للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: جمال الدين القاسمي


تاريخ الجهمية والمعتزلة

(١٤)
رأي الأثرية في الجهمية
أحسن من كتب في هذا المعنى الإمام ابن قتيبة في شرح مختلف الحديث،
فإنه صنَّفه انتصارًا لحاملي الأثر من خصومهم، وكان ابن قتيبة للأثريين كالجاحظ
للجهمية خطيبًا مفوَّهًا كاتبًا بليغًا، وهاك ما قاله في مقدمة كتابه المنوَّه به: (أما بعد
أسعدك الله تعالى بطاعته وحاطك بكلاءته، ووفقك للحق برحمته، وجعلك من أهله،
فإنك كتبت إليَّ تعلمني ما وقفت عليه من ثلب أهل الكلام أهل الحديث وامتهانهم
وإسهابهم في الكتب بذمهم، ورميهم بحمل الكذب ورواية المتناقض، حتى وقع
الاختلاف، وكثرت النحل، وتقطعت العصم، وتعادى المسلمون، وأكفر بعضهم
بعضًا، وتعلق كل فريق منهم لمذهبه بجنس من الحديث إلى أن قال: ومع روايتهم
كل سخافة تبعث على الإسلام الطاعنين، وتضحك منه الملحدين، وتزهد في
الدخول فيه المرتدين، وتزيد في شكوك المرتابين، وقد قنعوا من العلم برسمه،
ومن الحديث باسمه، ورضوا بأن يقولوا فلان عارف بالطرق ورواية الحديث،
وزهدوا في أن يقال: عالم بما كتب، أو عامل بما عَلِمَ ثم قال: هذا ما حكيت من
طعنهم على أصحاب الحديث.
ثم قال: وقد تدبرت مقالة أهل الكلام، فوجدتهم يقولون على الله ما لا يعلمون،
ويفتنون الناس بما يأتون، ويبصرون القذى في عيون الناس، وعيونهم تطرف
على الأجذاع، ويتهمون غيرهم في النقل، ولا يتهمون آراءهم بالتأويل، ومعاني
الكتاب والحديث وما أُودِعَاهُ من لطائف الحكمة، وغرائب اللغة، لا يُدْرَك بالطفرة
والتولد والعرض والجوهر والكيفية والكمية والأينية. ولو ردوا المشكل منهما إلى
أهل العلم بهما لوضح لهم المنهج واتسع لهم المخرج، ولكن يمنع من ذلك طلب
الرياسة، وحب الاتباع، واعتقاد الإخوان بالمقالات، والناس أسراب طير يتبع
بعضها بعضًا، ولو وجد لهم من يدعي النبوة أو الربوبية لوجد على ذلك أتباعًا
وأشياعًا، وقد كان يجب مع ما يدعونه من معرفة القياس، وإعداد آلات النظر، أن
لا يختلفوا كما لا يختلف الحُساب والمُسَّاح والمهندسون، فما بالهم أكثر الناس
اختلافًا ليس منهم واحد إلا وله مذهب في الدين يدان برأيه، وله عليه تبع [١] .
ثم قال ابن قتيبة: وقد كنت في عنفوان الشباب، وتَطَلُّبِ الآدابِ، أحب أن
أتعلق من كل علم بسبب، وأن أضرب فيه بسهم، فربما حضرت بعض مجالسهم،
وأنا مغترٌّ بهم، طامع أن أصدر عنهم بفائدة، أو كلمة تدل على خير، أو تهدي
لرشد، فأرى من جراءتهم على الله تبارك وتعالى، وقلة توقيهم، وحملهم أنفسهم
على العظائم لطرد القياس، ما أرجع معه خاسرًا نادمًا.
ولقد غلا كثير من الأثرية في الحمل على الجهمية، فصرح بالتكفير
واستحلال الدم، نعوذ بالله من الغلو، حتى قام الأئمة المحققون وحظروا النبز
بالكفر، كما ستراه في بحث على حياله آخر مقالنا هذا إن شاء الله.
ومن استقرأ كلام السلف في ذم الجهمية، تبين له أن سببه شيئان: الأول شدة
تمسك السلف بالظواهر، وإعظام تأويلها بوجه ما ولو سوغته اللغة بما فيها من
المجاز، كأنهم أشفقوا أن يفضي باب التأويل إلى التعطيل، بل رأوه هو هو، حتى
إن لازم المذهب عندهم مذهبٌ [٢] ، قال ابن تيمية: ولما كان أصل قول جهم هو
قول المبدلين من الصابئة، وهؤلاء شر من اليهود والنصارى كان الأئمة يقولون:
إن قولهم شر من قول اليهود والنصارى.
السبب الثاني: قال ابن تيمية: إن الزنادقة المحضة مثل الملاحدة من
القرامطة ونحوهم كانوا إبان ظهورهم يستريحون بالتجهم والتشيع اهـ. فالتبسوا
على السلف، لذلك حملوا عليهم كما روى البخاري في كتاب خلق الأفعال عن أبي
عبيد قال: ما أبالي أصليت خلف الجهمي أو الرافضي، أو صليت خلف اليهودي
والنصراني، ولا يسلم عليهم ولا يتعارفون ولا يناكحون ولا يشهدون ولا تؤكل
ذبائحهم. اهـ. ولا يشك أن مرادهم: أولئك الزنادقة الملاحدة الذين تستروا
بالتجهم والتشيع. أما صالحو الجهمية والشيعة فبمعزل عن هذا الجرح كما لا
يخفى.
