرًا بعد احتلال الحلفاء، وذلك أن الحكومة كانت في عهد الترك بيد الأهالي، ولم يكن فيها إلا عدد قليل من موظفيهم يوجد فيها من أهلها مَن هم مثلهم، وأرقى منهم كما يوجد في ولاياتهم من موظفينا مثلهم، فقال: إن هذا شيء لم نكن نعرفه.. وبعد انتهاء الحديث شكرنا له عنايته بسماع حديثنا، وحسن لقائه لنا، وودعنا - كما ودعناه - ببشاشة الإخلاص، وكنا - كلما تلاقينا بعد ذلك - يسلم بعضنا على بعض سلام الأصدقاء. المؤتمر السوري الفلسطيني: لم نكد نلقي عصا التسيار في جنيف حتى بحثنا عن مكان لائق لنعقد فيه المؤتمر الذي دعونا إليه، وجئنا هذا البلد لأجله، فاهتدينا إلى بهوٍ عظيمٍ في دار كبيرة لبلدية المدينة معدة للاحتفالات، والمراقص، والمقاصف وغير ذلك من الاجتماعات العامة، فطلبناه، فأُجيب طلبنا، وبادرنا إلى عقد الجلسة الأولى في الموعد الذي ضربناه لعقده في الدعوة العامة إليه (٢٧ أغسطس) ، ولكن لم نلبث أن تلقينا برقية من تريستة بإمضاء (رياض الصلح) يُنْبِئ فيها بأنه سيصل إلينا غدًا حاملاً وثائق التوكيل من بعض الأحزاب السورية لنفسه ولمندوبين آخرين، وبرقية أخرى من الوفد العربي الفلسطيني المقيم بلندن، يُنْبِئُ فيها بأن شطر الوفد قد سافر إلى جنيف لمشاركتنا في المؤتمر، وبقي الشطر الآخر في لندن لمتابعة السعي في المسألة الفلسطينية من الوجهة البريطانية، وكنت قد كتبت إلى الأمير شكيب أرسلان عقب وصولي إلى جنيف كتابًا إلى برلين أنبئه فيه بوصولنا، وأسأله عن موعد مجيئه، وكان على علم بالمشروع، وبأنه من المختارين لحضوره، فجاءني منه كتاب باستعداده للسفر، وموافاتنا على جناح الطائر (وبعد ذلك بأيام جاءت برقية من طعان بك العماد - مندوب حزب الاستقلال العربي في الأرجنتين- تنبئ بأنه قادم لحضور المؤتمر، وكان قد وصل إلى إيطالية) . لأجل ذلك جعلنا الجلسة الأولى بالفعل جلسة تحضيرية، بحثنا فيها في النظام الإداري التمهيدي للعمل، وقررنا انتظار الوفود الجائية، والنظر فيما تحمله من أوراق اعتمادها، وانتدابها لحضور المؤتمر من قِبَل أحزابها، ثم تأليف المؤتمر من جميع المندوبين المعتمدين، وجعل الجلسة الأولى للتعارف، فانتخاب الرئيس، ونائب الرئيس، والكاتب العام (السكرتير) ومساعديه. ثم لم تلبث الوفود أن حضرت في المواعيد التي أنبأت بها، وكان وفد فلسطين مؤلَّفًا من الحاج توفيق حماد وأمين بك التميمي وشبلي أفندي الجمل، ولما أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا علمنا أن وفدهم يرجح التفاؤل على التشاؤم في قضيتهم، وأنه يرجو رجاءً قويًّا أن تكون فلسطين أسبق البلاد العربية إلى نيل الاستقلال، وهذا خلاف ما أعتقد أو نقيضه، وقد كثُر - بعد ذلك - البحث فيه. استطراد في مكانة فلسطين عند الإنكليز: ولما صرح لي بعضهم بذلك قلت: إنني أتمنى ذلك إلا أنه لا يعقل أن يقع إلا بعد وقوع الإنكليز في هوة العجز؛ فإن الدولة البريطانية الطامعة في البلاد العربية من مصر إلى منتهى ساحل خليج فارس تهتم بأرض البلاد المقدسة (فلسطين) ما لا تهتم ببقعة أخرى من البلاد العربية لأسباب دينية، وأدبية، وتاريخية، ومالية، وجغرافية وحربية؛ فإنها مهد المسيحية، وميدان الحروب الصليبية الإسلامية، وحيث قهر ملكها ريكارد قلب الأسد في حربه مع السلطان صلاح الدين، وبها استمالت إليها اليهود، وتمتَّعت بالملايين من أموالهم، واجتذبوا بسعيهم الولايات المتحدة إلى إنقاذها من ألمانية وبكيدهم وقعت الثورة الاشتراكية في الأسطول الألماني الذي كان مستعدًّا لتدمير الأسطول البريطاني، ثم في العمال الذين ألجئوا الحكومة الألمانية إلى طلب الصلح، على حين كانت ظافرة في الحرب، وهي مع ذلك متصلة بمصر وبالبحر الأحمر، فإذا كان لهذه البلاد كل هذه المزايا، وترى بريطانية العظمى أنها قد فتحتها فتحًا، أخذت به ثأر قلب الأسد والصليب، واستخدمت في فتحها من المسلمين المحاربين الهنود، ومن العمال المصريين في مد السكك الحديدية، وأنابيب المياه وسائر الأعمال الحربية أضعاف مَن استخدمت من البريطانيين المسيحيين، كما أنها استعانت على هذا الفتح بنفوذ شريف مكة وأولاده وأنصارهم من الحجازيين، والعراقيين، والسوريين، وإذا كانت جميع الكنائس البريطانية قد احتفلت بهذا الفتح الديني، وافتخرت به، وإذا كان وزير بريطانية الأكبر قد صرح في مجلس أمتهم الأعظم - بأن هذا الفتح خاتمة الحروب الصليبية، أي لا يُرجَى أن يكون بعده للمسلمين دولة قوية عزيزة تحارب في هذه البلاد، بل ولا في غيرها، أرأيت مع هذا كله تسمح بريطانية العظمى مختارة بأن تكون هذه البلاد مستقلة تابعة لدولة عربية ذات أكثرية إسلامية ساحقة، فتترك هذه المزايا راغبة عنها، وتغضب النصرانية في بلادها وسائر أوربا وأمريكا، وتنفر اليهود، وهي في أشد الحاجة إليهم في تعزيز ماليتها، والثقة بها! ، ولماذا تفعل هذا؟ ، أَلِأَجْلِ فضيلة الوفاء للعرب؟ ، أم لأجل ما يعتمد عليه ملك الحجاز من (الحسيات النجيبة البريطانية) ؟ ! الإنكليز أقدر مَن خلق الله من الإنس والجن على الخداع، فكيف وقد عززهم فيه خداع اليهود وكيدهم، ومن العجيب أن قد فضحت عواقب هذه الحرب كيدهم وخداعهم، ومع هذا نرى أجدر الناس بالحذر من هذا الخداع لا يزال الكثير منهم مخدوعين! ومن أساليب الخداع الإنكليزي الخفية ما سبق موقظ الشرق وحكيمه السيد جمال الدين إلى بيانه منذ عشرات من السنين، إذ قال: لا يظلم الإنكليز قومًا إلا ويقوم أفراد منهم يرفعون أصواتهم في الصحف، وعلى مقاعد مجلسي النواب والأعيان باستنكار ذلك الظلم، وعذل حكومتهم عليه، ومطالبتهم إياها برفعه؛ لأجل أن تظل آمال المظلوم معلقة بهم، لا يطلب العدل والرحمة إلا من قبلهم، ومن آفات هذه الخدعة أنها تصرف المظلومين عن مقاومة الظلم بما آتاهم الله من القوى الذاتية، وبسائر الوسائل التي تهديهم إليها سنن الله في الاجتماع البشري، وتدَعهم متَّكلين على خصمهم متوهمين أنهم يجدون من قومه عونًا لهم عليه، ويحذرون أن يغضبوا ذلك العون الموهوم؛ لئلا يخسروا عطفه، وكل مقاومة لحكومته لا بد أن تغضبه. هذا ما كان من رأي السيد الحكيم في انتصار بعض رجال الإنكليز لمَن تظلمهم حكومتهم، وهو واقع، ولكنه غير مطَّرد، وغرضه منه التحذير من الانخداع، ولم يبق ذو بصيرة ينخدع بعهودهم ووعودهم الرسمية بعد ما أظهرت عاقبة هذه الحرب من نكثهم وإخلافهم فيها، فكيف تنخدع بقول بعض الأفراد، وكُتاب الصحف غير المسئولين، وإن قالوا ما قالوا لمخالفتهم للحكومة في الرأي، أو انتصارًا لبعض الأحزاب على بعض؟ ! ، ولكن من الناس مَن [لا] تنفتح عين بصيرته إلا بعد طول التجربة بنفسه، وقد أطلنا في هذا الاستطراد لشدة الحاجة إليه في هذا الوقت، ولا نحسب إلا أن الوفد العربي الفلسطيني قد انتهى - أو ينتهي - في جهاده في لندن إلى معرفة كُنه هذا الأمر، وأنه أفاد في إطلاع كثير من خواص الشعب البريطاني على خطأ حكومته في المسألة الصهيونية. اختلاف نظريتي الاتحاد السوري والوفد الفلسطيني: دارت المذكرات بيننا وبين أعضاء الوفد الفلسطيني على مقاصد المؤتمر وغايته واسمه، فذكَّرناهم بأن دعوة حزب الاتحاد السوري إلى عقد المؤتمر مبنية على قواعده الأساسية في استقلال البلاد السورية، ووحدتها وشكل حكومتها، وأن لا مندوحة عن تسميته بالمؤتمر السوري الأول، فقالوا: إن الدول قد فصلت بعض مناطق البلاد من بعض، ووضعت لكل منها اسمًا، فإذا أُطلق اسم سورية الآن لا تدخل فلسطين في مسماه، فنقترح أن يسمى (المؤتمر السوري الفلسطيني) ، بل نشترط ذلك، فقَبِلنا بعد جدال طويل. وقالوا: إن الوحدة السورية قد تتعارض مع الوحدة العربية التي يطلبها أهل فلسطين، وإذا استقلت فلسطين دون سورية - أو قبلها كما ينتظر - فإن ارتباطها بالوحدة السورية يكون ارتباطًا ببلاد غير مستقلة فينا في استقلالها، فلا بد إذًا من طلب الوحدة العربية، أو طلب الاستقلال لكل من سورية وفلسطين على حِدَتها، فعزَّ هذا الطلب على الأمير ميشيل لطف الله؛ لأنه رآه هادمًا لأساس حزب الاتحاد السوري، فلم يقبله، فوقع الخلاف، وطال فيه الجدال، وكان الأمير شكيب في مقام التوفيق والجمع بين الرأيين، وذكر في هذا المقام مسألة لبنان، وأن من أهله مَن سبقوا الفلسطينيين في رفض الاتحاد مع سائر سورية، وكنت أنا حريصًا على إرضاء كل من السوريين واللبنانيين، وجعْل المقصد الأهم جمْع كلمة الجميع على الحرية، والاستقلال التام الناجز، وتفويض أمر الوحدة إلى الرأي العام في الشعب بعد أن يصير أمره بيده، وأرى أن هذا ليس ناقضًا لأساس حزب الاتحاد السوري؛ لأن له أن