للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


مثال من أمثلة تسامح الإسلام
وضيق صدر المسيحية

تعرض صاحب مجلة الجامعة للكلام في علم العقائد الإسلامية وهو لا شك
جاهل به؛ لأنه لو عرفه لكان مسلمًا أو لو كان مسلمًا لعرفه، فزعم أن علماء الكلام
(وهو العلم الذي وضع لإثبات العقائد وردّ الشُّبَهِ عنها) ينكرون ارتباط الأسباب
بالمسببات، وإن كان القرآن يثبتها.
وتعرَّض للكلام في طبيعة الدينين الإسلامي والمسيحي فزعم أن طبيعة الإسلام
تنافي العلم والحكمة دون طبيعة المسيحية ولذلك ارتقت العلوم في أوربا وماتت في
البلاد الإسلامية يعني أن طبيعة الإسلام حكمت على المسلمين بالجهل والغباوة والبعد
عن المدنية، ونتيجة هذا أنهم لا يرتقون إلا إذا تركوا هذا الدين وصاروا نصارى
{وَلَن تَرْضَى عَنكَ اليَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الهُدَى} (البقرة: ١٢٠) وتعرض للكلام في تاريخ بعض حكماء الإسلام، فأورد عنه ما
يقتضي كفره وهو غير صحيح. كل هذا في جزءٍ واحد من أجزاء مجلته وهو
أعظم جناية جناها على قارئيها من المسلمين؛ لأنه يشكك غير العالم الراسخ في دينه،
والشك في الدين كفر.
قامت قيامة من اطلع على هذا الجزء من أذكياء المسلمين وعدوا هذه المجلة
أضر عليهم من المجلات النصرانية الدينية التي تطعن في الإسلام طعنًا صريحًا؛
لأن مجلة الجامعة تكلمهم بلسان العلم المحبوب عندهم بطبيعة دينهم فيخشى أن يغتر
الغافل بما فيها، وتلك المجلات والجرائد تقابلهم بالعدوان الظاهر فينفرون منها.
وقد علم القراء أن المستائين رجعوا إلينا وإلى إمام من أئمتنا راغبين في الردّ
ورأوا أن ذلك الإمام كتب في بيان الحقيقة كتابة أثنى فيها على صاحب الجامعة وعلى
مجلته على ما كان منه، وأن تلك الكتابة كانت مثال الأدب والكمال الذي يليق بسعة
صدر الإسلام وتسامحه مع المخالفين، وإن كانوا طاعنين وقادحين، والتمس له
العذر على طعنه بالدين القيّم وبأعظم علمائه وحكمائه.
وَرَأَوْا أيضًا أن المنار قد حسن الظن فيه واعتذر عنه وَبَرَّأَهُ من سوء القصد.
ولكن صاحب الجامعة لم يرض بذلك كله وأثبت لنا في الجزء الأخير أنه متعمد
لذلك الطعن ومُصِرّ عليه. وقد قابلنا على الاعتذار عنه بالسب والشتم.
أما شتمه لنا فلأننا قلنا أنه قال: إن تلك المقدمة تنتج هذه النتيجة. يعني أن
(الفضيلة والحقيقة والضمير) التي يلهج بأسمائها تقضي علينا أن نقول: إنه لا
يعرف اللغة الفرنسية إذا هو قال إننا لا نعرفها. وأما شتمه للإمام صاحب الرد فلم
ينتحل له سببًا والسبب معروف وهو تأثير النصرانية في عدم التسامح وحملها على
الشدة مع المخالف بقدر الاستطاعة. وفي مصر الآن من الحرية ما يسمح للصغير
أن يتسامى ويتسلّق للطعن في الكبير، وربما زين الغرور لصاحبه أن كلام الوضيع
في الرفيع هي الطريقة المثلى للانتقال من الضعة إلى الرفعة لذلك نرى أكثر
المتطفلين على إنشاء هذه الجرائد التي تبرز كل حين في مصر ثم تخفى كفقاقيع
الماء يستهلون جرائدهم بالنيل من الجرائد الغنية المنتشرة توهمًا أنها تهتم بالرد
عليهم فيكونون سواء وينالون ما نال أولئك من الشهرة والثراء، ولا نرضى هذه
الخطة للجامعة وصاحبها.
