للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد بهجت البيطار


كتاب الموجز في الاجتماع
بحث علمي ديني للأستاذ الشيخ محمد بهجة البيطار
عضو المجمع العلمي بدمشق والمؤتمر الإسلامي بمكة المكرمة
(٢)
(تابع لما نشر في ج٤ ص ٢٩٥)
الرابع
مبحث الخلافة الإسلامية
الحكم في الإسلام أهو ثيوقراطي أو ديمقراطي؟
عد حضرة المؤلف الخلافة في الإسلام من النوع الثيوقراطي، قال: وهو
الحكم الذي يستمد نفوذه وقوّته من الله، والقائمون بهذا الحكم باسم الله يحكمون
وباسمه يتكلمون، حتى إنهم لينزلون أنفسهم من الله في منزله الوزراء. أهـ
أقول: يبدو للإنسان إزاء هذه الكلمة آراء ووجوه:
(١) أن الحكم في الخلافة الإسلامية لله وحده على قاعدة العدل والمساواة
بين الناس في الحقوق، لا فرق في ذلك بين الصعاليك والملوك، قال تعالى: {إِنَّا
أنزَلْنَا إِلَيْكَ الكِتَابَ بِالحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلاَ تَكُن لِّلْخَائِنِينَ خَصِيماً} (النساء: ١٠٥) وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ
عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ} (النساء: ١٣٥) وقال: {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ
قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} (المائدة: ٨) أي: لا يحملنكم بغض
قوم لكم أو بغضكم لهم على ألا تقيموا سنة العدل فيهم، ثم أمرهم بالعدل الكامل
الشامل للمسلمين وغيرهم على اختلاف طبقاتهم بقوله (اعدلوا) وحذف المعمول
يؤذن بالعموم.
ومن هذا النوع قصة المخزومية التي أوردها المؤلف في كتابه عن
الصحيحين وأنها لما سرقت أهم قريشًا أمرها، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم
معاتبًا أسامة الذي استشفع لها (أتشفع في حد من حدود الله؟ والله لو أن فاطمة بنت
محمد سرقت لقطعت يدها) فهذه الخلافة هي المثل الأعلى في حكومات الأرض،
وهي التي جرى عليها الخلفاء الراشدون من بعد، وسأنقل عن الأستاذ المؤلف
تفضيلها على كل حكومة أخرى.
(٢) لا نعرف أحدًا من خلفاء المسلمين الراسخين يدعي لنفسه هذه الرتبة،
(ينزل نفسه منزلة الوزير من الله) ، أو يزعم أنه مؤيد بالعصمة، كما هو شأن
رجال هذا النوع من الحكم، ولا نعرف في الإسلام أقل حق يمتاز به أكبر خليفة
عن أصغر واحد من الرعية، وليس الإمام إلا حافظًا ومنفذًا للأحكام العادلة المأخوذة
أو المستنبطة من النصوص الشرعية العامة تحت مراقبة أولي الأمر، وهم أهل
الحل والعقد والشورى في الإسلام، ويبقى له هذا الأمر، وتجب طاعته فيه،
وإعانته عليه مدة استقامته كما أمر، فإذا أعوج وجب تقويمه بالكلام أو بحد الحسام
يؤيد ذلك قول عمر رضى الله عنه: إن رأيتم فيَّ اعوجاجا فقومومني بألسنتكم، قالوا:
بل نقومك بسيوفنا، فإذا لم يرجع إلى الحق وجب خلعه، ما لم تترتب على ذلك
مفسدة أكبر من مفسدة بقائه.
(٣) الظاهر أن المؤلف يعرض بالحكومة الإسلامية في دور التقهقر
والخذلان أيام تغلغل نفوذ الأعاجم - الذين لم يرسخوا في الإسلام رسوخ أهل
العرب فيه في البلدان الإسلامية باستعمال الملوك إياهم، وفشت أخلاقهم في
المسلمين، فتعطلت أحكام الخلافة، وعادت اسمًا بلا مسمى، ولفظًا بلا معنى،
وطفق المتملقون والمستجدون من الشعراء، يكيلون المدح لمن سموهم خلفاء
المسلمين جُزافًا، وانتهى الأمر باجتياح التتار بلاد المسلمين، والقضاء على
الخلافة الإسلامية العربية.
