(٣) بعد فِرَار السيارتين الأولى والثانية. جاءت السيارة الثالثة تحمل (الصحة والعافية) . وما كادت تعرض بضاعتها هذه على الناس، من جميع الأجناس، إلا ونفروا خفافًا وثقالاً، وأقبلوا عليها إقبالاً، ولقد كثروا عددًا، حتى كادوا يكونون عليها لبدًا، متسابقين إلى الابتياع، متنافسين في هذا المتاع، وما منهم إلا شاكٍ من ألم، أو باكٍ من سقم، وأهونهم حالاً مَن يشكو الإقهاء (فقد شهوة الطعام) ، أو ضعف عضو من الأعضاء، وقد علمت السيارة أن أكثر القوم هم الجانون على صحتهم، والمضيعون لها بجهالتهم؛ ولذلك توقفت عن المبيع، وأمسكتها عن الجميع؛ لأنها مأمورة بأن لا تبيع سلعتها، إلا لمن يعرف قيمتها، ثم أنشأ بعضهم يساومها، فقال: (المساوم) : هل ثمن الصحة والعافية كثير؟ (السيارة) : لا، وإذا لم يكن بَخْسًا فهو معتدل، (المساوم) : ما هو الثمن؟ (السيارة) : (١) النظافة في المأكل والمشرب والملبس والمسكن، و (٢) أن يكون الأكل معتدلاً وعند الجوع، و (٣) الإمساك عن تناول أي نوع من أنواع المُسْكِرات (لغط وجَلَبَة من المستمعين وترديد لفظ: بِضاعة غالية لا يقدر على شرائها إلا العُبّاد والنُّساك!) ، و (٤) النوم في أول الليل، و (٥) القيام من النوم باكرًا، و (٦) المراوحة بين الرياضة الجسمية والعقلية، قالت: وشرط البيع عدم الإفراط في شيء من الأشياء؛ لأن الإفراط في الراحة يضر الجسم، ويُذهب بالصحة، كالإفراط في التعب، وما من تفريط إلا ويقابله إفراط، وملاك الصحة الاعتدال وملازمة الأوساط. فلما فرغت السيارة من كلامها، أعرض أكثر القوم عن سوامها، قائلين: يستحيل أن يشتري هذه البضاعة أحد! ، من أهل هذا البلد؛ فليس عندنا حكماء، ولا عُبّاد أتقياء، يقدرون على الاعتدال في جميع الأعمال والأحوال، ولمّا سمع الأطباء والتُّرَبِيَّة (الذين يدفنون الموتى) أن فتاة من العوالم العلوية، هبطت إلى هذه الدنيا الفانية، تبيع للناس الصحة والعافية، رأوا في ذلك هضمًا لحقهم، وقطعًا لسبب من أسباب رزقهم؛ فعزموا على إبطال هذه التجارة، أو الإيقاع بالسيارة، وبعد المؤامرة، وطول المذاكرة، اتفقوا على أن يتولى الأطباء من تلك الساعة، السعي في إتلاف تلك البضاعة؛ لأنهم مأذونون من الحُكّام، بالعبث بصحة الأنام! ومعهم إجازة قانونية، بالتصرف بأرواح البَرِيَّة، وتوهموا أنهم بإتلاف هذه البضاعة النافعة، يتمكنون من إزهاق روح البائعة، وعندما تُسقى كأس المنية، تأتي في حقها وظيفة التُّرَبية، فيودعونها الرمس، {كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ} (يونس: ٢٤) ، ثم اقترب من الفتاة، أحد التُّرَبيّة العتاة، وخطف منها الصندوق، ومَرّ بأسرع من وميض البروق، فصاحت وأعولت، وبكت وولولت، وقالت: أيها الناس أدركوا الغاصب اللعين، ورُدوا عليَّ متاعي الثمين، فبادر إليها أحد الأطباء، وأوهمها بالمكر