قال بعض الناس الذين رأوا الجامعة الأخيرة للإمام: أرأيت ما كان من
صاحب الجامعة الذي أثنيت عليه وعلى مجلته حتى رفعتها إلى أعلى منزلة
للمجلات. فقال الإمام: (لا خسارة في حسن الأدب) ولم يزد على ذلك
شيئًا.
فهل يتوهمنّ الرصيف المحترم صاحب الجامعة أن صاحب هذا الأدب الباهر
يتنازل تواضعًا إلى تصحيح مقاله والعناية بإرشاده بعد العلم بأنه لا قابلية فيه لذلك
ولا استعداد، ولا يعرف قيمة هذا الإرشاد، أم يتوهمن أن أحد تلامذته يحفل برد
سفسطة الجامعة وتحريفها الكلم لأجل تصحيح أغلاطها. أما ما تفتأت به على
المسلمين وتتقوله على اعتقادهم فإننا نبّين الحق فيه لا بصفة رد أو مناظرة بل
نجعله في باب رد شبهات المسيحيين وحجج المسلمين؛ لأن الجامعة التي كان
اسمها (الجامعة العثمانية) ثم صار اسمها (الجامعة) فقط قد صارت (الجامعة
النصرانية) ولا نعيب صاحبها بخدمة الدين الذي ينتسب إليه ولكننا ننصح له
بالتروي والاعتدال.
المنار مجلة مِلِّيَّة، كما أنها علمية أدبية، وهي -مع ذلك- لا تتعرض لدين
المخالفين إلا ردًّا على ما يعتدون به على الإسلام. والجامعة لا تعترف بأنها مجلة
ملية مسيحية وهي مع ذلك تطعن في الإسلام والمسلمين ابتداءً. وتفتحر الكلام في
ذلك افتحارًا، فهي في ظاهرها علمية أدبية صحية كالمقتطف والهلال وفي باطنها
دينية ملية كراية صهيون وبشائر الإسلام والمشرق ونحب لها أن يكون ظاهرها
كباطنها.
قلنا: إن صغار التلامذة لا يحفلون برد سفسطة الجامعة التي سمتها ردًّا فإن
القيد الذي خلفته لتصحيح زعمها إنكار المتكلمين للأسباب (وهو أنهم ينكرونها كما
يفهم الفلاسفة) لا يفيدها شيئًا. فإن قولها الأول بالإنكار كان مطلقًا وحكم المطلق
أن يجري على إطلاقه كما هو معلوم.
وقولها: إن ابن رشد كَفَّرَ الأشعرية وقال بضلالهم لأمور نسبها إليهم منها
إنكار الأسباب الضرورية. واستدلالها بذلك على أن المتكلمين ينكرون الأسباب كما
يفهمها الفلاسفة هو حجة عليها؛ لأن ابن رشد يرد على الأشعرية بذلك ردًّا دينيًّا -
وهو من علماء الدين الراسخين - لأنه بنى عليه التكفير والتضليل، والفلاسفة لا
يسمون مخالفهم كافرًا فكأن ابن رشد يقول: إن من أنكر الأسباب فهو عند المسلمين
كافر أو ضالّ؛ لأن من أصول الإسلام التي يشهد لها القرآن وتنطبق على سيرة
السلف والخلف المهديين أن الأسباب مربوطة بالمسببات وأن للكون سننًا ونواميس
مطردة، قال الله تعالى فيها: {فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ
تَحْوِيلاً} (فاطر: ٤٣) .
وأما زعمه أن المعتزلة ليسوا من المتكلمين، فكل طالب علم يعرف تقوّله
فيه على المسلمين، فالمتكلمون منهم المعتزلة ومنهم الأشاعرة ومنهم الماتريدية.
وكذلك الفقهاء منهم الحنفية والشافعية والمالكية. وكما اختلف هؤلاء في بعض
المسائل الفقهية وكلهم فقهاء اختلف أولئك في المسائل الكلامية وكلهم متكلمون.
والجميع مسلمون من أهل القبلة.