يظل يسعى إلى إقناع الشعب برأيه في وجوب الوحدة، والشعب هو صاحب الرأي الأخير في شكل حكومته، ووحدة البلاد وعدمها، وأن مطالب الأحزاب والمؤتمرات لا تقيده بما لا يقتنع به. وبعد طول البحث والمناقشة اتفقنا على الأساس الذي بنينا عليه أركان مطالب المؤتمر التي وضعناها بعد ذلك في النداء الذي وجهناه إلى جمعية الأمم، ومنها رفض الانتداب على كل من سورية، وفلسطين، ولبنان، وما يلزمه من إخراج الجيوش المحتلة لها منها. وكنا نخشى أن يعارض الفلسطينيون في هذا، لا لأنهم يقبلون الانتداب، ويرضَوْنه - حاشاهم الله من ذلك بصدق وطنيتهم، وإخلاص عقيدتهم - وإنما قيل: إن من سياسة وفدهم في أوربة السكوت عن الانتداب، والحملة على وعد بلفور بالوطن القومي لليهود؛ عسى أن يستميلوا إليهم كثيرًا من البريطانيين الذين يكرهون أن يكون لليهود نفوذ ممتاز في مهد النصرانية، ولكن موضع هذه السياسة لندن لا جنيف، وقد رضي أعضاء الوفد كلهم برفض الانتداب، ولله الحمد. أقول: (كلهم) تسجيلاً لهذه الفضيلة لكل فرد منهم؛ إذ من المعلوم المعهود أن ما تقرره الجماعات بالبحث والتشاور لا يكون كله بإجماع منهم، بل بعضه يكون باتفاق الرأي، وبعضه بترجيح رأي الأكثرين على الأقلين، وإن كان يُنسب إلى الجميع؛ لأنهم بتضامنهم يُعَدون كالشخص الواحد، وههنا أقول: إن المطالب المدونة في نداء المؤتمر الآتي كلها متفق عليها بين الأحزاب وأفرادها، وإنما كان الخلاف- الذي هو ضروري في أمثال هذه المجامع - محصورًا في بعض المسائل الجزئية، أو في العبارة التي تؤدَّى بها في لغتنا العربية، أو تُنقل بها إلى اللغة الفرنسية، مثال ذلك في الجزئيات القول بأن لبنانًا كان مستقلاًّ منذ أربعة عشر قرنًا، هو قول أُخذ من مذكرة زميلنا سليمان بك كنعان عضو مجلس إدارة لبنان، والموكل من قِبَل ألوف من أهله، وأنا أول منكر لهذه الدعوى على التاريخ، ولكن الأكثرين رأوا العضو اللبناني - الذي نعده ركنًا من الأركان - متمسكًا بهذه الدعوى، فوافقوه عليها؛ لأنها لا تنقض شيئًا من مقاصدنا. الجلسة الأولى للمؤتمر وانتخاب الرئيس: بعد الاتفاق على أساس مقاصد المؤتمر واسمه عقدنا الجلسة الرسمية الأولى (في ٢٧ أغسطس) ، وكان في أول ما وُضع من برنامجها في الجلسة التمهيدية أو التحضيرية انتخاب الرئيس ونائبين له ... إلخ، وكنا قد تحدثنا قبل الجلسة في مسألة الرياسة، واتفق المسلمون منا على انتخاب الأمير ميشيل لطف الله لعدة أسباب: (أهمها) : إثبات التكافل والتضامن الوطني بيننا في المسائل الوطنية العامة، بحيث يتفق على ذلك جماعة منهم، يكبرونه في السن، منهم الأمير العريق في مجد الإمارة التليد، المزيّن بمجد البراعة في السياسة والأدب الطريف - كالأمير شكيب أرسلان - والوجيه الزعيم في وطنه بصفاته الذاتية، ومجد أسرته - كالحاج توفيق بك حماد - وكذلك إحسان بك الجابري، ومكانته في أسرته من وجهاء حلب، وفي شخصه ومناصبه معروفة، والعالم الديني ذو النسب النبوي كصاحب المنار. ومنها أننا كلنا نعترف بأن الأمير ميشيل ليس له من المنافع في استقلال سوريا مثل ما لنا ولأمثالنا، ممن لهم في البلاد أهل وأملاك وأوقاف، ولا عليه من المضار في عدم استقلالها مثل الذي علينا وعلى أمثالنا، فكان فضله في إجهاد النفس، وبذل الوقت، والمال في سبيل استقلالها أكبر من فضل غيره من الساعين إلى ذلك، وناهيك بأكثر أغنياء البلاد الأشحَّة البخلاء الأنذال، الذين لا يعملون، ولا يساعدون العاملين ببذل قليل من المال! . هذا الاتفاق على الرياسة منعنا أن نجعل الانتخاب سريًّا بورق يُكتب، ولما صرح بعضنا به وافق الآخرون بالإجماع، ثم اقترح بعضهم أن يكون كل من صاحب المنار، والحاج توفيق بك حماد نائبي رئيس، والأمير شكيب الكاتب العام (السكرتير) ، فوافق الأعضاء على ذلك بالإجماع، واختير توفيق أفندي اليازجي مساعدًا للسكرتير، ثم وقف الرئيس، فشكر للأعضاء ثقتهم به، وانتخابهم إياه بعبارة يزينها ما عُهد فيه من الأدب والتواضع، ثم انعقدت الجلسة، وانتُخِبت اللجان للعمل، وتوالت بعدها الجلسات. ولما كان المؤتمر قد قرر أن تدوَّن أعماله في كتاب خاص يُطبع، نكتفي بهذه الخلاصة من خبر تكوينه، ونقفِّي عليها بنشر النداء الذي وضعه في عدة جلسات، ووزَّعه على رئيس جميع