والدهاء، بأنه قد أشفق عليها، وعزم على رد بضاعتها إليها، وطلب منها أن تتبعه، وتذهب إلى حيث شاء معه، فأجابته لسلامة نيتها، وخلوص طويتها، فأدخلها إلى بناء، علمت أنه دار الشفاء، فحاولت الرجوع من قريب، فحال دون ذلك الطبيب، وقال لها: أنت ذات مرض، يكاد يبلغ الحرض، فلا تخرجين من هنا بحال، إلا بعد تمام الإبلال (الشفاء التام) ، (السيارة) : كلا، إني في صحة وعافية، ونِعَم ضافية، (الطبيب) لها: كلا، لا مفر؛ فإن علامات مرضك تنذر بالخطر (السيارة) : كيف وأنا أشعر بكمال القوة والنشاط، ولساني نظيف ونبضي نبض الأصحاء، وأكلي وشربي ونومي في غاية الاعتدال، (الطبيب) : علامة منذرة، علامة منذرة، علامة منذرة! ثم أمر الممرضات، فنزعن عنها ثيابها وألبسنها ثياب المرضى رغمًا عنها، وحملنها إلى السرير، فعند ذلك أقبل عليها الدكتور، وكاشفها بما في نفسه قائلاً: كان يجب عليك - أيتها الفتاة- أن تأتينا أولاً ببضاعتك هذه، وتعقدين معنا شركة للاتجار بها، ونحن الأطباء نقدر أن نبيعها بأغلى الأثمان! ، ولكن لجهلك بحال الناس في هذه العاصمة؛ بذلت لهم الصحة والعافية بثمن بخس، يقدر عليه كل أحد، ولم تعلمي أنك بصنيعك هذا قاومت طائفة كبيرة لها مكانة عالية، تبيع لأجلها الأمراض بأثمان غالية، وعاديت أيضًا طائفة التُّرَبية، حيث تقل الوفيات بنشر الصحة العمومية، وقد تبين لك الآن أنك جئت شيئًا فرياً، وكأنك كنت تجهلين قاعدة (ضعيفان يغلبان قويًا فحلّ بك البلاء بمقاومة طائفتين من الأقوياء، ثم دعا الدكتور جماعة من إخوانه لعقد مؤتمر طبي (قونسولتاسيون) ، فكان كل منهم لدعوته أسرع مُلَبٍّ، وكذلك يشترك الجم الغفير، في اقتراف الجرم الكبير؛ ليوقعوا الناس، في الريب والالتباس، بل ليوهموهم بأن الخطر جاء من طبيعة الداء، لا من تقصير الأطباء، وقد أجمع رأي جماعة المؤتمر، على أن السيارة في أشد الخطر، يجب أن تفصد مرتين في كل يوم؛ ليخف استغراقها في النوم، وأن تُحقَن بالمورفين بكرة وعشية؛ لتنجو من آلامها العصبية، وإنما قصدوا إيقاعها في داء يُعَجِّل لها المنية، وإن شئت قلت قتلها بالطريقة القانونية، ومازالوا يزاولون هذه الأعمال المهلكة، حتى وقعت السيارة في الأمراض المنهكة، ولولا أنها من العوالم الخالدات، لأدركها الممات، وتيقنت أنه لا نجاة لها من هذا البلاء، إلا بالفرار من (دار الشفاء) ، فأصابت غِرَّة من الخفراء، في جنح ليلة درعاء، فانسلَّت انسلال الأفعى، وولت مدبرة تسعى، ومرت في طريقها بالمقبرة وهي كما علمت متنكرة، فأبصرت الأموات بالصحة متمتعين، وبحُلل العافية رافلين فعلِمت أن التُّرَبية قد دفنوا الصندوق في ذلك المكان المهجور؛ فصارت الصحة والعافية نصيب أهل القبور، ثم طارت السيارة في الهواء، صاعدة إلى السماء، عازمة أن لا تعود، ولو أمرها جوبيتر المعبود! ((يتبع بمقال تالٍ))