للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


المؤتمر العربي بباريس
وحزب اللامركزية بمصر

يبحث الأوربيون آنا بعد آن في خطرين وهميين يمكن عقلاً وفرضًا أن
ينازعا دولهم في سيادة الأرض، وهما خطر الجامعة الإسلامية والخطر الأصفر.
فرضوا احتمال رجوع المسلمين إلى الاعتصام بحبل الإسلام واسترجاع
سيادته وقوته، ولو في بعض الممالك الإسلامية، واحتمال ارتقاء الأمة الصينية
وقوتها في بلادها، فحملهم هذان الفرضان على أخذ الأهبة والتعاون فيما بينهم على
إزالة ما بقي من ملك هاتين الأمتين واقتسام بلادهم ولو بالفتح السلمي الذي هو
أرقى ما وصل إليه المبشر في الفتح والسيادة، وهو الفتح بالعلم والعقل والحزم
والمال، تؤيدها قوة الأساطيل والجنود عند الحاجة؛ لأجل حمايتها وهيبتها.
أما الشرقيون فتصخ نذر الأخطار آذانهم، وتفقأ أشباحها المزعجة أعينهم،
وهم يتمارون بالنذر، ويتجادلون في مواضع العبر، وقد كانت الحرب البلقانية
العثمانية آخر صدمة صدمت الشرق فأتت على آخر ركن للاستقلال في آخر مملكة
مستقلة فيه أو كادت، وأهل هذه المملكة يتمارون فيما بينهم ويتجادلون ولا يعتبرون
بما حل بهم ولا يزدجرون.
من يحاول من الشرقيين عملاً ما لأمته فإنما يحاوله في آخر الوقت الذي يمكن
فيه العمل أو بعد ذهاب الوقت، وقد كان يجب على الأمة العربية أن تهب من
رقدتها، وتعمل لنفسها ودولتها، وتثبت لنفسها وجودًا تحترم به حقوقها وتعمر
بلادها، إن لم أقل: إن هذا كان يجب عليها منذ تغلغلت السلطة الحميدية التدميرية
في ولاياتها، وأنشأت تجهز الحملات العسكرية على معاهد القوة منها كاليمن،
والحملات الإفسادية على الولايات الضعيفة كسورية. وإذ لم يفعلوا فليكن ذلك العهد
عهد الإيقاظ والتنبيه، وعهد الاتحاديين الذي هو شر منه وأضر عهد الوحدة والعمل.
رأى العرب من الاتحاديين ما رأوا من سفك دماء إخوانهم وتدمير بلادهم في
اليمن والكرك وحوران، وإفساد ذات بينهم ومقاومة لغتهم في سورية والعراق،
ورأوا أن هؤلاء قد أنشأوا يهدمون ما أبقى عليه عبد الحميد من ملك بني عثمان،
ومع ذلك لم يزدادوا إلا أملاً ورجاءً في عاصمتهم البزنطية عاصمة الجهل والغرور،
والخيلاء والإسراف والظلم والخيانة والتدمير، ولم نر العبر والكوارث المحدقة
بهم والمنذرة لدولتهم قد أثرت فيهم تأثيرًا جمع كلمة أهل الرأي والبصيرة إلى
العمل الواجب {كَلاَّ إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ * وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ * وَظَنَّ أَنَّهُ الفِرَاقُ *
وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ} (القيامة: ٢٦-٢٩) وظفرت جيوش البلقانيين بإخوانهم
وأبناء دولتهم، وصارت مدافع البلغاريين تزلزل بِدَوِيِّهَا منازل تلك العاصمة،
وتقلق بأصواتها سلطانها في مضجعه بقصر، ضولمه بغجه وصارت الأمم
الأوربية، تتحدث بتصفية حساب المسألة الشرقية، وسُمع من باريس صوت
مزعج يدعي لفرنسة حقوقا في سورية، ورؤيت المدرعات الفرنسية وغير
الفرنسية تتهادى في المواني السورية وغير السورية، بعد هذا كله تحرك أهل
الغيرة والإخلاص من العرب، وحاولوا أن يعملوا عملاً يحفظ بلادهم من استيلاء
الأجانب عليها، وأن يصلح حالهم فيها، فكانت حركتهم هذه في آخر الوقت، إن لم
نقل: إنها كانت أو كادت تكون بعد ذهاب الوقت.