ومن أعجب المزاعم زعمه أن الاعتقاد بوجود النواميس (أي سنن الكون)
والاعتقاد بتغيرها نقيضان لا يجتمعان. وهو يعلم أن الفلاسفة أنفسهم يقولون بإمكان
تغير النواميس بل يقولون بأن التغير حدث ويحدث بالفعل، وهو ما يعبرون عنه
بفلتات الطبيعة. فإن احتاج الفلاسفة إلى تأويل هذه الفلتات فالمسلمون أحوج؛
لأن أساس هذه الفلسفة كلها قوله تعالى: {وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} (الأحزاب: ٦٢) .
ومما يُضْحِك صغارَ التلامذة استدلالُه على معاداة الإسلام للعلم والعقل بكلمة
جارية على ألسنة العامة لا يعرف قائلها وهي: (من تمنطق تزندق) ويفهمون منها
أن من تعلم المنطق صار زنديقًا. هذه الكلمة لعاميٍّ مجهول في شخصه وفي ملته
ودينه، والدليل على كونه عاميًّا أن معنى (تمنطق) لبس المنطقة وليس معناها أنه
تعلم المنطق خلافًا لما يُوهِمُه (المصباح) ، يستدل بهذه الكلمة صاحب الجامعة
الذي لا يراعي في قوله إلا (الحقيقة والضمير) على ما ذكره وينسى أو يتناسى أنه
لا يوجد طالب علم في المسلمين لم يقرأ المنطق وأن الأزهر لا يعطي شهادة العالمية
إلا لمن يؤدي الامتحان في علم المنطق ومثله جميع المدارس الإسلامية. ومن كلام
حجة الإسلام (من لا يعرف المنطق فلا ثقة بعلمه) .
لا يبعد أن يكون صاحب الجامعة قد كتب ما ذكرنا عنه وهو يعتقد أنه مموِّه.
ويقرب أن يكون مغترًّا بما أجاب به عن تخطئته في تلخيص فلسفة ابن رشد؛ لأن
سنده في هذا الجواب ثلاثة أمور:
أحدها: زعمه أن النساخ من العرب كانوا يحذفون من كتب ابن رشد
المواضع المهمة أو يبدلونها فرارًا من الملام والاضطهاد. أي أن أولئك النساخ كانوا
علماء بالفلسفة وبعلوم الدين ومكلفين بأن يتصرفوا بما ينقلونه بحسب معارفهم حتى
يكون الكتاب مشتملاً على فلسفة الناسخ لا فلسفة المؤلف. فإذا خالفوا لامهم من استأجرهم للنسخ أو اضطهدهم! ! !
ثانيها: أن الفيلسوف رينان - الذي نزهته الجامعة عن التعصب والذي
علمنا عنه أنه كان أشد المتعصبين على الإسلام حتى إن السيد جمال الدين
الأفغاني والشيخ محمد عبده ناظراه في باريس وأرجعاه عن كثير من خطئه -
قال: إن العرب أخطئوا في فهم فلسفة اليونان ونقلها. ومنهم ابن رشد.
ثالثها: أنه (لا مناص للكاتب العربي اليوم من أخذ تلك الفلسفة عن
الإفرنج أنفسهم ولا يشترط في هذا الأخذ سوى حسن اختيار المؤلف أي أن
يكون ثقة ومنصفًا غير متعصب لفريق دون فريق. وهذا ما توخته الجامعة)
اهـ بنصه.
ولاحتمال اغترار الكاتب بهذه المقدمات التي صحح بها قوله نبشره بأنها لا تروج عند أحد طلاب العلم لأمور:
أحدها: أن العرب قد اعتنوا بأمر النقل والرواية اعتناء لم يسبقهم به سابق،
ولم يلحقهم فيه لاحِق، ومن آثار ذلك أنهم نقلوا فلسفة اليونان بغاية الدقة
والإتقان، وقد تعلموا اليونانية ولهم فيها قواميس، وقد اعترف لهم الإفرنج
المنصفون بذلك وفضَّلوهم به على أنفسهم ومنهم سيديو المؤرخ الشهير.