(٤) فتن كثير من الناس بما صنع الترك الكماليون من القضاء على الدولة
التي كانت تنتحل اسم الخلافة واستبدال حكومة جمهورية لا دينية بها، وظنوا كما
ظن زعماء الترك أن هذه الفعلة الشنعاء هي التي أورثتهم استقلالهم، وأن الإسلام
هو الذي كان عثرة في سبيلهم، وموغرًا لصدور الأوروبيين عليهم، فلما وضعوا
القبعة على رؤوسهم وعملوا بقوانين أهلها زال تعصب الغربيين عنهم، وصاروا
يعاملونهم معاملة أنفسهم؛ لأنهم صاروا أمة متمدنة في نظرهم! !
والجواب من وجوه:
(الأول) : أن رئيس الجمهورية قد صرح بأنهم لم ينالوا استقلالهم إلا بالقوة
الحربية التي استخدموها في الدفاع عن حوزتهم، واسترداد ملكهم.
(الثاني) أن المعروف أنهم انتصروا باسم الدين لا الإلحاد، وهم أثناء
الحرب قد أزالوا المنكرات من بلادهم بأيديهم كالمواخير العامة والحانات وغيرهما.
(الثالث) أن الإفرنج لا يبغضون من الإسلام حروفه، وإنما يبغضون منه
ما يوجبه على أهله من الأخذ بأسباب النصر، والتماس وسائل القوة والعزة والثروة
والسيادة في الأرض {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ} (الأنفال: ٦٠) ،
{وَلِلَّهِ العِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} (المنافقون: ٨) ، {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ
وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ} (النور: ٥٥) . فهذه الوسائل
والمقاصد يحاربها الغرب الطامع المستعبد حيثما وجدت، وتحت أي عنوان استترت
أو ظهرت، سواء أكان إسلامًا أم إلحادًا، صلاحًا أم فسادًا، وهم الآن إذا جاملوا
الكماليين فلقوتهم وبأسهم، لا لكفرهم أو فسقهم.
(الرابع) أن عمل الجمهورية على كونه فعلة شنيعة في الإسلام - مناقض
للقواعد الاجتماعية، مخالف للسنن الكونية، بل هو ضربة قاضية على الحكومة
الديمقراطية، ذلك بأنه ليس مستمدًّا من روح الأمة، بل هو مخالف لعقيدتها وتربية
دهمائها، وقد أوقد عملها في شعبها الآمن المتدين نار الثورة، وأثار عليها حفائظ
الانتقام، وفتح بابًا الدسائس الأجنبية في بلادها، فهي تضعف باقتتالها من حيث
تطلب القوة، وتنقسم على نفسها من حيث تريد الوحدة.
(الخامس) أنها لو أرادت أن تتمتع وتعيش - كشعب أوروبي - بالقوة
والثروة والوحدة والنظام لما رأت في الإسلام ما يعارض ذلك، بل الإسلام قد سبقها
وسبق أوربا بمئات السنين إليه، وجرى ملوكه العدول أيام حضارتهم عليه، ولكنها
أرادت أن تعيش كأشد شعب أوربي إيغالاً في المفاسد، وتفننًا في الرذائل،
كاستباحة الإبضاع والأموال وغيرهما. وهذه من آفات المدنية المادية، ومقطعات
روابط الهيأة الاجتماعية، وهي ما تنزهت عنه مدنية الإسلام، وامتازت به
حضارته الأخلاقية - التي أساسها العدل والفضيلة - على سائر المدنيات التي تبيح
الظلم والرذائل.
(السادس) أن الله تعالى قيض للإسلام حماة ودعاة في الشرق والغرب،
وتجددت دعوته بقوة في جزيرة العرب، وبدأ ينقشع عن محياه ما تكثف عليه من
غيوم البدع والأوهم، وما علق به من شبه الماديين وأعداء الإسلام، فمن مرقوا
منه بفتنة تفرنج أو شبهة إلحاد، عوضنا المولى عنهم بمن هم خير منهم.
***
الحكومة الإسلامية ديموقراطية
وبعد هذا كله أقول: إن الخلافة في الإسلام هي روح الديموقراطية الحرة؛
لأنها تستمد قوانينها من كتاب الله الحكيم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من
خلفه تنزيل من حكيم حميد، ومن سنة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم التي تبين
للناس ما نزل إليهم من ربهم.
ومن مميزات هذه الحكومة الإسلامية على سائر الحكومات النيابية المدنية أن
قوانينها مبنية على النصفة والعدل، (لا ضرر ولا ضرار) بخلاف هذه القوانين
التي تبيح كثيرًا من الضرر بالنفس والعقل والعِرْض والمال.
