(٣٣) الحياة والعلم والإرادة والقدرة الحياة عرفوها بأنها صفة تصحح للمتصف بها أن يكون عالمًا مريدًا قادرًا وقال أستاذنا في (رسالة التوحيد) : صفة تستتبع العلم والإرادة ولا يخفى أن هذه العبارة آدب من الأولى والذي يتراءى أنها من الصفات السمعية التي لا يدل عليها العقل بمجرده كما يدل على العلم والإرادة والقدرة إذ لا يمكن لأحد أن يتصور أن صانعًا يقوم بصنعة بديعة منتظمة وهو لا يعلم ما يعمل أو وهو عاجز عن العمل أو أن عمله الذي هو بغاية الإتقان والإحكام يصدر منه على سبيل المصادفة والاتفاق من غير إرادة ولا اختيار. فهذا الكون البديع يدل مباشرة على أن مبدعه عليم حكيم مريد قدير وأما دلالته على أنه حي فهي بالواسطة لأننا نعلم أن العالم القادر لا يكون إلا حيًّا ولكن هذا العلم إنما جاءنا مما نعهد في أنفسنا وأمثالنا فوَصْف الله تعالى بالحياة بناء على أنه عالم مريد قادر يشبه أن يكون من قياس الغائب على الشاهد والقديم على الحادث وهو قياس غير منتج. ولهذا المعنى صرح من صرح من المتكلمين بأن الحياة من الصفات السمعية التي لم نثبتها إلا لأن الله تعالى وصف نفسه بأنه (الحي القيوم) ولكن أستاذنا سلك في الاستدلال على ثبوتها بالعقل مسلكًا لم نره لغيره على الوجه الذي قرره فنورده ههنا وإن كان يعلو عن أفهام الكثيرين قال حفظه الله تعالى: (الحياة - معنى الوجود وإن كان بديهيًّا عند العقل ولكنه يتمثل له بالظهور ثم الثبات والاستقرار وكمال الوجود وقوته بكمال هذا المعنى وقوته بالبداهة) . (كل مرتبة من مراتب الوجود تستتبع بالضرورة من الصفات الوجودية ما هو كمال لتلك المرتبة في المعنى السابق ذكره وإلا كان الوجود لمرتبة سواها وقد فرض لها. ما يتجلى للنفس من مثل الوجود لا ينحصر وأكمل مثال في أي مراتبه ما كان مقرونًا بالنظام والكون على وجه ليس فيه خلل ولا تشويش فإن كان ذلك النظام بحيث يستتبع وجودًا مستمرًّا وإنْ في النوع كان أدل على كمال المعنى الوجودي في صاحب المثال. فإن تجلت للنفس مرتبة من مراتب الوجود على أن تكون مصدرًا لكل نظام كان ذلك عنوانًا على أنها أكمل المراتب وأعلاها وأرفعها وأقواها. وجود الواجب هو مصدر كل وجود ممكن كما قلنا وظهر بالبرهان القاطع فهو بحكم ذلك أقوى الوجودات وأعلاها فهو يستتبع من الصفات الوجودية ما يلائم تلك المرتبة العليا وكل ما تصوره العقل كمالاً في الوجود من حيث ما يحيط به من معنى الثبات والاستقرار والظهور وأمكن أن يكون له؛ وجب أن يثبت له. وكونه مصدرًا للنظام وتصريف الأعمال على وجه لا اضطراب فيه يعد من كمال الوجود كما ذكرنا فيجب أن يكون ذلك ثابتًا له فالوجود الواجب يستتبع من الصفات الوجودية التي تقتضيها هذه المرتبة ما يمكن أن يكون له. فما يجب أن يكون له صفة الحياة وهي صفة تستتبع العلم والإرادة وذلك أن الحياة مما يعتبر كمالاً للوجود بداهة فإن الحياة مع ما يتبعها مصدر النظام وناموس الحكمة وهي في أي مراتبها مبدأ الظهور والاستقرار في تلك المرتبة فهي كمال وجودي ويمكن أن يتصف بها الواجب وكل كمال وجودي يمكن أن يتصف به وجب أن يثبت له فواجب الوجود حي وإن باينت حياته حياة الممكنات فإن ما هو كمال للوجود إنما هو مبدأ العلم والإرادة , ولو لم تثبت له هذه الصفة لكان في الممكنات ما هو أكمل منه وجودًا وقد تقدم أنه أعلى الموجودات وأكملها فيه. والواجب هو واهب الوجود وما يتبعه فكيف لو كان فاقدًا للحياة يعطيها فالحياة كمال له كما أنه مصدرها) اهـ. ((يتبع بمقال تالٍ))