* * *
(١٥)
رأي الجهمية في الأثرية
لما كان القصد مما جمعناه الوقوف على الحقائق التاريخية فيه، كان من تمامه
العلم بآراء هذه الفرق بعضها في بعض، ليزداد بصيرة في مذهبها من يروم
مناقشتها الحساب، قال الإمام ابن بطة: ومن كلامهم، يعني الجهمية: من انتحل
مذهب الأثر واعتقد ما في الأحاديث على ظاهرها، فهو حشوي زائغ، وعند
التحقيق كافر [٣] . اهـ.
وقال الأديب عبد المؤمن الأصفهاني في أطباق الذهب [٤] ما مثاله: مثل
المقلد بين يدي المحقق، مثل الضرير بين يدي البصير المحدق، ومثل الحكيم
والحشوي، كالميتة والمشوي، ما المقلد إلا جمل مخشوش له عمل مغشوش،
قصاراه لوح منقوش، يقنع بظواهر الكلمات ولا يعرف النور من الظلمات،
يركض خيول الخيال، في ظلال الضلال، شغله نقل النقل، عن نخبة العقل،
وأقنعه رواية الرواية عن در الدراية، يروي في الدين عن شيخ هم، كمن يقوده
أعمى في ليل مدلهم، ومن طلب العلم بالعنعنت، تورط في هوة العنت، والحق
وراء السماع، والعلم بمعزل عن الرقاع، فما أسعد من هدي إلى العلم ونزل رباعه،
وأُري الحق حقًّا ورزق اتباعه، وما أشقى جُهَّالاً قلدوا الآباء فهم على آثارهم
مقتدون: {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ} (البقرة: ١٧٠) .
ومن مثل هذا يعلم مبلغ نفرة الجهمية من الأثر والأثريين، ونبذهم إياهم بما
تجل أقدارهم عنه، ولئن وجد في الرواة من جعل همه التوسع في الرواية دون
الدراية، وهم الذين عناهم الإمام مسلم في مقدمة صحيحه، إلا أن أئمة الرواية لم
يقنعوا إلا بالبحث والتأصيل والتفريع والتخريج، وقد طبق علمهم الآفاق، وسارت
بمذاهبهم وأصولهم الركبان، وسنذكر تفريط الجهمية في المنقول، وهو ما حداهم
إلى النيل من أهله، وبالله التوفيق.
* * *
(١٦)
تفريط الجهمية في السمع والنقل، وسواهم في العناية بالعقل
من المعلوم أن الجهمية قصَّروا في علم السمع والنقل، وهو علم الرواية،
فجانبوا كثيرًا من المرويات المشهورة المعروفة عند أهلها، وتمحلوا في ردها أو
تأويلها بما لا يرتضيه منصف، ففاتهم ركن عظيم من أركان أصول الشرع وهو
السنة، وما يتبعها من علومها المتنوعة، وفنونها المحررة، وهل يزري بعلم زخر
بحره، وتلاطم بالشرائع موجه؟
قال المقبلي في العلم الشامخ في تخطئة المعتزلة في رد الحديث الصحيح
بمجرد الرأي ما مثاله: فإن صح الحديث لزمنا تصديقه، فإن فهمنا معناه وإلا رددنا
علمه إلى الله سبحانه، ولكن هذه طريقة اعتمدها متكلمة المعتزلة، وهي مردودة
عقلاً وسمعًا، فلذا ردوا أحاديث الصفات، وفي القرآن ما في الحديث من ذلك وما
ينبغي التفرقة بينهما، وما أحسن جواب بعض المحدثين، وقد سئل عن أحاديث
الصفات فقال: (رواها الذين رَوَوْا لنا الصلاة والزكاة وسائر الشريعة) فالواجب
تسليم ما صح، وما اشتبه معناه رددناه إلى الله سبحانه، فلا يغرنك قولهم آحادي فلا
نقبله في مقابلة العقل؛ لأن ما رواه الثقات مقبول، وإلا اطرحنا أكثر الشريعة،
والدليل على قبول الآحاد شامل لكل الدين، والتفرقة جاءت من قِبَلهم لا من قِبَل الله
ورسوله؛ إذ العقل قد فرضنا أنه لم يدرك حقيقة ذلك، فكيف يقال: إنه مصادم
له. اهـ.
وأما خصوم الجهمية فهم أتقنوا علم السمع، وعلموا منه كثيرًا من القواعد،
وتواتر من السمع لهم ما لم يتواتر لغيرهم، إلا أنهم ظنوا أن العلوم العقلية معارضة
لما عرفوه من السمع الحق، وحسبوا أن الإصغاء لعلم المعقول والنظر إليه يستلزم
البدعة من غير بُدٍّ، مع أن العقل السليم لا ينافي السمع الصحيح، قال الإمام
الغزالي رحمه الله في الإحياء: لا غنى بالعقل عن السماع، ولا غنى بالسماع عن
العقل، فالداعي إلى محض التقليد مع عزل العقل بالكلية جاهل، والمكتفي بمجرد
العقل عن أنوار القرآن والسنة مغرور، فإياك أن تكون من أحد الفريقين، وكن
جامعًا بين الأصلين، فإن العلوم العقلية كالأغذية، والعلوم الشرعية كالأدوية. اهـ.
((يتبع بمقال تالٍ))