ومن مميزاتها الرجوع عند تنازع أولي الحل والعقد إلى كتاب الله تعالى وسنة
النبي صلى الله عليه وسلم، وهما الأصلان اللذان تسلم الأمة لحكمها تسليمًا،
والقول في كل قضية لمن كان أصح دليلاً، وأهدى سبيلاً، وأدنى في حكمة إلى
المصلحة العامة، بخلاف المجالس القانونية التي كثيرًا ما تحكم الأكثرية فيها بما
تملي عليها المصلحة الخاصة أو الهوى، وتخالف الحق الصريح مخالفة ظاهرة،
فلا هي معتقدة بصحة حكمها، ولا الأقلية المنصفة مقتنعة بفساد رأيها، ولكنها
تكون مغلوبة للأكثرية.
قال الأستاذ الإمام في كتاب الإسلام والنصرانية: (ولا يجوز لصحيح النظر
أن يخلط الخليفة عند المسلمين بما يسميه الإفرنج (كراتيك) أي سلطان إلهي، فإن
ذلك عندهم هو الذي ينفرد بتلقي الشريعة عن الله، وله حق الأثرة بالتشريع، وله
في رقاب الناس حق الطاعة، لا بالبيعة، وما تقتضيه من العدل وحماية الحوزة،
بل بمقتضى الإيمان، إلى أن قال:
يقولون: إن لم يكن للخليفة ذلك السلطان الديني، أفلا يكون للقاضي أو
المفتي أو شيخ الإسلام؟ وأقول: إن الإسلام لم يجعل لهؤلاء أدنى سلطة على العقائد
وتقرير الأحكام، وكل سلطة تناولها واحد من هؤلاء فهي سلطة مدنية قررها الشرع
الإسلامي) .
وقال عالم الإسلام السيد محمد رشيد رضا منشئ المنار الأغر في كتابه
(الخلافة أو الإمامة العظمى) ص ٩١: (إن صحفنا العربية تصرح في هذا العهد آنًا
بعد آخر بأن أحدث أصول التشريع هو أنه حق للأمة، ويظن هؤلاء الذين يكتبون
هذا، وأكثر من يقرءون كلامهم أن هذا الأصل من وضع الإفرنج، وأن الإسلام لا
تشريع فيه للبشر؛ لأن شريعته مستمدة من القرآن، والأحكام المدنية والسياسية فيه
قليلة محدودة، ومن السنة - والزيادة فيها على ما في القرآن قليلة، ومناسبة
لحال المسلمين في أول الإسلام دون سائر الأزمنة ولا سيما زماننا هذا، وأن
الإجماع والاجتهاد - على استنادهما إلى الكتاب والسنة قد انقطعا، وأقفلت أبوابهما
باعتراف جماهير علماء السنة في جميع الأقطار الإسلامية، وأن هذا هو السبب في
تقهقر الحكومات الإسلامية المتمسكة بالشريعة الدينية واضطرار الحكومتين المدنيتين
الوحيدتين التركية والمصرية إلى استبدال بعض القوانين الإفرنجية بالشريعة
الإسلامية تقليدًا ثم تشريعًا! !)
ثم بين منشأ هذا الغلط العظيم، وساق أدلة الاشتراع في الإسلام بنحو ثلث
صحائف (ثم قال) :
(فنبين بهذا أن للاشتراع المدني والجنائي والسياسي والعسكري دلائل
كثيرة، منها قواعد الضرورات ونفي الحرج، ومنع الضرر والضرار، فلو لم
ينص في القرآن على أن أمور المؤمنين العامة شورى بينهم، ولو لم يوجب طاعة
أولي الأمر بالتبع لطاعة الله وطاعة الرسول، ولو لم يفرض على الأمة رد هذه
الأمور إليهم ويفوض إليهم أمر استنباط أحكامها، ولو لم يقر النبي - صلى الله
عليه وسلم - معاذًا على الاجتهاد والرأي فيما يعرض عليه من القضايا والأحكام
التي لا نص عليها في كتاب الله ولم تمض فيها سنة من رسوله - لو لم يرد هذا كله
وما في معناه - لكفت الضرورة أصلاً شرعيًّا للاستنباط الذي يسمى في عرف هذا
العصر بالتشريع. وراء هذا وذاك عمل الأمة في صدر الإسلام، وخير القرون،
وكذا ما بعدها من القرون الوسطى التي خرجت فيها الخلافة الكافلة للأمور العامة
عن منهج العلم الاستقلالي فزالا معًا لتلازمهما) اهـ.
