للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: علوبة باشا


كلمة الأستاذ علوبة باشا وزير المعارف
في مهرجان الإصلاح الاجتماعي

أقامت (رابطة الإصلاح الاجتماعي) مساء يوم الجمعة ٨ من ذي القعدة
مهرجانها في دار جمعية الشبان المسلمين برئاسة سعادة وزير المعارف الأستاذ
محمد علي علوبة باشا، وبعد تلاوة آيات من القرآن الحكيم تقدم فضيلة الشيخ محمد
عبد اللطيف دراز فشكر بالنيابة عن جميعة الشبان المسلمين لرابطة الإصلاح
الاجتماعي عملها، وانتهز فرصة وجود سعادة الأستاذ علي علوبة باشا وزير
المعارف فشكر له حرصه على ترقية الشباب؛ لأنهم عُمُد الإصلاح، وقال: (إن
أُسّ الإصلاح هو الخلق والدين، ولا يصلح الشباب إلا بالخلق والدين) وطلب
من الوزير الجليل أن يجعل نظم التعليم مؤسسة على الدين والخلق، ولا يتم إصلاح
إلا إذا تقرر الدين مادة أساسية في جميع مراحل التعليم، وتمنى للوزارة النهوض
على أساس الخلق والدين.
فوقف سعادة الأستاذ محمد علي علوبة باشا وألقى الكلمة التالية:
إخواني، سادتي:
لم أجد فرقًا بين اليوم والأمس، ولا أعرف لي وصفًا إلا أني (محمد علي) من
قبل ومن بعد، أضيف إليّ اليوم تكليف في عنقي أرجو الله أن يوفقني للنهوض به،
ولقد دلتني التجارب وتاريخ قبل الإسلام وبعده على أنه لم ترق أمة بلا دين، ولا
فائدة من وطنية بلا دين، ولا دين بلا وطنية.
سادتي: صدق الشاعر الجاهلي الحكيم في قصيدته الخالدة، إذ يقول:
لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم ... ولا سراة إذا جُهّالهم سادوا
والبيتُ لا يبنى إلا على عمدٍ ... ولا عماد إذا لم ترس أوتادُ
ما أصدق هذا القول على الأمم والجماعات، وما أصدقه على الأفراد أيضًا،
نعم على الأفراد.
ولا عجب في ذلك، فكما أن الأمم لا سبيل إلى نجاحها واستقرار أمورها إذا
اختلط فيها الحابل بالنابل، وتنوسيت كفاية المستنيرين، وكرامة الأكرمين، فكذلك
الأفراد، لا سبيل إلى إسعادهم إذا سادت فيهم أحط غرائزهم فخذلت أسمى مواهبهم:
العقل سيد الملكات، والخلق الفاضل سبيل السعادة، فهما وحدهما الجديران بأن
يسودا ويُهيمنا على الإنسان، كما يجب أن يهيمن أشراف القوم ومفكروهم على
عامتهم وسوادهم.
ولا سبيل إلى استقرار الأمور في نصابها إذا اختلط الأمر وتُرك الحبل على
الغارب، واستسلم كل إنسان لأهوائه ونزعاته، وتركها تستبد بخلقه وتطغى على
عقله، فإن مآل ذلك الخسران المحقق والبوار الذي لا شك فيه.
أيها السادة:
لعلكم تذكرون حكمة الرسول عليه صلوات الله وسلامة حين عاد من غزوة
بدر الكبرى فقال لصحابته قولته المأثورة: (رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد
الأكبر) يعني من جهاد الغزو إلى جهاد النفس ومغالبة أهوائها، وكبح جماحها
الثائر.
وإنما أذكركم بهذا لأبين لكم الحافز القوي الذي يحفزنا إلى تقديم هذا الواجب-
واجب الإصلاح وتقوم الأخلاق - على كل واجب آخر.
وما ذلك المهرجان الذي أقمناه بالأمس في مؤتمر الشباب الأخلاقي لنصرة
الخلق الفاضل القويم، ولا هذا المهرجان الحاشد الذي نقيمه اليوم للأخذ بناصر
الإصلاح والمصلحين، إلا مثلين من أمثلتنا التي أخذنا بها نفوسنا لنفع أمتنا وتسديد
خطواتها في طريق السعادة الحقيقية والخير العميم.
أيها السادة:
إن الإصلاح الاجتماعي غايتنا التي طوينا فيها أمانينا، وعلقنا عليها كل ما
نسعى إلى تحقيقه في إسعاد الأمة وإبلاغها أعلى درجات العزة والرفعة، وإن
الدعاية للأخلاق الفاضلة لهي أهدى سبيل يصل بنا إلى تلك الغاية المنشودة التي
تعلقت بها آمالنا ووقفت عليها جهودنا.
على أن الطرق المؤدية إلى ذلك المقصد الشريف، وتلك الغاية الموجودة
لتختلف وإن كانت لا تتناقض، والوسائل التي يتوسل بها المصلحون والدعاة إلى
الأخلاق لتتعدد وإن كانت تجتمع آخر الأمر وتأتلف تحت راية واحدة. فما أجدر
الدعاة إلى الأخلاق والمصلحين أن يجتمعوا في أول الطريق صفًّا إلى صف ما
داموا يعلمون علم اليقين أنهم متلاقون ومجتمعون آخر الأمر في الغاية والهدف.