الأمة وأعضائها، وأرسله إلى وزارات دولها، والدول غير الممثلة فيها، وإلى جرائد سويسرة، وأشهر جرائد العالم؛ ليحفظ أثرًا تاريخيًّا في مجلتنا، وهذا نصه: نص النداء الذي قدمه المؤتمر إلى المجمع الثاني العام لجمعية الأمم: جنيف في ٢١ سبتمبر ١٩٢١ إلى سعادة هـ. ا. فان كارنبك رئيس المجمع الثاني العام لجمعية الأمم وإلى حضرات مندوبي الدول في هذا المجمع يا حضرة الرئيس ويا حضرات الأعضاء إننا نحن الموقعين أدناه - ممثلي الأحزاب، والفرق السياسية في سورية ولبنان ومعتمدي أهالي فلسطين من المسلمين، والمسيحيين الناطقين بلسان أهالي هذه البلاد - نتشرف بأن نلجأ إلى سلطة جمعيتكم العليا باسم المؤتمر السوري الفلسطيني المنعقد الآن في جنيف في بسط الحالة السيئة التي آلت إليها أمتنا، واستمداد معونتكم لها بجعْل حقوقها محترمة ومعترفًا بها. نقرع باب جمعيتكم واثقين بالمبادئ التي كانت أساسًا لبناء جمعية الأمم، والتي أنعشت في جميع القطار آمالاً مشروعة، ألا وهي احترام القوميات، وحق الأمم في تقرير مصيرها، وإقامة العدل، ومراعاة الشرف في العلاقات الدولية، ونبْذ سياسة الفتح، والدقة في رعاية العهود في الصلات المتبادلة بين الشعوب المنظمة. نلجأ إلى جمعيتكم عالِمين أنها بموجب الخصائص التي خوَّلها إياها عهد جمعية الأمم الموقع عليه في فرسايل في ٢٨ يونيو سنة ١٩١٩ مرجع لقضيتنا هذه، ولها فيها حق النظر والحكم وفقًا لروح هذه العهد. إن سورية وفلسطين ولبنان تسألكم بادئ ذي بدء الالتفات إليها، والاعتراف بحقها في طلب الاستقلال التام المطلق بمقتضى القواعد العامة لحقوق الشعوب، والعهود الخاصة المقطوعة لها في السنوات الأخيرة. إن الحرب الطويلة التي وضعت أوزارها، وأنجبت جمعية الأمم كانت صراعا بين فكرتين: فكرة القوة والغصب، وفكرة الحق والحرية، فالأمم التي كانت تقاتل تحت لواء الحق وضعت مبدأ استقلال الشعوب في طليعة مقاصدها من الحرب، وكان كُبَراء رجال الأمم المتحالفة يعلنون واحدًا بعد آخر - على منابر مجالسهم النيابية - أن الحرب لن تؤدي إلى فتوحاتٍ جديدةٍ، أو إلى ضم أقطار جديدة، وإنما يجب أن تسفر عن ظفر الحضارة واستقلال الشعوب. ولقد سمع الشعب السوري هذه التصريحات؛ فتقبَّلها بثقة تامة، وخاصة ما يضمن منها للشعوب الخاضعة للسلطة التركية السلامة التامة لحياتها، وحرية الارتقاء بدون عائق (مواد الرئيس ولسون الأربع عشرة) . فالشعب السوري المؤيَّد بهذه التصريحات يمتُّ إلى الأمم بتاريخ، ومقومات تؤهله أن يطالب بالاستفادة من تلك التصريحات، وبالاعتراف بسيادته وفقًا للمبادئ التي كان لها الفوز. وإذا كان تعريف الأمة - هو كما قرر كثير من كبار المشترعين - (مجموع أفراد من عنصر واحد ولغة واحدة وحضارة واحدة أُولي إرث تاريخي شامل عام وشعور بإرادة تأليف جماعة سياسية واحدة) - فإن سورية إذًا أمة، وإذا كان تحديد القومية هو الشعور بأخوَّة متينة، واشجة العروق، وحب متوارد لمسقط الرأس، فالأمة السورية هي ذات شعور قومي. إن وحدتي السلالة واللغة مؤكَّدتان بكوْن السحنة واحدة في جميع البلاد، وبكون اللسان العربي لسان الجميع، والغرباء الذين في البلاد لا يتجاوزون واحدًا في المائة، كما أن الحضارة العربية هي السائدة في البلاد، وهي أحد فروع شجرة المدنية الذي كان - مع الفرعين اليوناني والروماني - أصل الهيئة الاجتماعية الحاضرة، وسبب ازدهارها، ثم إنها لم تقف في سيرها؛ فالتعليم العربي منتشر في جميع البلاد بعشرات من المدارس العليا، ومئات من المدارس الثانوية، وألوف من المدارس الابتدائية، وهناك مدرستان جامعتان، و٦٢٠ مدرسة مختلفة الدرجة من مؤسسات الأجانب، تضم مجهوداتها إلى عمل المدارس الوطنية، وكان نحو من مائة جريدة تصدر في أنحاء سورية إلى حين انفجار الحرب العامة، ويقدر عدد القارئين والكاتبين في أكثر المقاطعات بستين في المائة، وأما الطبقة المستنيرة -من أدباء وشعراء ومؤلفين، وحقوقيين، وأطباء، ومهندسين - فعدد رجالها عظيم، وكثيرون منهم نالوا شهاداتهم من أوربة، ولهم في البلاد مركز رفيع، كما أن في البلاد جمًّا غفيرًا من الضباط المتخرجين من مدارس الحربية في الآستانة وفي أوروبا - قد أثبتوا كفاءتهم في تنظيم مصالح الأمن العام، ولما جلا الترك فجأة