ومن أراد تحقيق كون حكومة الخلافة في الإسلام أعدل حكومات الأرض
وأفضلها فعليه بمراجعة كتاب الخلافة أو الإمامة العظمى الذي أثرنا عنه هذه الكلمة،
وكتاب (نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم) ، لمؤلفه العلامة الجليل السيد محمد
الخضر التونسي، فإنهما من خير ما أخرج للناس في هذا العصر.
***
الخامس
مبحث الدين والعلم
قال صاحب (الموجز) ص ٧٢: وعلى رجال العلم ألا يتقيدوا فيما يذهبون
إليه بشيء من عوامل الدين والسياسة، بل بما توحيه إليهم معارفهم، وبما توصلهم
إليه مساعيهم. أهـ
أقول: لا يخفى أن دين الحق لا يصادم العلم الصحيح، ولا يمنع أهله من
الاستفادة من نتائج قرائحهم، وثمرات معارفهم، بل يدعو إلى الاستزادة من العلم
والتحقيق فيه، ولكنه والعقل الصحيح يأبيان أن تتخذ المذاهب العلمية المتضاربة،
والآراء الكثيرة المتباينة أصولاً صحيحة ثابتة يرجع إليها، ويعتمد عليها،
ويجعل كل ذي مذهب، أو رأي مذهبه، أو رأيه قاعدة يحاول رد ما هو أقوى حجة
منها إليها، ومعلوم أن عوامل السياسة التي تعتمد الكذب لا تستوي مثلاً مع تعاليم
الدين التي توجب الصدق في كل شيء إيجابًا لا هوادة فيه.
وأذكر أني قرأت عن اللورد هدلي الإنكليزي تصريحه بأن سبب إسلامه هو
أنه ظهر له أن الآيات الكونية في القرآن الكريم لا تنبني إلا على أساس صحيح.
قال: وإذا اختلف القرآن مع العلم في شيء فيجب علينا أن نعترف للقرآن
بالصحة وأن معلوماتنا قاصرة بعد، وننتظر الزمن الذي تجيء فيه القضية العلمية
موافقة للتعاليم الإسلامية، وضرب لذلك مثلاً فقال: قضى الناس أجيالاً وهم
يحكمون بدوران الشمس حول الأرض التي زعموا أنها ثابتة، ثم عكسوا القضية
وحكموا بدوران الأرض حول الشمس، وأن هذه هي الثابتة، ثم صح عند العلماء
المتأخرين أن للشمس أيضًا حركة محورية.
قال: والقرآن الكريم الذي كانوا يخطئونه بأحكامهم الباطلة قد صرح بحركة
الأرض، وحركة الشمس المحورية منذ أكثر من ثلاثة عشر قرنًا. قال تعالى:
{وَتَرَى الجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} (النمل: ٨٨) . وقال سبحانه: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ العَزِيزِ
العَلِيمِ} (يس: ٣٨) . اهـ
على أن علماءنا قد صرحوا بأن النص الديني إذا خالف قاعدة قطعية وتعذر
الجمع بينهما أول النص بما ينطبق على العلم، ويتفق مع العقل [١] .
***
السادس
معنى كون الشرع صالحًا لكل جيل في كل زمن
قال صاحب (الموجز) : وكما أنه لا سبيل إلى وضع شرع دفعة واحدة،
فكذلك لا سبيل إلى أن يختم عليه بعد وضعه فيقال: (هذا هو الشرع الذي يصلح
لكل جيل في كل زمن) .