ثانيها: أن الإفرنج برعوا في علوم التجربة ولكنهم لا يوثق بهم في علوم
النقل فكتبهم طافحة بالكذب على الإسلام والمسلمين في دينهم وتاريخهم. قال سيديو
في مبحث باشتغال العرب بالعلوم الرياضية: (وليس للعرب مجرد نقل كتب
اليونان حرفيًّا كما زعم بعض الإفرنج) ثم ذكر أنهم زادوا عليها ما اخترعوه في
هذه الفنون. وقال في أول المبحث الذي عقده في عدم اقتصار العرب على شرحهم
فلسفة أرسطو ما نصه معربًّا: (زعم الإفرنج أنه لم يكن فلسفة عربية، وما ذاك إلا
لجهلهم بأشغال العرب فإن جميع الدروس بمدارس أوربا في القرون المتوسطة
مستمدة من تآليف العرب الفلسفية) إلخ وقال غير ذلك بمعناه.
ثالثها: غير معقول أن الذين كانوا يستنسخون الكتب الحكمية كانوا يرضون بأن يغير النساخ فيها وغير معقول أن النساخ كانوا يستطيعون التصرف في تلك الكتب ويعملون بتلك الاستطاعة.
رابعها: أن ما نقلته الجامعة عن الإفرنج غير موثوق به؛ لأن صاحبها
غير عالم بالفلسفة فيستطيعَ نقلها من لغة إلى لغة؛ لأنه إذا كان لم يفهم فلسفة
المتكلمين بالعربية فكيف يفهم فلسفة ابن رشد واليونان من الفرنسية؟ ولو فرضنا
أنه أحسن الفهم فلا يسهل علينا أن نفرض أنه حسن القصد؛ لظهور تعصبه على
الإسلام والمسلمين، وإصراره على هذا التعصب ومُمَاراته ومُكَابرته فيه بعد بيان
الحق له بالتي هي أحسن. وقد زعم في هذا الجزء أن المسلمين كاليهود والنصارى
يعتقدون أن العالم وجد منذ بضعة آلاف من السنين وليس هذا من اعتقاد المسلمين
في شيء. فما يدرينا أن كل نقله من هذا القبيل.
وأما كلام الجامعة فيما سمته الأمور الجزئية فحسبها فيه الخلط بين
الاصطلاحات العلمية ومعاني الكلم اللغوية. وزعمها أن ما قاله الإمام في علاقة
الإنسان بالخالق غير صحيح؛ لأن رنان أفرد فصلاً لهذا البحث استعان فيه بكلمات
أرسطو اليونانية. وهل يقول عاقل: إن قول فلان غير صحيح لأن فلانًا خالفه فيه
وما يدري صاحب الجامعة أن ما قاله الإمام هو الصحيح وما قاله رنان هو الخطأ
إن صح نقلها عن رنان هذا، وإن الإمام مُطَّلع على ما كتب رنان وغيره من الإفرنج
وقد كتب ما كتب.
(الخاتمة) نشكر في ختام القول للجامعة ولصاحبها هذا التحامل على
الإسلام والمسلمين؛ لأنه كان السبب في تصدي ذلك الإمام العظيم إلى بيان هذه
الحقائق التي تحيي الشعور الإسلامي في نفوس المسلمين وتبعثهم إلى العمل بما
يرشد إليه دينهم القويم من الرغبة في العلم والحكمة، وإِعلاء شأن الأمة، ومعاملة
المخالفين بالمحاسنة، وإن ظهروا بمظهر المخاشنة، وليس في كلام الإِمام إلا برد
الهدون والسلام، الداعي إلى حسن الالتئام، فلا يخشينّ الرصيف منه إِثارة الخصام،
وإن كان هو يحب الموادّة ويدعو إليها فليدع الكلام فيما يتعلق بالإسلام. فإنه ليس
من موضوعه ولا يعنيه. ولا علم له بظاهره ولا خافيه. وهذا القدر يكفيه.
***
جاءنا من الأستاذ الفاضل صاحب التوقيع ما يأتي بنصه:
بماذا دفع العلماء نازلة الوباء؟

دفعوها يوم الأحد الماضي في الجامع الأزهر بقراءة متن البخاري موزعًا
كراريس على العلماء وكبار المرشحين للتدريس في نحو ساعة جريًا على عادتهم
من إعداد هذا المتن أو السلاح الحبري لكشف الخطوب وتفريج الكروب فهو يقوم
عندهم في الحرب مقام المدفع والصارم والأسل، وفي الحريق مقام المضخة والماء
وفي الهيضة مقام الحيطة الصحية وعقاقير الأطباء وفي البيوت مقام الخفراء
والشرطة وعلى كل حال هو مستنزل الرحمات ومستقر البركات.