عن البلاد قام أهالي سورية بمهمة تنظيم بلادهم المحررة، وتشكلت في الحال لجان إدارية في كل ناحية، فوطدت أركان النظام والأمن العام، إلى أن احتلت جنود الحلفاء البلاد، ولما أُلقيت - بعد ذلك - مقاليد الإدارة في المنطقة الداخلية إلى حكومة وطنية كان الأمن والنظام فيها أثبت، وأتم منه في المناطق المحتلة، كما شهد بذلك الأجانب الذين زاروا البلاد في تلك الأثناء. إن تراث مجد السوريين المشترك لَغنِيّ عن الإشارة إليه، أية مدنية كانت أبهى وأبهر من حضارة عصر عبد الملك بن مروان، وهارون الرشيد، وصلاح الدين الأيوبي، وخلفائهم. ومَن ذا الذي لا يتذكر تألق أنوارها على سواحل بحر الروم، ولا يشهد تأثيرها العالق بناصية الحمراء، وبقباب كنائس بلرم (صقلية) إلى اليوم، ولا يمكن إنكار ما في شعبنا من الكفاءة السياسية، والإدراك السياسي، حتى إن حياتنا الإقليمية وتقاليدنا المحلية ظلت باقية لنا في عهد الحكم التركي نفسه. وفي سنة ١٩٠٨ أُعلن الانتخاب العام (في السلطنة العثمانية) ، فتمتع السوريون بجميع حقوقه، فكان عدد نواب العرب في الندوة العثمانية يتجاوز ثلث أعضائها، وكان لهم دور مهم في جلساتها وفي لجانها، وكانت سورية قبل الحرب تقوم بنفقات إدارتها، بل كانت الضرائب التي تدفعها تزيد عنها، فتفيض على ميزانية السلطنة العامة. إن شعور سورية القومي لم يزل ينمو منذ أوائل هذا العصر، وكانت الدعوة إليه تُبَثُّ بنشاط من قِبَل الصحف، والجمعيات الوطنية، وقد جاد فريق كبير من كبراء البلاد بأرواحهم على مشانق الترك تكفيرًا عن جرم التفكر في استقلال وطنهم. وإن القومية السورية متجلِّية فيما وراء الحدود والبحار أيضًا، فهناك جاليات سورية عديدة منتشرة في جميع القارات، ولا سيما في العالم الجديد، ولها صحفها وجمعياتها وأنديتها. وعند نشوب الحرب أعلن الملك حسين الأول استقلال العرب بالاتفاق مع معظم الجمعيات السياسية في سورية، ومنذ سنة ١٩١٦ قامت القوات العربية بمساعدة الإنكليز على هدم السلطنة التركية! ! ! وكان المقاتلة من العرب واثقين بأنهم يسعون لاستقلالهم؛ لأن الحلفاء كانوا يعلنون أنهم يكافحون دفاعًا عن حقوق الشعوب، ولم تكن آمال هؤلاء المقاتلة مبنية على تصريحات رجال السياسة فقط، بل على الوعود الصريحة التي قطعها للملك حسينٍ السر هنري مكماهون العميد البريطاني في مصر باسم إنكلترة، إحدى دول الحلفاء سنة ١٩١٥، وقد ضمنت هذه الوعود الاعتراف باستقلال بلادنا، فكل تلك الوعود والدماء التي أُهرقت في سبيل الغاية المشتركة كانت تعزز الآمال بإنشاء دولة سورية قائمة على النظام والحرية والسلام. ولكن لم يتم لسوء الحظ شيء مما كنا نؤمله، حتى إن لبنانًا - الذي كان يتمتع باستقلال ذاتي تام تضمنه الدول العظام - قد سُلب منه استقلاله؛ فطفق الشعب السوري ينظر إلى ماضيه، والخيبة ملء فؤاده! ولم تمر بضعة شهور على اليوم الذي ضمن فيه السر هنري مكماهون للعرب استقلالهم السياسي، حتى عُقد اتفاق سري بين مسيو جورج بيكو المندوب الفرنسي، والسر مارك سايكس ممثل الحكومة البريطانية، ظل أصحابه ينكرونه على ما كان من تثبيته في ٩ مايو سنة ١٩١٦ برسائل تُبودِلت بين مسيو بول كامبون والسير إدوارد غراي، هذا الاتفاق قضى على وحدة سورية وشطرها إلى منطقتي نفوذ، إحداهما فرنسية والأخرى إنكليزية، وهو يسلب الحكومة العربية حريتها الاقتصادية؛ بما أعطى للدولتين المتعاقدتين من حق الأولوية في المشروعات، والقروض، والسكك الحديدية، وشرع لأهم مناطق الساحل إدارات فرنسية وإنكليزية، تتولى الأمور مباشرة، أو بشكل حماية حقيقية على الأقل. وفي ٢ نوفمبر سنة ١٩١٧ صدر تصريح من الحكومة البريطانية بوعد اليهود في فلسطين بامتيازات لا تتفق مع حقوق أصحاب البلاد. ثم إنه بعد التوقيع على معاهدة فرسايل وعهد جمعية الأمم في شهر سبتمبر سنة ١٩١٩ - وقع التواطؤ بين المستر لويد جورج والمسيو كليمانصو على ما يؤيد اتفاق سايكس - بيكو، وعلى قسمة سورية نهائيًّا إلى مناطق، غريب بعضها عن بعض (انظر الملحق رقم ٢) . وإن الأمور التي جرت على أثر هذا الاتفاق، والتي سنأتي على ذكرها فيما بعد قد حققت - وللأسف - كل المخاوف التي أحدثها هذا الاتفاق. على أننا نريد أن نوجه نظركم - قبل كل شيء - إلى كوْن سورية