أقول: المراد يدفع الإيراد، وهنا يحسن بي جدًّا أن أوثر كلمة عن كتاب
(الخلافة) لحجة الإسلام في هذا العصر، منشئ المنار الأغر، وأخرى عن رسالة
(القضاء في الإسلام) لصديقنا الأستاذ الكريم مؤلف (الموجز) وكلتاهما في بيان
المراد من كون الإسلام صالحًا لكل جيل في كل زمن، وهو قول الأمة بالإجماع،
قال في كتاب الخلافة باختصار: (الإسلام هداية روحية، وسياسة اجتماعية مدنية،
فأما الهداية الدينية المحضة فقد جاء بها تامة أصلاً وفرعًا، وفرضًا ونفلاً، وأما
السياسة الاجتماعية المدنية، فقد وضع الإسلام أساسها وقواعدها، وشرع للأمة
الرأي والاجتهاد فيها؛ لأنها تختلف باختلاف الزمان والمكان، وترتقي بارتقاء
العمران، وفنون العرفان، ومن قواعده فيها أن سلطة الأمة لها، وأمرها شورى
بينها، وأن حكومتها ضرب من الجمهورية، وخليفة الرسول فيها لا يمتاز في
أحكامها على أضعف أفراد الرعية، وإنما هو منفذ لحكم الشرع ورأي الأمة، وأنها
حافظة للدين ومصالح الدنيا، وجامعة بين الفضائل الأدبية والمنافع المادية، وممهدة
لتعميم الأخوة الإنسانية بتوحيد مقومات الأمم الصورية والمعنوية، ولما طرأ
الضعف على المسلمين قصروا في إقامة القواعد وضعف الأصول، ولو أقاموها
لوضعوا في كل عصر ما يليق به من النظم والفروع.
وقال الأستاذ عارف بك في آخر رسالة القضاء والإسلام ما يأتي:
(إن أهل العصر الحاضر يزعمون هذا الشرع غريبًا عن قضايا العقوبات
جملة - دع الأصول الحديثة - بعيدًا عن روح العدل في هذا الباب، على حين رأيتم
ما بينهما من الصلة والعلاقة. ولو أنه أتيح لهذه الشريعة خلف سار على سنة ذلك
السلف، لانفردت عن الأشباه، وتنزهت عن النظائر، وهو إن كان شرعًا إسلاميًّا
فقد كفل العدل والنصفة لكل من نزل على حكمة مسلمًا كان أو غير مسلم.
لهذا وأمثاله لقبت هذه الشريعة بالسمحة، وهذه هي المفاخر الصحيحة التي
يعرفها التاريخ الحق، لا تلك البدع العريقة بالوهم، فإذا استفاق الخلف، واقتفى
سنة السلف، ونبذ القشور، وعاد إلى اللباب، فقد عاد إلى هذا الوطن عصره
الأول، الأغر المحجل.
وأقول: إن أئمة الإصلاح الإسلامي في هذا العصر عاملون على تحقيق هذا
المطلب الخطير، ومريدوهم في كل قطر جارون على طريقتهم فيه، وقد بدت
ثمرة الإصلاح، وظهرت بوارق النجاح، وأقرب طريق وأفضله فيما نرى
للوصول إلى هذه الغاية النبيلة - أي عود العصر الذهبي - عصر السلف الصالح
هو إحياء طريقتهم المثلى التي نالوا بها ما نالوا، وهي أن يكون مؤلفو العلوم
والفنون ومدرسوها منا متشبعين بالروح الإسلامية، متضلعين بالعلوم الشرعية؛
لكيلا يقع في درسهم وبحثهم ما يوقع الانشقاق بين العلم والدين، وتسوء به حالة
المتعلمين وأن يكون لرجال الدين مشاركة في العلوم الكونية لئلا يحسبوا النافع منها
ضارًّا والمؤيد للدين مخالفًا له، فيحاربون العلم باسم الدين، فيسيئون إلى أمتهم
ودينهم وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا.
كتبت هذه الكلمة ومكتبتي - مخطوطها ومطبوعها - بعيدة عن عيني، وزند
الأسى والأسف ينقدح في صدري بما أصاب الشام من الكوارث العظمى، لا سيما
كارثة الميدان، التي تشيب لهولها الولدان، ولكن لم يسعني إلا امتثال أمر الأستاذ
العارف، الذي تفضل علي بإهداء مؤلفه الجليل، وأمرني بكتابة كلمة فيه، فجعلت
كلمتي خدمة للعلم والدين، وتوحيدًا لأفكار الناشئين المتعلمين {إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ
الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} (هود: ٨٨) .
وأرجو العفو عن التقصير فإن الفكر سابح في وادي حالة البلاد، والقلب
معذب بما أصاب العباد، ونسأله سبحانه كشف البلاء، وتحقيق الرجاء بمنّه وكرمه.
وقد فرغت من كتابتها يوم الجمعة ٢٥ شوال سنة ١٣٤٤هـ.
... ... ... ... ... ... ... ... ... دمشق
... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد بهجت البيطار