لقد نشطت في هذه الأيام جماعات من الشباب الناهض، يروجون لأغراض
إصلاحية شريفة بوسائل شريفة، وأخذت تعقد اجتماعاتها في مختلف الأندية،
وتلقي خطبها في شتى المنابر، وتنشر آراءها على صفحات الصحف، وقد التفت
الجمهور حولها، وأنصت لقولها. فأوشكت هذه الجماعات المتباينة أن تتبوأ مقاعدها
اللائقة بشرف أغراضها، ونبل مقاصدها، ولقد ظللت أتتبع أخبار تلك الجماعات
بعين الرضا، مُكِنًّا لها في أعماق قلبي أكبر الترحيب، غير ضانٍّ عليها بكل ما
أملك من جهد؛ رغبة في تشجيعها وتقويتها، مرددًا قول شاعر إنكليزي ساغه
الأديب كامل كيلاني في شعر عربي:
قطرات المياه منها محيط ... وصِغار الحصى تُكوِّن أرضا
ودقيقاتنا تؤلف جيلاً ... بعد جيلٍ في إثره يتقضى
وقليل الجنان والحب مما ... يجعل الأرض جنة الخُلد خفضا
ثم جعلت أنعم النظر، وأطيل التأمل في هذه الجماعات المتشعبة، التي
اختلفت أسماؤها وأنصارها، واتفقت أغراضها ووسائلها؛ فوجدت أن لا مندوحة
من تضافر هذه القوة المشتتة، وتجمع تلك الروابط المتعددة؛ لتنضوي جميعها
تحت لواء واحد، فيتكون منها اتحاد قوي يوحد طريقها ويلائم بين خطاها، ويرسم
لها أعلام الطريق وسواه، فتمضي على اسم الله راشدة موفقة إلى الخير.
ولست أبغي بذلك أن تتفرق هذه الجماعات ثم تندمج في هيئة واحدة باسم
واحد، فإن هذا الاندماج يحد من نشاطها الفردي، ويفتر من عزيمتها؛ ولكني أريد
أن يكون الاتحاد لها بمثابة الأب أو القائد الأعلى، وتبقى هي على حالها؛ فلكل
جماعة نظامها، ولها استقلالها ونشاطها.
وإن ذلك ليذكي في هذه الجمعيات روح التقدم والنجاح بفض ما ينشأ بينها من
التنافس والتسابق، وهما دائماً أكبر دواعي النشاط والإقدام، وأقوى مشجع على
الاضطلاع بأنبل الفروض، وأعظم الواجبات.
ذلك - أيها السادة - رأيي، وتلك هي أمنيتي، ولست أرى هذا اليوم السعيد
الذي تتحقق فيه هذه الأمنية ببعيد، وما ذلك على إخلاص الشباب بعزيز.
أيها السادة:
إن جميع الأمم التي تقدمت في طريق الحضارة والحربية أشواطًا بعيدة لم
تصل إلى ما وصلت إليه من الرفعة، ولم تبلغ ما بلغته من المجد إلا بفضل نجاحها
الاجتماعي الذي تأسس على قوى متينة من الأخلاق، وارموا بأنظاركم نحو أية أمة
من كبريات الأمم تروا أن التفاضل بينها وبين غيرها في القوة والمنعة يمشي جنبًا
إلى جنب مع التفاضل في الرقي الاجتماعي، فإذا كانت أمنيتنا أن ننهض بهذه الأمة
نهوضًا حقًّا، فلنا بالأمم أسوة حسنة، وما علينا إلا أن نسعى لإصلاح كياننا
الاجتماعي إصلاحًا تقر به عين الخلق القويم.
أيها السادة:
إن وجوه الإصلاح الاجتماعي شتى، وليس من همي أن أفصل القول فيها
تفصيلاً بعد أن أجملته، فقد قام بذلك حضرات الأماثل الأعلام، الذين أخذوا على
عاتقهم - متفضلين - أن يحاضروكم الليلة في كثير من نواحي الإصلاح الاجتماعي،
وستكون هذه البحوث القيمة مع غيرها محل تمحيص وفحص لتكون نواة للنهضة
التي نسعى لتحقيقها وما وسعنا الجهد.
وقد عنيت في خطابي هذا أن أوجه أنظاركم إلى وجوب تنظيم جمعيات
الإصلاح التي نشطت في هذه الأيام، ووجوب اشتراك كبار القوم في العناية بها
وتشجيعها، والأخذ بناصرها؛ حتى تؤتي أكلها، وترجع على الأمة بأبرك الثمرات.
ويسرني ألا أختم كلمتي قبل أن أشكر لحضراتكم تفضلكم بإجابة دعوتنا لكم
لحضور هذا المهرجان، وأن أشكر حضرة الشاب النشيط سيد أفندي مصطفي
سكرتير رابطة الإصلاح الاجتماعي؛ فلقد كان له أكبر الأثر في تهيئة هذا
المهرجان، والله أسأل أن يهبنا الرشاد في القول والعمل، والسلام عليكم ورحمة الله.