التي هي أمة حقيقية، وقد وُعدت بالاستقلال تستحق بأن تطالبكم بالاعتراف بسلطانها القومي واستقلالها. إن المادة الثامنة والعشرين من عهد جمعية الأمم تنص على: (أن بعض الجماعات التي كانت من السلطنة العثمانية في ما سبق قد بلغت درجة من الارتقاء يمكن أن يعترف معها موقتًا بكونها أمة مستقلة، على شرط أن تسترشد إدارتها بنصائح ومساعدة تستمدها من دولة منتدبة، إلى أن تصير أهلاً للسير وحدها) ! فبهذا النص قد وضع بعض الجماعات تحت الانتداب، وأما الجماعات الأخرى - كالحجاز وأرمينية مثلاً - فقد اعتُبرت بالغة درجة كافية من الارتقاء، تُغنيها عن دولة منتدبة. إلا أن سورية - أيها السادة - تقيم لكم الدليل على رشدها السياسي، وحقها في السيادة تجنُّبًا للانتداب كأرمينية والحجاز، فهي بما أهرقته من دماء خيرة أبنائها، وبمظاهر مدنيتها الموروثة خلفًا عن سلف، وبارتقاء تنظيماتها السياسية المحلية والإيالية، وبانتشار تجارتها وصناعتها - قد أثبتت أنها أمة رشيدة، قد بلغت أشُدَّها، وأهليتها للحرية، فنطلب منكم أن تعلنوا في جمعيتكم - بمقتضى الحق الذي لا يمكن أن يماريكم فيه أحد - تحرير أمة حقيقية من انتداب لا فائدة منه. *** (٢) نوجه إليكم هذه العريضة بأصدق عزيمةٍ، وأرسخ إيمان بأنكم سترون من الوقائع التي نبسطها لكم ما يجعلكم تعرفون إلى أي حد قضى الانتداب - الذي ينفذون حكمه فينا - على استقلالنا، وكيف أصبح يهوي بنا إلى دركة مستعمرة من مستعمرات المنتدبين علينا. جاء في الفقرة الرابعة من المادة الثانية والعشرين التي تعين حدود الانتداب المختص بالجماعات العثمانية ما يأتي: (١) أن هذه الجماعات قد بلغت درجة من الارتقاء يصح معها الاعتراف بكونها أمة مستقلة. (٢) أن مهمة المنتدب قاصرة على المساعدة والنصح. (٣) أن رغائب الجماعات يجب أن توضع أولاً موضع الاعتبار عند اختيار الدولة المنتدبة. وسترون - كما نرى - أن هذه القيود المعينة في الانتداب لم يُحترم شيء منها، وأن استقلالنا ليس سوى لغو من القول. لقد قسمت بلادنا إلى مناطق كما ذكر آنفًا عملاً بمعاهدة سايكس - بيكو المؤيدة باتفاق لويد جورج، وكليمانسو في سنة ١٩١٩، فأخذ الإنكليز فلسطين، والساحل الفلسطيني، وأخذ الفرنسيس ساحل سورية الشمالية، واحتفظ الأمير فيصل بالمنطقة الداخلية؛ فأسفرت هذه الوقائع عن إحراج صدور الأهلين، والْتَأَمَ في دمشق مؤتمر سوري عام في شكل مجلس مؤسس، يتألف من مندوبين انتخبوا من المناطق الثلاث، وقد عَقَدَ هذا المؤتمر برغبة الرأي العام الشديدة جلسة عامة، وأعلن بالاتفاق مع الزعماء السياسيين، والرؤساء الروحيين من جميع الملل والنِّحَل - في ٨ مارس سنة ١٩٢٠ - استقلال سورية التام بحدودها الطبيعية أي مع فلسطين، ولبنان، ونادى بالأمير فيصل ملكًا دستوريًّا على البلاد، وانصرف إلى سنّ القوانين، وتنظيم الحكومة الوطنية التي كان لديها ممثلون للحكومات الأجنبية، على أن هذه السيادة على المنطقة الداخلية ما لبثت أن انتُزِعت في صيف سنة ١٩٢٠ كما تعلمون. بعث الجنرال غورو بإنذار نهائي إلى الملك فيصل في ١٤ يوليه سنة ١٩٢٠، طلب منه فيه حل جيشه، وقبول سلطته بلا قيد، ولا شرط، فلرغبة الملك في اجتناب سفك الدماء قَبِل شروط الإنذار على شدة المعارضة من المؤتمر والشعب، ولكن الجنرال غورو انتحل لنفسه حجة تافهة للزحف بجيوشه على دمشق، واحتلالها، ففعل، ولم يلبث أن عقد محاكم عسكرية حكمت حكمًا غيابيًّا بالإعدام على ستة وثلاثين شخصًا من الوطنيين بدعوى التواطؤ مع العدو، وفرض على البلد غرامة حربية تُدفع ذهبًا، وطفق يتصرف في البلاد - بعد ذلك - تصرف الفاتح. وفي ١٠ يوليه سنة ١٩٢٠ اعتقلت السلطة العسكرية الفرنسية أعضاء مجلس لبنان الإداري المنتخب من الشعب اللبناني، ودفعتهم إلى مجلس حربي فرنساوي، حكم عليهم بالنفي بسبب قرار أصدره ذلك المجلس اللبناني في ٩ يوليه سنة ١٩٢٠، طلب فيه المحافظة على استقلال لبنان، وحياده العسكري، وضمان الدول له، وعلاوة على ذلك أصدرت السلطة الفرنسية أمرها بإلغاء هذا المجلس؛ فقضت بذلك على نظام التمثيل النيابي في جبل لبنان. وقد قُسم الشعب السوري الآن إلى قسمين تحت سلطة سيدين مختلفين، تتولاه إدارة عسكرية أشد وطأة من أية إدارة في أي بلاد مغلوبة في الحرب، وقد