ولما كان العلماء أهل الذكر والله يقول: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ
تَعْلَمُونَ} (النحل: ٤٣) فقد جئت أسألهم بلسان كثير من المسترشدين عن مأخذ
هذا الدواء من كتاب الله أو صحيح سنة رسول الله أو رأي مستدل عليه لأحد
المجتهدين الذين يقلدونهم إن كانوا قد أتوا هذا العمل على أنه ديني داخل في دائرة
المأمور به. وإلا فعن أي حذاق الأطباء تلقوه ليتبين الناس منه أو من مؤلفاته عمل
تلاوة متن البخاري في درء الهيضة عن الأمة وأن هذا داخل في نواميس الفطرة أو
خارج عنها خارق لها.
وإذا كان هذا السر العجيب جاء من جهة أن المقروء حديث نبوي، فلم خص
بهذه المزية مؤلف البخاري وَلِم لَمْ يجز في هذا موطأ مالك وهو أعلى كعبًا وأعرق
نسبًا وأغزر علمًا ولا يزال مذهبه حيًّا مشهورًا. وإذا جروا على أن الأمر من وراء
الأسباب فلم لا يقرءه العلماء لدفع ألم الجوع كما يقرأونه لإزالة المغص أو القيء
والإسهال حتى تذهب شحناء الجراية من صدور كثير من أهل العلم، وعلى هذا
القياس يُقْرَأُ لكل شيء ما دامت العلاقة بين الشيء وسببه مفصومة.
فإن لم يستطيعوا عزو هذا الدواء إلى نطاس الأطباء سألت المُلِمّ منهم بالتاريخ
أن يرشدنا إلى من سن هذه السنة في الإسلام، وهل قرأ البخاري لدفع الوباء قبل
هذه المرة فإنا نعلم أنه قرأ للعرابيين في واقعة التل الكبير فلم يلبثوا أن فشلوا
ومُزِّقُوا شر ممزق، ونعلم أنه يقرأ في البيوت لتأمن من الحريق والسرقة ولكن بأجر
ليس شيئًا مذكورًا في جانب أجر شركة التأمين المعروفة مع أن الناس يتسابقون
إليها تسابقهم على شراء الدواء إذا نزل الداء ويعدلون عن الوقاية التي نحن بصددها
وهي تكاد تكون بالمجّان ويجدون في نفوسهم اطمئنانًا لتلك دون هذه.
فإن لم يجد العلماء عن هذه المسألة إجابة شافية خشيت كما يخشى العقلاء
حملة أهل الأقلام عليهم حملة تُسْقِطُ الثقة بهم حتى من نفس العامة وحينئذ تقع
الفوضى الدينية المتوقعة من ضعف الثقة واتهام العلماء بالتقصير وكون أعمالهم
حجة على الدين. هذا - وقد لهج الناس بآراء على أثر الاجتماع الهيضي
الأزهري.
فمن قائل: إن العلماء المتأخرين من عادتهم أن يهربوا في مثل هذه النوازل
من الأخذ بالأسباب والاصطبار على تحملها لمشقتها الشديدة ويلجئون إلى ما وراء
الأسباب من خوارق العادات لسهولته ولإيهام العامة أنهم مرتبطون بعالم أرقى من
هذا العالم المعروف النظام فيكسبون الراحة والاحترام معًا فيظهرون على الأمة
ظهور إجلال ويمتلكون قلوبهم ويسيطرون على أرواحهم ولهذا تمكثوا حتى فترت
شرة الوباء فقرأوا تميمتهم ليوهموا أن الخطر إنما زال ببركة تميمتهم وطالع يمنهم.
ومن قائل: إنهم يخدعون أنفسهم بمثل هذه الأعمال بدليل أن من يصاب منهم
لا يعالج مرضه بقراءة كراسة من ذلك الكتاب بل يعمد إلى المجربات من النعنع
والخل وماء البصل وما شابه أو يلجأ إلى الطبيب ولا تلتفت نفسه إلى الكراسة التي
يعالج بها الأمة فهذا يدل على أن القوم يعملون على خلاف ما في وجدانهم لهذه الأمة
خادعين أنفسهم بتسليم أعمال سلفهم.
