الشذرة العاشرة من جريدة الدكتور أراسم [*] (التقليد والذاكرة) مثل هاتين القوتين في فتنة العقل والتغرير به كمثل الفتانات الخرافية التي كانت تظهر في بحر صقلية وتستهوي الملاحين بشجي صورتها فتوردهم في شعابه مورد الهلكة فإنهما بعلو مكانتهما وجلال خطرهما في دراسة اللغات وبخداعهما العقل أحيانًا في آدابها بما يأخذانه عن الغير من محاسن القول وطرائفه يأكلان الاستعداد الحقيقي أكلاً، وقد يكون الذنب في ذلك على المربين دونهما لما ينهجونه من طريقة التربية فإن أحدًا لا يرتاب في كون تينك القوتين من المواهب الخلقية الميمونة، بيد أن هذا لا ينبغي أن يكون سببًا للإفراط في تنميتها فإنك ترى التلميذ الذي تربى على طريقتنا يصف لك بما قرأه في الكتب أشياء لم يرها في حياته ويفوه أمامك بجمل من القول المنثور أو المنظوم تدل على ضروب من الوجدان وهو لم يشعر بشيء منها قط ويبدي من الهيج والانفعال في بعض أحوال لا علاقة له بها من حياة غيره ما لا أثر له في نفسه ولو أنك سألته أن يتغنى بذكر الأشجار وظلالها والأنعام ورعاتها والربيع وأزهاره لوجد فيما يذكره من محفوظاته جميع ما قاله فيها فرجيل [١] وهوارس [٢] من النعوت والأوصاف ومع أنه قد يكون خيرًا له أن يذهب إلى المزارع ويرى بنفسه ما يحصل فيها وكيف يحصل تراه شديد الاحتراس من موافاتها خشية أن يخسر فيها وما تواضع عليه الأقدمون من الصور اللفظية لتأدية ما كان يعرض لأذهانهم من المعاني والأفكار وإذا استوصفته قتالاً انبرى يصف لك ما استعمل فيه من الآلات وكيف كان اصطدام الجيشين بألفاظ مطنطنة وعبارات مجلجلة وهو لم يشهد شيئًا من ذلك أبدًا فإذا كان مرادك اختباره في محاصرة العدو وجدته قد انتهى من حصاره كما انتهى فرتوت [٣] ولقد عرفت فيما سبق تلميذًا كان يبدو عليه كثير من مخايل النجابة نال إكليلاً مكافأةً له على قرضه شعرًا وصف فيه زجّ سفينة في البحر وهو لم ير في عمره سفينة ولا بحرًا. نعم إن الشبان في هذه الأيام لا يكادون ينفلتون من المدارس إلا وهم رافضون لآثار السلف نابذون لها ظهريًا غير أنه لا معنى لهذا إلا أنهم يعتاضون عن مثل الغابرين ومُثُل الحاضرين لأن محو طيّات التقليد وغضونه من النفس وإرجاعها إلى صقالتها الفطرية ليس من السهولة بالمقدار المتوهم فإننا كل يوم نقرأ في وصف الكتاب والشعراء المبتدئين قول واصفيهم في الواحد منهم أنه نابغة يفتش على نفسه فليقلْ لي بربه هذا الفتّاش أين أضلّ نفسه حتى أصبح ينشدها. إن تربيةً تكون بدايتها إضلال وجدان الاستقلال إلى حد أنه ينبغي لأجل الاهتداء إليه تلمسه سنين طويلة لمن الغرابة بمكان. أنا لا أشتهي ولا أرجو أن يكون (أميل) ميّالاً إلى وقف نفسه على دراسة آداب اللغة ولو أني وهيلانة دأبنا في تحبيبها إليه وأفلحنا في حجب حالة عقله بزخارف الذاكرة لأخفقنا في مسعانا إلى غايتنا المطلوبة، فاتقاء لهذا الخطر تراني مصمّمًا على إرجاء تعليمه اللغات القديمة وإقرائه كتب مؤلفيها وقد جعلت له مشاهدة الأشياء مقدمة على علم الألفاظ فأصبحت علومه على ما فيها من النقص لها أصول في الخارج ترجع إليها ودعائم في الواقع تستقر عليها وسعيت في إيتاءه من آلات الضبط والدقة العقلية ما هو لازم للإنسان في بحثه عن الحسن والحق أكثر جدًّا من سعيي في الإفضاء إليه بما لي أو ما لغيري من المعاني. وقبل أن أجعل البحث في مثل الأقدمين في مكنته سأعني كل العناية بتنبيهه إلى أنَّ مثل هذه المثل لا تقلد فإنه من السخف المحقق أن نباري الغابرين مباراة نحن على يقين من غلبنا