زال كل ما كان يتمتع به الأهلون من الحرية في الولايات والألوية في زمن الترك. مُنع العلم السوري، ورُفع على الأبنية الرسمية علم وضعته السلطة الفرنسية لكل من الدول التي أحدثتها، ونقشت فيه العلم المثلث الألوان، ورفع العلم البريطاني في فلسطين، واشتدت وطأة القسوة والإرهاب عقابًا على أبسط الأحداث، وترون في الملحقات المربوطة بهذا مثالاً من المعاملات الجائرة التي يُعامَل بها أهالي بلادنا. يُخيَّل إلى الإنسان أنه في حُلم عندما يسمع الجنرال غورو يصرح بأنه يوطد الوصاية بالدم، وعندما يرى ست قرى و١٧ مزرعة تُدمَّر بسبب اعتداء شخصي (انظر الملحق الأول) . وأما ما كان في الأمور التجارية والمالية فخيرات البلاد تُستنزف بدون وازع، وثمة جيش من الموظفين يغلب في رجاله أنهم أقل كفاءة ودراية من سكان البلاد، يسومون الأهالي أنواع الخسف (انظر الملحق الثالث) ، والمندوب السامي كحاكم بأمره، بيده أوسع سلطة، والذي أرادوا القدوم إلى أوروبا من أهل وطننا - طلبًا للعدل - حُرِموا حرية السفر. نذكر لكم بمنتهى الحزن هذه الوقائع التي أنتجها إرخاء العِنَان لإدارة عسكرية مطلقة اليد، ونغتنم هذه الفرصة لتوجيه نظر مندوبي الدولتين المحتلتين إليها. إن لنا من عظيم الثقة بالشعبين الفرنسي والإنكليزي - اللذين دافعا عن حرية الشعوب في اليونان، وإيطاليا، وبلجيكا، والبلقان - ما لا يجعل لنا سبيلاً إلى الظن بأن الرأي العام فيهما لا يعطف علينا نفس ذلك العطف، عندما يقف على الحقيقة. نبسط هذه الوقائع لعصبة الأمم؛ فهي تُقترف باسمها، ولا شك أنكم تأبون - أيها السادة المندوبون - أن يُستعبَد شعب بأَسْره باسم مقاصدكم السامية، وباسم أوطانكم وباسم انتدابكم، العهد ناطق بأن مهمة المنتدب قاصرة على المساعدة والمشورة، ولم يكن في التصور أن يدخل في معناه إكراه أمة مستقلة على الخضوع لمثل نظام المفوضية السامية المطلقة في التصرف بسلطةٍ مماثلةٍ لسلطة حاكم في مستعمرة. إن أحد المؤلفين - المرتابين في عاقبة عملكم - قد عرَّف الانتداب في كتاب حديث وضعه في حقوق الدول (مارسل موان - سراي - باريز ١٩٢١، صفحة ٧٢) ، فقال: (هو مظهر من أخاديع السياسة الدولية يُقصَد به التلبيس في الاستيلاء على مستعمرة مشتهاة) ! . ولكن في نفوسنا من الاحترام لسمو الغاية - التي تتوخاها جمعية الأمم - ما لا يفسح لنا مجالاً للاعتقاد بأنكم لا تفندون هذا التعريف المعيب، الذي طالما تشدَّق به شر خصوم جمعية الأمم. إن السلطة التي تستمدونها - من المواد ٣ و ١١ و ٢٢ من عصبة الأمم - تخولكم أن تأخذوا قضية بلادنا هذه في أيديكم، وتسيروا بها في سبيل الحق. نتشرف بأن نلجأ إلى سلطتكم العليا؛ لنطلب منكم أن تجعلوا الدفاع عن حقوق لبنان، واستقلاله تحت حمايتكم؛ فهو مهدد بنظام الوصايات المذكور في المادة الثانية والعشرين من عهد جمعية الأمم، ومهدد أيضًا بالأسلوب الجائر الذي تفسر به الدولة المنتدَبة نصوص الانتداب. لقد كان لبنان - منذ ١٤ قرنًا - ذا وحدة سياسية مستقلة، متمتعًا بسيادته التامة، وكانت الحكومة العثمانية كلما حاولت تحديد حقوقه تبوء بالفشل المبين. ففي سنة ١٨٤٢ جربت تركيا وضع عمر باشا مندوبًا ساميًا، فاضطر إلى الرجوع بعد قدومه ببضعة أشهر، وهو الموظف الوحيد الذي رآه لبنان حتى سنة ١٨٦١. وتجنُّبًا لانفراد إحدى الدول العظمى في التحكم في لبنان وضع المجمع الأوربي الدولي سنة ١٨٦١ نظامًا أساسيًّا له، تقرر فيه مبدأ سيادته وحكمه الذاتي، وهذا النظام مؤسَّس على النقط الآتية: (أ) الاستقلال الإداري والاقتصادي. (ب) الحياد السياسي. (ج) ضمان الدول له. (د) سيادة تركيا الاسمية. ثم إن سيادة تركيا زالت بعد الحرب، فلم يبق بُدٌّ من أن تكون للبنان سيادته التامة مؤسسة على المبادئ الثلاثة الأولى المذكورة آنفًا، ولكن لم يكن شيءٌ من هذا القبيل ويا للأسف، إن استقلال لبنان قد خُرق باحتلال الجنود الفرنسية البلاد احتلالاً عسكريًّا، وخرق بتحكم الإدارة الفرنسية في جميع شئون البلاد، وهذان الخرقان من الأعمال القاضية على نظم لبنان الأساسية المحترمة من جميع الدول إلى هذا العهد. *** (٣) ثم إننا نوجه نظركم إلى إعطاء الحكومة البريطانية عهدًا لليهود في ٢ نوفمبر سنة ١٩١٧ بمنحهم وطنًا قوميًّا في