ماذا عملوا؟ ألَّف أهل الإخلاص والغيرة من السوريين المقيمين بمصر
حزب اللامركزية الإدارية العثماني، فلم يجعلوه حزبًا سوريًّا ولا عربيًّا بل عثمانيًا
عامًّا، وقام أهل ولايات سورية (بيروت والشام) والعراق يطلبون الإصلاح
لولاياتهم على أساس وقواعد اللامركزية، وفي باريس مئون من العرب
السوريين أهل العلم العصري والأدب والتجارة وطلاب العلوم العالية، أزعجهم
صوت موسيو بوانكاره - رئيس وزارة فرنسة بالأمس ورئيس جمهوريتها اليوم - إذ
قال في مجلس النواب: إن لدولته حقوقًا موروثة في سورية، وهم أول من سمع
هذا الصوت في مركز قوته وعظمته، فأحسوا بالخطر على وطنهم الخاص
وعلى قومهم ودولتهم، فأجمعوا أمرهم على أن يُسمعوا فرنسة وسائر عالم
المدنية صوتهم المعبر عن إحساسهم ورأيهم في أمتهم ودولتهم، وكراهة افتياتها
عليهم ومقاومة احتلالها لبلادهم، وأن يدعوا لمشاركتهم من شاء واستطاع السفر
إليهم من أمتهم العربية، وهم يعلمون - كما يعلم كل عاقل خبير- أنه قلما يرحل
هذه الرحلة إلا من يشتغلون بالمصلحة العامة من حملة الأقلام الأحرار، وأصحاب
الأفكار، فتكون وظيفة المؤتمر الطبيعية أن يطلع العالم الأوربي على رأي جمهور
كبير من العرب يمثل بطبعه نهضتهم، فيعرفوا حقيقة المسألة العربية التي أحدثتها
جمعية الاتحاد والترقي في عالم السياسة، ولم تكن شيئًا مذكورًا إلا على ألسنة
جواسيس عبد الحميد وأقلام مستغلي أوهامه، ولا شيئًا موجودًا إلا في خياله وخيال
مبغضي العرب من ساسة دولته، وأن هذه المسألة لو وجدت في كتاب تاريخ
السياسة قبل الآن لنجت الدولة بقوة العرب مما وقعت فيه من الخذلان والهوان.
وقد رأى الداعون إلى هذا المؤتمر أنه يجب أن يكون لهم حزب يؤيدهم
ويؤيدونه فانتسبوا إلى (حزب اللامركزية الإدارية العثماني) الذي أسس في مصر
وجعلوا مؤتمرهم تابعًا له، وطلبوا منه أن يرسل إليهم وفدًا يكون أحد أعضائه
رئيسًا للمؤتمر، فتلقى الحزب ذلك بالقبول واختار السيد عبد الحميد الزهراوي
وإسكندر بك عمون لذلك، وسيكون أولهما رئيس المؤتمر. وقد تقرر أن تدور مباحث
المؤتمر على المسائل الآتية:
١- مقاومة الاحتلال الأجنبي للوطن.
٢- حقوق العرب في المملكة العثمانية.
٣ - وجوب تغيير شكل الإدارة العثمانية الحاضر وجعله من نوع اللامركزية
الإدارية؛ إذ لا يرجى صلاح المملكة بدون ذلك، ولا بقاء لها إلا بصلاحها كما
تقتضيه سنة الله تعالى في الخلق، المعبر عنها في لسان العلم بالانتخاب الطبيعي
وبقاء الأمثل.
٤- المهاجرة من سورية وإليها.
هذه المسائل هي أهم المسائل الاجتماعية الحيوية في المملكة العثمانية،
وأكثرها قد صار حديث ساسة الدول وجرائد الأمم، ولو لم يوجد من العرب حزب
ولا مؤتمر يبحث فيها لجاز لجميع الأمم والدول أن تعتقد أنه لا يوجد في المملكة
العثمانية أمة تسمى الأمة العربية، وأن تصدق مغروري جمعية الاتحاد والترقي في
زعمهم أن العرب ليسوا أمة ولا شعبًا فيحسب لهم حساب في إدارة المملكة العثمانية
ومصالحها، وإنما هم قسمان: عرجلة أو عراجل من الوحوش في اليمن وبوادي
الشام والعراق والحجاز ونجد ينكل بهم الجيش العثماني المظفر، وقطعان من
الغنم في سورية ومدن العراق تتصرف بهم الحكومة المركزية بما تشاء من رعي
ومن منع، وذبح وبيع.