فيها من قبل أنْ ندخلها، وكيف لا نكون مغلوبين لهم ونحن نرضى لأنفسنا طريقتهم في الكلام والكتابة والذي لا غضاضة علينا في أخذه عن كتاب اليونان والرومان إنما هو روح آداب لغتهم وما يناسب كل زمان وكل قوم من أساليب الإنشاء وترتيب المعاني والدقة في التعبير عنها إنتقاد الألفاظ اللائقة بها فكما أن من يعاشر بعض خواصّ الأجانب يقتبس شيئًا من خصائصهم بغير أنْ يكون ذلك موجبًا لمشابهته لهم بحال من الأحوال كذلك معاشرة الأقدمين بواسطة ما تركوه من آثارهم توحي إلينا شيئًا من عوائد العقل واللسان المناسبة لكافة الأقوام المستضيئين بضياء العرفان. التقليد الخسيس سواء قُلِّد فيه الغابرون أو الحاضرون لا يقتصر سوءُ أثره على إضعاف الذوق والميل إلى الفنون بل إنه يسلب الناشئين شرف النفس وكرامتها فلشَدَّ ما ينخدعون بما تؤديه لهم الألفاظ والجمل تفعل في نفوسهم ما يفعله السحر الحقيقي فتراهم يتوهمون أنهم يتفكرون فيما يقولون ويكتبون والحق أنهم يرددون ما فكر فيه المفكرون ولعمري إن هذا هو أصل بعض الأباطيل التي تحاول من قرون عديدة إطفاء نور العقل، ذلك أن ضروب الاستعباد متلازمة فمن قبل واحدًا منها فقد أخذ على نفسه الرضوخ إلى جميعها ألا ترى الشابّ المتعلم الذي اعتاد تقليد ما يصفه المقلدون بالمُثل الحسنة يصاحبه في سيرته وأطواره روح اللين والانقياد الذي ألّفه من التقليد فنجده يجبن ويفزع عند كل عزيمة ذاتية. نعم إنه قد يخاطر بحياته في براز أو يعرضها للهلكة في ساحة قتال لأنه يرى ذلك مستحسنًا في نظر الناس ولكنه إذا دعي إلى مقاومة عادة بربرية أو تأييد حق قل ناصروه ورأى أن من وراء ذلك الاستهداف للسخرية والزراية عليه نكص على عقبيه نكص الجبان وفر فرار الرعديد. مثل هؤلاء المخلوقين المجردين عن ذواتهم يجدون طريق عيشهم ذلولاً ويأتيهم رزقهم بلا نصب لكن ما أكثر ما يسومون أنفسهم من الخسف وما أحط ما يسفلون بها إليه من دركات الذل، عرفت امرأة بَرْزَةً [٤] محبوبةً حسنةَ المظهر وكانت أرملة ولها ولد كان قبلة آمالها، فبدا لها في يوم من الأيام أن تنشئه على أحسن آداب المواضعة المعروفة فرأت أن الاستشهاد بأقوال الكتاب اللاتينيين في المقامات المناسبة من المحاورة والتمثيل بأشعارهم وإيراد أمثالهم من الأمور التي لا بأس بها بل إنه يكسو المحاور إذا كان حسنًا بردًا من الخطر ويلقي عليه مسحة من جلال القدر فأرسلت ولدها إلى المدرسة فغادرها كيوم كدخلها خفيف العقل لم يستفد من العلم إلا قشورًا محبوبة عند الناس ولكونه أوتي ذاكرة مباركة كان يتكلم في كل موضوع ويناقش في كل شيء ولا يبدي رأيًا إلا قوبل بالاستحسان لأنه يسهل على كل إنسان أن يرضي الناس عنه إذا سلم لهم ما يقولون ولم يعارضهم في شيء من آرائهم فكان ثرثارًا عديم الخلق حسن الصورة عقيم الفكر أرادت والدته أن تصيّره رجلاً من الأكياس أو نائبًا لأحد الحكام أو معتمدًا سياسيًّا لحكومته في بعض البلدان وإن أحببت أن تعرف ماذا صيرته قلت إنها صيرته طفيليًّا. إن طريقتنا في التربية تظهر بادي الرأي سخيفة مضحكة وإن جاز أن تكون مما يتعاصى على الأفهام إدراكه وربما لا تطابق أي طريقة غيرها مطابقتها لمقاصد حكامنا ونظامنا السياسي. التلامذة في مدارسنا مقترعون مدنيون تبكر الحكومة بتأهيلهم لوظيفتهم على نظام معنوي يشف عن حذق واضعه، فأنت ترى القائمين على تربيتهم يوزعون عليهم متاعًا من الآراء والعلوم التي يجب عليهم تقلدها في مستقبلهم مراعين في ذلك الدقة العسكرية التي تراعى في توزيع متاع الجند وينادونهم: (الهوينا) أيها الأحداث، وإياكم أن تحيدوا عن الخطة المضروبة لكم، نعم إن منهم من يولونهم أدبارهم ولا يصغون إلى ندائهم وإن كثيرًا من هؤلاء يتحيزون إلى فئة الآخذين بحرية النظر ويتضاعف عددهم كل يوم ولكن لشدة ما يلاقون على ذلك من العقاب يحرمون من تقلد الوظائف العلمية في المدارس الجامعة ومن القيام بالوظائف الإدارية في الحكومة فلا يولَّى أحدهم شيئًا منها وفوق ذلك تراهم إن لم يسيروا سيرة مرضية وقد أخذت الحكومة على نفسها تعليمهم كيف يسيرون بما تتابعه لهم من ضروب الإيذاء وما تبلوهم به من العقوبات والنكبات السياسية ولا جرم، فإنهم في قبضة ماهر، والذنب عليهم في أنهم لم يعرفوا من قبل أن لهم واليًا يقوم عليهم وأستاذًا يرشدهم. ولمّا لم يكن هذا هو الفلاح الذي أرجوه (لأميل) وكان الذي يعنيني من أمره قبل كل شيء إنما هو حفظ كرامته وشرفه من حيث هو إنسان كان نصيب هذه الطريقة مني محض الإعجاب بها دون أن أرضاها لتربيته. *** الشذرة الحادية عشرة في المؤلفات المفيدة للناشئين واختيارها أجد في نفسي انبعاثا كثيرًا إلى اعتقاد أنه لا شيء أضر على كتاب الأقدمين وأدعى إلى هجر مؤلفاتهم من إطراء المعلمين إياهم واعتيادهم الإعجاب بما كتبوا، ذلك أن هؤلاء بإلزامهم الطفل حفظ ما يختارونه له من هذه المؤلفات وإرشادهم إياه إلى ما يجب عليه أن يراه فيها من ضروب المحاسن خشية أن يقصر في احترام آثار سلفه وإكراههم له على ملاحظة جميع ما فيها حتى علامات الفصل والوصل بذلك كله لا يفلحون غالبًا إلا في أن يكرهوها إليه وهي أحسن أعمال عقل الإنسان. فالإفراط في الوقاية من جانب المُعلِّم يصير سببًا للضعف من جانب المُعلِّم وإفراط ذلك في إعجابه بما يعلمه يذهب بالحمية من نفس هذا فيما يتعلمه. والمقصود من التعليم على أي حال إنما هو إنشاء القوة الحاكمة في نفس الطفل، أنا في شك من بلوغ هذه الغاية بالجري على تلك الطريقة فإنه على فرض وجود التلامذة الذين يكون فيهم من الامتثال ما يكفي لأن يروا الحسن فيما يمدح لهم والقبح فيما يذم (وفي التلامذة من هم كذلك) لا تكون أذواقهم من أجل ذلك أسلم من أذواق غيرهم ولا أكثر منها دربة بل إن هذا مما يدعو إلى سلبهم قوة تمييزهم الأمور بأنفسهم؛ فتكون همتهم في مستقبلهم مصروفة إلى النظر في الأمور والحكم عليها حكمًا مستقلاً. سأدع ابني وشأنه في انتقاء كتبه فلا أجتنب إلا ما يكون منها ضارًّا بالأخلاق لأنّي أود أن يكون هو صاحب الخيار فيما يفضل في نظره من كتب الآداب فإذا ضلّ ذوقه في الاختيار عَوّلت في ردّه إلى الصراط السويّ على ضروب نمو عقله لا على ما يدعو إليه كدري من أنواع التوبيخ والتأنيب ومع كوني لا أضن عليه بالإرشاد متى سألني إياه تجدني أقصد أن يلتمس في ما يطالعه تنمية أفكاره وتربية ضروب وجدانه الذاتي. نعم إني قد أشتهي أن أقدم له بعض كتب مخصوصة وأغتبط لو أنه اتفق معي في التأثر بما فيها غير أني لا أجدني مُحقًّا في اقتضاء ذلك منه لأن الإعجاب بالشيء من أجل أن يكون مفيدًا لا بد أن يتصدر عن نفس المعجب ولأن الإنسان في كل طور من أطوار حياته منفردًا كان أو مجتمعًا يتصور للحسن كمالاً يطابق بالضرورة بعض أحوال تتعلق بنفسه أو بوظائف أعضائه، يدلك على أننا لا نكاد نعرف الآن ما قرأناه في عهد شبيبتنا من الكتب ولا مؤلفيها ولا نحس بشيء من الميل إلى كتب الأدب التي طالعناها في ذلك الزمن، ولم يبق من الشعراء والكُتَّاب الذين كانوا أساتذة فيه بكتبهم من يصحبنا في شيخوختنا إلا النزر اليسير. ((يتبع بمقال تالٍ))