... ...] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ ... ... كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [[*] ذكرنا في المقالة الأولى من فوائد الصيام صحة البدن بترويضه وصحة النفس بتأديب الشهوة وامتلاك زمامها بحيث يصير الإنسان حاكمًا على شهواته يسيّرها في منهاج الأدب والشرف الذي يحدّده الشرع والعقل لا محكومًا بها كالبهم والدواب، بل الإنسان يكون شرًّا من البهائم إذا هو لم يؤدب شهوته ويملك على نفسه أمرها؛ لأن بارئ الكون قد أودع في فطرة البهائم الوقوف عند حدود الاعتدال في تناول شهواتها فلا تأكل ولا تشرب ولا تسافد إلا عن داعية الطبيعة، ومتى استوفت طبيعتها حقها من ذلك تكف عنه من طبعها ولا تحمّل أنفسها بالإفراط ما لا تطيق، ولا تتخذ الوسائل والحيل لإذكاء نار الشهوة فتمتع بأكثر مما يقتضيه المزاج المعتدل فيقضي عليها قانون (ردّ الفعل) بعد ذلك بالضعف أو الخمود، وخلق الله الإنسان ذا فكر يجاهد به الطبيعة ويقاومها تارة بما ينفعه وتارة بما يضره، تختلف أحواله في هذا بحسب صحة الفكر وسقمه وسعة المعارف وضيقها. ألم تر أن أكثر ما يصيب الإنسان من الأمراض والأسقام والأدواء التي تنتهي بالموت قبل بلوغ العمر الطبيعي هو من الإفراط في الطعام أو الشراب أو الوقاع الذي يستعين عليه بما يعطيه للفكر من الوسائل والحيل؟ بالأمس اختطفت المنية شابًّا في ريعان الصبا وعنفوان الشباب فبقر الأطباء بطنه واستلوا أمعاءه فتبين لهم أنه مات مسمومًا بالإكثار من علاج تناوله لتقوية الباءة، مسلمٌ فعل هذا في شهر الصيام وزمن تأديب الشهوة , فإنا لله. والبهائم تستوفي آجالها الطبيعية في الغالب متمتعة بالصحة واعتدال المزاج، وإذا عرض لبعضها المرض أو الموت قبل الأجل الذي خلقها الله تعالى مستعدة لبلوغه فإنما يكون ذلك في الغالب لأمر خارجي كفقد الغذاء أو شدة البرد، لهذا كانت سعادة الإنسان متوقفة على تربية صحيحة وتعليم قويم، ولا يوجد هذان على وجه الكمال إلا في الدين، وإلا كان الإنسان أشقى في حياته من جميع أنواع الحيوان، اقرأ إن شئت قوله تعالى في الجهلاء الذين لا يشكرون الله تعالى باستعمال مواهبه فيما خلقت له من التعلم والتبصر والاعتبار: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الغَافِلُونَ} (الأعراف: ١٧٩) وقوله تعالى: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً * أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} (الفرقان: ٤٣-٤٤) صرّح القرآن بأن الله تعالى خلق هؤلاء السفهاء الأحلام لجهنم، وهذا من جملة الآيات على ما قلناه - ولا نزال نقوله - من أن غاية الدين الإسلامي سعادة الدارين، وأن الشقاء في الدنيا مؤذن بالشقاء في الآخرة، ولكن السعادة في الدنيا ليست آية على السعادة في الآخرة؛ لأنها تحصل بدون الأخذ بجميع أركان الإسلام وتعاليمه على الوجه الذي حدّدته الشريعة. (الفائدة الثالثة) معرفة قيمة النعمة بفقدها ولو اختيارًا، فإن الأشياء تعرف بأضدادها، فمن لم يهذبه الزمان بالحرمان من النعم والحيلولة بينه وبين ما يشتهي ينبغي له أن يتمثل هذا الحرمان بالتعمّل والتكلف؛ لتعظم في عينه النعمة فيحفظها، وفي هذا الضرب من التهذيب تزكية النفس من رذيلة البطر الممقوت صاحبه من جميع البشر. (الفائدة الرابعة) توطين النفس على الصبر والاحتمال , فكم من ذي نعمة فاجأته نقمة، فبلبلت باله وأذهبت رشده وأوقعه الجزع والهلع منها بما هو أشد منها؟ أعرف رجلاً من المترفين كان عنده طائر من نوع (الكنار) وكان مولعًا به فترك قفصه ذات ليلة بجانب بركة الماء فجاءت الهرة تعالج القفص لاصطياده فوقع في الماء، ولما أصبح المترف ورأى الكنار ميتًا في البركة صفق بيديه على ركبتيه فأصابه من ساعته فيهما مرض عصبي أقعده عدة سنين يشتغل بالمعالجة حتى صار يقدر على المشي متوكئًا ولم يبل إبلالاً، يقول قائل: إننا نرى هذا الجزع والهلع وقلة الاحتمال من الذين اعتادوا الصيام، وربما كان المترف الذي تُحدث عنه ممن يصوم رمضان، وأقول في جوابه: إن فوائد الصيام لا تبلغ درجة الكمال إلا لمن فقه سر الصوم وحكمة الله تعالى فيه المعبر عنها في القرآن بالتقوى: {َلعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (البقرة: ٢١) وصام على ذلك فأدرك ما هنالك، والصوم عند المترفين إنما هو تغيير مواقيت الأكل بجعلها في الليل مع زيادة مبالغة في الترف والتطرّس والتنوّق في النعيم، وسائر الناس يحذون حذو المترفين كل بحسب استطاعته، والصوم الحقيقي هو ما عرفه النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بقوله: الصوم نصف الصبر , رواه الترمذي وحسّنه وغيره، وفي رواية البيهقي زيادة وعلى كل شيء زكاة، وزكاة الجسد الصيام , وإنما كان الصوم نصف الصبر لأن الصبر إما أن يكون عن الشيء الذي يؤلم النفس فقده، وإما أن يكون على الشيء الذي يؤلمها وجوده وحصوله. والذي يؤلم فقده هو الشهوات واللذات، ولما كانت شهوتا البطن والفرج أقوى الشهوات، والصبر عنهما أصعب وأشق على النفس منه على غيرهما - جعلت الشريعة تركهما والصبر عنهما عزيمة لابد منها؛ لأن من ربّى نفسه عليه فقيهًا بالمقصود منه طالبًا لحكمته وفائدته - كان الصبر عن غيرهما من سائر الشهوات أسهل عليه، وهو ما جعلت الشريعة الصبر عنه من المندوبات المتأكدة في الصوم، وقالوا: إن كمال الصوم في كف جميع الجوارح عن شهواتها، روى البخاري ومسلم وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إنما الصوم جنة فإذا كان أحدكم صائمًا فلا يرفث ولا يجهل , فإن امرؤ قاتله أو شاتمه فليقل: إني صائم إني صائم. فجعل الصبر عن مجاوبة الشاتم والصائل من الصوم، وفي حديث البخاري مرفوعًا: من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه والأحاديث في هذا المعنى كثيرة، ومن العجيب أن الفقهاء لا يحفلون بهذه المباحث، بل لا يكادون يذكرونها ويملأون الصحائف بالدقائق النادرة التي لا علاقة لها بحكمة مشروعية الصيام كالبحث في الغبار الذي يدخل الأنف في الطريق، وفي وضع الخلال فى الأذن، وفي الاحتراز وقت الاستنجاء من دخول الرطوبة إلى الجوف من المقعدة ونحو هذا، فكيف يحصّل فائدة الصوم مَن يجعل همّه في هذه المباحث دون البحث في حكمة هذه العبادة وكيفية إيصالها إلى التقوى المقصودة للشارع منها؟ (الفائدة الخامسة) مساواة الأغنياء للفقراء والمترفين للبائسين في فقد دواعي اللذة وأسباب النعمة، والمساواة من الفضائل المطلوبة في الأمم وهي من غايات الإنسانية التي يطمع الحكماء أن تعم البشر بعموم التمدن، ويشارك الصومَ في هذه الفائدة الصلاةُ والحج، بل إن الشريعة الإسلامية تساوي بين جميع المحكومين بها في الحقوق سواء من اتخذها دينًا ومن كان يدين بغيرها، وجعلت في عباداتها ألوانًا من المساواة لتكون للغني عبرة وتزكية، وللفقير عزاء وتسلية، ولتهييء الأمة للمساواة في عامة الشؤون التي يمكن فيها المساواة. (الفائدة السادسة) رقة القلب والعطف من ذوي الوجد واليسار على أهل العدم والإعسار بحيث يحملهم ذلك على مواساتهم والإفاضة عليهم مما رزقهم الله تعالى، فإن من يذوق طعم البلاء يكون على أهله أعطف وبهم أرأف، فمن ذاق عرف، ومن المأثور عن سلف الأمة الصالح كثرة الصدقات والصلات في شهر الصوم، وقد بقي للخلف من هذه المزية بقية تشكر، وإن كانت لا تشابه ما كان عليه السلف من كل وجه، ووصف النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان فى رمضان أجود من الريح المرسلة. يُحكى أنه وقع قحط في عهد أحد الملوك فذكر أمام زوجه ما يقاسيه الفقراء من البؤس والعناء لقلة القوت، فقالت: ما ضرهم لو استغنوا عن الخبز بالفالوذج واللوزينج؟ وهما أنفس الحلوى المعروفة عند المترفين لذلك العهد، وما كان الفقراء يطعمونهما في حال الرخاء. (الفائدة السابعة) تعظيم أمر الله تعالى في النفس بأداء هذه العبادة الشريفة على الوجه الذي شرعه الله ابتغاء مرضاته، وهذه الفائدة روحية محضة ودينية خالصة، والصوم هو العبادة التي لا حظّ لشهوة النفس فيها، ولا يأتي فيها الرياء؛ لأنها ترك لا فعل، ولذلك جاء في الحديث المتفق عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال الله عز وجل: كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزى به , وفي رواية: كل عمل ابن آدم تضاعف له الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به، وفي رواية: كل عمل ابن آدم تضاعف له الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي , به يدع شهوته وطعامه من أجلي. ربما يفهم بعض الناس من الحديث أن الصوم من الأمور التعبدية التي لا يعقل لها معنى، ولا تعرف لها فائدة للإنسان في حياته إلا محض الامتثال لأمر الله ابتغاء مثوبته ورضوانه في الآخرة ونحن نقول: إنه ما من عبادة معقولة المعنى ظاهرة الفائدة للعامل بها إلا وفيها معنى تعبدي يجب أن يتحراه الإنسان ويحافظ عليه لمجرد الامتثال، وأضرب لهذا مثل الصلاة، فإن فائدتها للمصلين من النهي عن الفحشاء والمنكر والتطهير من الجزع والهلع والبخل , والتحلي بأضدادها معقولة المعنى، فإن من يقيم الصلاة على الوجه الذي أراده الله تعالى من الخشوع وحضور القلب وإشعاره عظمة الله وكبير سلطانه تحصل له ملكة مراقبة الله تعالى عند كل عمل. وتذكُّر هيمنته وإحاطة علمه بما يعمله، فيكون هذا زاجرًا له عن الفواحش والمنكرات، ونازعًا من قلبه الهلع والجزع عند حدوث الخطوب، وباسطًا يديه بالإنفاق والبذل مما يمسه من الخير في وجوه البر والخير، ولكن تحديد ركعات الصلاة بما هي عليه ككون الصبح ركعتين والمغرب ثلاثًا، والباقيات أربعًا أربعًا ليس معقول المعنى، وإنما نحافظ عليه للوجه الديني الخالص والاتباع المحض ونعلم أن لله فيه حِكَمًا لا يتوقف انتفاعنا بالعبادة على معرفتها، كما إذا عرفنا العلاج وفائدته في شفاء المرض، ولم نعرف الحكمة في مقادير أجزائه ونسبة بعضها إلى بعض وكون الذي يتناول يجب أن يكون مقداره كذا ووقته كذا، ولو لم يكن هذا المعنى التعبدي في هذه الأعمال النافعة المقومة للسعادة الدنيوية لم تكن عبادة تسعد فاعلها في الآخرة، ولكان العقلاء يعملونها لفائدتها من غير تقيّد بما حدّده الدين , فتبطل منها فائدة المساواة بين أفراد الأمة، والمساواة في العمل من الكمالات الاجتماعية كما علمت، فتبًّا لقوم يرغبون عن هذه العبادات وما فيها من الفوائد والمنافع: {وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ} (البقرة: ١٣٠) . (الفائدة الثامنة) صفاء القلب واستنارة الروح واستعدادها بذلك لنفحات الله المعنوية، فقد ورد: إن لربكم في أيام دهركم نفحات ألا فتعرضوا لنفحات ربكم، ولإدراك شيء من عالم الملكوت في ليلة القدر، فقد قال الإمام الغزالي: إنها عبارة عن ليلة ينكشف فيها شيء من الملكوت لذي الاستعداد، وهذه الفائدة للخواص، ويحتاج بيانها إلى شرح طويل لا محل له الآن، وكل منا يعلم من نفسه أن قلة الشواغل والبعد عن الشهوات والرياضة المعتدلة تعطي صاحبها قوة في عقله وإدراكه، فإذا كان مستعدًّا بفطرته لإدراك شيء مما وراء الحس , فأي مانع من كون الصيام معينًًا عليه؟ هذا ماعنَّ لنا من فوائد الصيام وكونه من أسباب السعادة في الدنيا ومقوّمات المدنية، كما هو من أسباب السعادة في الآخرة، فعلى المتمدن العاقل أن يعتبر به ويصوم مراعيًا هذه الفوائد ومتحريًا لها، وعلى الصائم الذي لا يعرف من الصيام إلا ترك الأكل والشرب والجماع أن يطالب نفسه بسر الصيام وفوائده وحكمته؛ لئلا يتناوله حديث: كم من صائم ليس له من صومه إلا الجوع والعطش , رواه النسائي وابن ماجه، وليكون الصوم له جنّة ووقاية كما في الحديث الذي تقدّم {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} (آل عمران: ٧) .