سيكون لحزب اللامركزية ولمؤتمره في باريس ولطلاب الإصلاح المبني على
قواعد هذا الحزب في الولايات السورية والعراقية شأن عظيم في الآستانة وأوربة
المسيطرة على الحكومة العثمانية، وإن كابر الحسَّ والنفس في ذلك زعماءُ جمعية
الاتحاد والترقي واستعملوا سلطة الحكومة وألسنة المثقفين المنافقين المتزلفين لها
وأقلامهم لتحقيرهما وتهوين أمرهما، وهي لم تحقر شيئًا إلا وعظم ولم تعظم شيئًا
إلا وحقر؛ لأنها مخذولة من الله المتنكبة لسنته في خلقه وشرعه، كما ثبت
بالتجربة مرارًا، ومن ذلك أنها تلبس الحق بالباطل فتصف الشيء بضد ما هو عليه،
وتسلك إلى كل غاية الطريق الموصل إلى ضدها، فهي تأمر منافقيها بأن يذيعوا
أن المؤتمر وحزب اللامركزية وطلاب الإصلاح يعملون بإيعاز من الأجانب ليمهدوا
لهم طريق احتلال وطنهم، الأمر بالضد كما هو ظاهر وسيكون في المؤتمر أتم
ظهورًا، كما توعز إليهم أن يقولوا: إنها تعمل لإحياء الجامعة الإسلامية، على حين
نرى بعض كتابها ينشر في مجلة الشرق الإنكليزية مقالاً يحاول فيه إقناع الإنكليز
وغيرهم من الأوربيين بأنه لا يوجد في المملكة أحد غير هؤلاء الفتيان من الترك
يتجرأ على كسر القيود الدينية التي تقيدت بها الدولة العثمانية ويطلب إعانة أوربة
لهم على ذلك.
وجملة القول أن الحكومة الاتحادية قد أضاعت بجهلها وغرورها وخبث
طويتها جميع الممالك العثمانية الأوربية والأفريقية، وهي تساوم أوربة على بيع
منافع الممالك الآسيوية، وكل هذا من فساد الحكومة المركزية التي تجعل أمر الأمم
والممالك في يد واحد أو آحاد، إذا فسدوا أفسدوا وأهلكوا الجميع، ولو كان للأمة
صوت مسموع في مصالحها كالصوت الذي نسمعه الآن من حزب اللامركزية
وطلاب الإصلاح لِما أمكن لهؤلاء وأمثالهم إضاعة الدولة. وهذا الصوت على كونه
قد تأخر عن وقته لا بد أن تكون له فائدة ما، وأقلها أن تحسب أوربة له حسابًا فيما
ستقرره في كيفية إدارة هذه الدولة؛ إذ فوضت الحكومة الاتحادية إليها أمر المملكة،
بل ظهرت فوائد ذلك قبل تمام ظهوره، فبدأت الوزارة الاتحادية تستميل العرب
بعض الاستمالة، ولولا أنها وجدت بهم بعض المنافقين يهونون عليها أمر طلاب
الإصلاح لما تلبثت في قبوله إلا قليلاً.
فإذا كان هذا السعي مفيدًا مع كون أمر الدولة في أيدي الاتحاديين أعداء
العرب والإسلام، فكيف يكون نفعه إذا عجل الله انتقامه منهم ودالت الدولة
للائتلافيين [*] والصباحيين دونهم؟ يومئذ يكون العرب شركاء الترك لا عبيدهم
في هذه الدولة، فلا يكون أحدهما مظلومًا مع الآخر فيمقته ويخذله، ويقوم بناء
إدارة المملكة على قواعد اللامركزية الثابتة، يومئذ يعض المنافقون على أيديهم
يقولون: يا ليتنا اتخذنا مع حزب المصلحين سبيلاً، وخفضنا في إسرافنا في
التملق للاتحاديين المفسدين ولو قليلاً.
وجملة القول أنه قد ثبت قطعًا أن الدولة لا تستطيع حماية بلادها من الدول
الكبرى إن أردن اقتسامها، وأن أمر اقتسامها منوط باتفاق الدول بينهن لا بطلب
الأمة للإصلاح وعدمه، وأنه إذا لم يصلح أمر الأمة ويظهر استقلالها بشئونها
الإدارية والاقتصادية، فإن بلادها ستكون غنيمة باردة للأوربيين، سواء احتلوها
بالجند أم لا، وأنها لن تصلح ما دام أمرها كله بأيدي من يتغلب على السلطة في
عاصمتها ولو بالثورة وسفك الدماء، فنسأل الله أن يأخذ بأيدي المصلحين ويكفيهم
شر المستبدين والطامعين، آمين.