ومن قائل: إن عدوًّا من أعداء الدين الإسلامي أراد أن يشكك المسلمين فيه
فدخل عليهم من جهة تعظيمه فأوحى إلى قوم من متعالميه السابقين أن يعظموا من
شأنه ويرفعوا من قدره حتى يجعلوه فوق ما جاءت له الأديان فَيَدَّعوُنَ كشف نوائب
الأيام بتلاوة أحاديث خير الأنام ويروّجون ما يقولون بأنه جُرِّب وأن من شك فيه فقد
طعن في مقام النبوة حتى إذا رسخت هذه العقيدة في الناس وصارت ملكة دينية
راسخة عند العوام وجرّبوها فلم تفلح وقعوا والعياذ بالله في الشك وأصابهم دوار
الحيرة كما حصل ذلك على إثر واقعة التل الكبير من كثير من الذين لم يتذوقوا
الدين من المسلمين حتى كانوا يسألون عن قوة البخاري الحربية ونسبته إلى البوارج
ساخرين منه ومن قارئيه ولولا وقوف أهل الفكر منهم على أن هذا العمل ليس من
الدين وأن القرآن يقول: {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الخَيْلِ} (الأنفال: ٦٠) إلخ لضلوا وأضلوا، وقد جَرَّأَ هذا الأمرُ غيرَ المسلمين على
الخوض في الدين الإسلامي وإقامة الحجة على المسلمين من عمل علمائهم ولا حول
ولا قوة إلا بالله.
ويقول قوم: إن التقليد بلغ بالعلماء مبلغًا حرم على العقول النظر في عمل
السلف وإن كذبته العينان، وخالف الحسّ والوجدان، ويقول آخرون ممن لا خبرة
لهم بهمة العلماء في مثل هذه الكوارث: أما كان ينبغي لهم أن يَنْبَثُّوا في المساجد
والأندية والولائم حاثِّين الناس على الوقاية من العدوى معضدين الحكومة في تسكين
صورة الأهليين مفاوضين الصحة في فتح المساجد وتعهدها بالنظافة فإن هذا يرتبط
بهم أكثر مما يرتبط بوفد أيمان أعيان القاهرة جزاه الله خير الجزاء.
فإن أعوزهم البيان وخلب القلوب بذلاقة اللسان فلا أقل من أن يؤلفوا رسالة
في فهم ما ورد متشابهًا في موضوع العدوى حتى يعلم الناس أن الوقاية من الداء
مأمور بها شرعًا وعقلاً وسياسة فيكون كل فرد عارفًا عَضْدًا للحكومة ولو طلبوا
من الصحة طبع ما ألفوا وتوزيعه على المصالح والنواحي لَلَبَّتْ ذلك شاكرة وكان
لهم الأثر النافع، هذا ما يقوله القوم في شأن علمائهم نرفعه إليهم ليكونوا على بينة
منه؛ لأنهم لا يختلطون بالناس غالبًا إلا في الولائم والمآتم وإن اختلطوا فقلما
يناقشونهم في شيء تحرزًا من جدتهم في المناقشة ورميهم مناظرهم لأول وهلة
بالزيغ والزندقة فلذلك يجاملونهم ويوافقونهم خشية الهجر والمعاندة.
أما أنا فإني لا أزال ألحُّ في طلب الجواب الشافي عن أصل دفع الوباء بقراءة
الحديث وعن منح متن البخاري مزية لم يمنحها كتاب الله الذي نعتقد أنه متعبد
بتلاوته دون الحديث ولو كان هذا العمل من غير العلماء الرسميين لضربتُ عنهم وعن
عملهم صَفْحًا ولَمَا خَطَطْتُ كلمة، ولكنه من علماء لهم مراكز رسمية يزاحمون مراكز
الأمراء فيجب أن يُؤْبَه لهم وأن يُنْظَر لعملهم بإزاء مراكزهم من الأمة التي يُسْأَلون
عنها والله ولي التوفيق
(متنصح) .