فلسطين، وهذا العهد قد تكرر في المادة ٩٥ من معاهدة سيفر المعقودة في ١٠ أغسطس سنة ١٩٢١. إن هذا العهد مخالف لحقوق الأمم، ولا يتفق مع الوعود التي نالها الشعب العربي من السير هنري مكماهون المندوب البريطاني باسم الحلفاء. كان الشعب السوري مستعدًّا دائما لمقابلة الأجانب بحسن الوفادة، ولكن لا يجوز إكراه العرب أصحاب البلاد منذ أجيال على إعطاء اليهود وطنًا قوميًّا في فلسطين (انظر الملحق الثالث) . كان اليهود - قبل عشرين قرنًا - قد ملكوا بين غيرهم من الشعوب قِسمًا من فلسطين، فمهما يكن قدر ما نالته الحضارة من اليهود فليس ثمَّت مشترع ضليع يجرؤ على الادعاء أن تملُّكًا زال منذ عهد الإمبراطور تيطس يخول سلائل أصحابه الأقدمين حقوقًا ضد الوطنيين أصحاب البلاد الشرعيين الآن، فإذا فُتح الباب لمثل هذه الدعوى، فإلى أين المنتهى؟ ألا يجب عندئذ أن يسمح للعرب باسترجاع الأندلس ولليونان باستعادة سيراقوسه المدينة اليونانية في عهد أرخميدس. *** (٤) فالمؤتمر السوري الفلسطيني يطلب إذًا منكم - أيها الرئيس والأعضاء الكرام- ما يأتي: (١) الاعتراف بالاستقلال، والسلطان القومي لسورية وللبنان ولفلسطين. (٢) الاعتراف بحق هذه البلاد في أن تتَّحد معًا بحكومة مدنية مسئولة أمام مجلس نيابي ينتخبه الشعب، وأن تتحد مع باقي البلاد العربية المستقلة في شكل ولايات متحدة (فيدراسيون) . (٣) إعلان إلغاء الانتداب حالاً. (٤) جلاء الجنود الفرنسية والإنجليزية عن سورية ولبنان وفلسطين. (٥) إلغاء تصريح بلفور المتعلق بوطن قومي لليهود في فلسطين. فإذا لم يكن لدى عصبة الأمم الاستنارة الكافية، وأرادت أن توقن أن ما بسطناه هو رغائب الشعب الحقيقية، فنحن نرجوها أن ترسل إلى سورية، ولبنان، وفلسطين لجنة تحقيق ذات سلطة كافية؛ لتتمكن من إجراء تحقيق نزيه، وأن يُعطَى أهالي سورية من جمعية الأمم ضمانًا بأن يكونوا آمنين من انتقام المحتلين، واضطهادهم إذا أبدوا آراءهم بحرية، وذلك بأن تأمر بجلاء الجنود التي تضغط على الأهالي، وتفضلوا - أيها السادة - الرئيس والأعضاء بقبول فائق احترامنا. الأمير ميشيل لطف الله (رئيس) ... رئيس اللجنة المركزية لحزب ... ... ... ... ... الاتحاد السوري. السيد رشيد رضا (نائب رئيس) ... رئيس المؤتمر السوري العام في دمشق، ... ... ... ... ... ونائب رئيس الاتحاد السوري ومندوبه الحاج توفيق حماد (نائب رئيس) ... مبعوث سابق - رئيس الجمعية ... ... ... ... ... ... ... ... ... الإسلامية المسيحية في نابلس (فلسطين) ، ... ... ... ... ... ... ... ... مندوب المؤتمرالفلسطيني الممثل للأهالي ... ... ... ... ... ... ... ... ... المسلمين والمسيحيين. الأمير شكيب أرسلان (سكرتير عام) مبعوث سورية سابقًا، مندوب حزب ... ... ... ... ... ... ... ... ... الاستقلال العربي. سليمان كنعان ... ... (عضو) عضو مجلس لبنان الإداري. إحسان الجابري (عضو) سكرتير سابق لسلطان تركية - رئيس ... ... ... ... ... ... ... ... سابق لبلدية حلب ولتشريفات البلاط السوري - مندوب ... ... ... ... ... ... ... حزب الاستقلال العربي. أمين التميمي ... (عضو) في الوفد العربي الفلسطيني ومندوبه- ... ... ... ... مستشار رئيس الوزارة في دمشق سابقًا-مفتش ... ... ... ... ... ... ... ملكي في السلطنة العثمانية سابقًا. وهبة العيسى ... ... ... (عضو) رئيس اللجنة الفلسطينية بمصر ومندوبها. شبلي الجمل ... ... ... (عضو) مندوب الوفد العربي الفلسطيني وسكرتيره ... ... ... ... ... ... وأحد أعضائه. رياض الصلح ... ... (عضو) مندوب حزب الاستقلال العربي. نجيب شقير ... ... ... (عضو) مندوب حزب الاستقلال العربي. صلاح عز الدين ... ... (عضو) مندوب الجمعية السورية الوطنية في ... ... ... ... ... ... ... بوسطن. طعان العماد ... ... (عضو) مندوب الحزب الوطني في الأرجنتين. جورج يوسف سالم ... ... (عضو) مندوب حزب تحرير سورية في ... ... ... ... ... ... ... نيويورك. توفيق اليازجي ... ... ... (عضو) مندوب حزب استقلال سورية ووحدتها ... ... ... ... ... ... في سانتياغو (شيلي) .
(المنار) صرفنا النظر عن نشر ملحقات هذا النداء في الرحلة، وقد طُبعت معه على حدة، ووُزِّعَتْ مجانًا. ((يتبع بمقال تالٍ))