ذكر المقطم في عدده الذي صدر في ١٨ من هذا الشهر (٢٧ مايو) عظمة الأمة الإنكليزية والأمة الأمريكية، وخبر اتفاقهما اتفاقًا يقرب من التحالف قال: (وإن فرنسا واليابان قد تشاركانهما في هذا الاتفاق، ولا يبعد أن تشاركهما فيه روسية أيضًا حليفة فرنسا، وإذا نزعت أسباب الخلاف الجوهرية من بين إنكلترة وألمانيا سهل ضم التحالف الثلاثي إلى هذا الاتفاق، فيتفق نحو ست مائة مليون من الذين في يدهم الثروة والسلطة) . ثم بحث المقطم في حظ مصر والمملكة العثمانية من هذا الاتفاق، واستدل بدخول اليابان فيه على أن اختلاف الدين لا يمنع الدولة العلية أن تحذو حذوها (في نقض كل حاجز يمنعها من الاستفادة من الأوربيين والأمريكيين والنسج على منوالهم) ، ولكن لم يذكر لنا المقطم من مزايا اليابان في هذا المقام إلا شيئًا واحدًا، وقال: الظاهر أن الصبغة الدينية في اليابان ضعيفة جدًّا؛ لأن كثيرين من رجالها تنصروا، فلم يسمعوا كلمة لوم من أحد، وبعض الذين تنصروا صاروا وزراء وقوادًا، ولم يطعن أحد في وطنيتهم، بل زادهم تنصرهم رفعة في عيون أهل وطنهم، فهل تقابل الدولة العثمانية بالترحيب لو شاءت الانضمام إلى التحالف الأوربي أو الاتفاق الأوربي، وهل يرضى بذلك حزب المعممين الذين لا يرضون من سلطان العثمانيين أن يتنازل عن شيء من حقوقه الدينية كخليفة للمسلمين. هذه مسألة من أهم المسائل، ويظهر لنا أن كثيرين من رجال الدولة العلية الذين في يدهم الحل والعقد الآن يودون أن تزال كل الموانع التي تمنع العثمانيين من الانضمام إلى الاتحاد الأوربي مهما كانت (أي ولو كانت حقوق الخليفة الدينية ورفع شأن المتنصرين، وهم عاملون على إزالتها ولو ببطء) ، ثم ذكر أن ما يرضيهم لا يرضي غيرهم، وأن هذا هو السبب الأكبر للخلاف بين زعماء جمعية الاتحاد والترقي. هذا هو رأي المقطم، ويظهر لنا أنه غالط فيه من وجوه، ونبين ما عندنا في ذلك بالإيجاز في المسائل الآتية: (١) إن السبب الصحيح لقبول دول أوربة وأمريكة التحالف والاتفاق مع اليابان؛ هو قوة اليابان الحربية التي كسرت بها أكبر دولة أوربية، لا ضعف الدين ولا تعظيم شأن المتنصرين! فالصين أكثر تساهلاً من اليابان في الدين، ولا نرى تلك الدول راغبة في محالفتها والاتفاق معها، بل هم طامعون في بلادها يتربصون بها الدوائر، والعثمانيون أشد تساهلاً في الدين من اليونان، ولكن أوربة ترجح كفة اليونان الذين يذبحون المسلمين في كريد بغير ذنب إلا دينهم وميلهم إلى دولتهم، ولولا الدول الأوربية لما عجزت الدولة العلية عن تربية الكريديين بمثل ما كبحت به إنكلترة ثورة الهند المشهورة. (٢) إن هذه المنقبة التي ذكرها المقطم لليابان في معرض حث العثمانيين على الاقتداء بهم، ليست من المناقب التي تحلت بهم الأمم الأوربية ولا سيما الذين بدأ بذكرهم وذكر عظمتهم وهم الإنكليز، فهم من أشد الناس تمسكًا بدينهم وقوة فيه، ويبذلون للدعاة إليه في كل سنة قناطير مقنطرة من الذهب والفضة، وإذا أسلم الرجل منهم لا يرتفع قدره فيهم، ولا يرقى إلى المناصب العالية وكراسي الوزارة، بل كانوا يرجمون مسلمي ليفربول بالحجارة، وهو يعلم أنهم لا يساوون أهل الهند بأنفسهم لا في الحقوق ولا في مراتب الشرف. وغيرهم من الأوربيين أشد منهم في هذا الأمر الأخير، ولا سيما روسية. فلماذا يحثنا المقطم على الاقتداء في هذا الباب باليابانيين دون الأوربيين، على أن تنصر المسلمين في المملكة العثمانية أندر من الكبريت الأحمر، فليس له وقائع يحتج بها. (٣) نحن نوافق المقطم على القول بأن الأوربيين يرضيهم أن يضعف دين المسلمين ولا سيما العثمانيين، وأن يعظموا شأن من يتنصر ويرفعوا قدره ويولوه الوزارة وقيادة الجيش، وسبب هذا شدة عناية الأوربيين ومثلهم الأمريكيون، وبنشر دينهم وإضعاف الإسلام الذين يرونه أقوى الأديان التي تقدر على الثبات أمام هجماته التي يريدون بها تنصير البشر كلهم، بدليل ما يبذلونه من الملايين في هذه السبيل، ولأن لهم في بلاد المسلمين مطامع معروفة، ولكننا لا نوافق المقطم على أن ضعف ديننا يكفي لإدخال دولتنا في الاتحاد الأوربي، وإنما يؤهلنا لذلك شيء آخر وهو القوة، فالمصريون أشد تساهلاً في الدين من الأفغانيين؛ لأن المسلم إذا تنصر في مصر لا يضطهد ولا يهان، وإذا تنصر في الأفغان يمزق، ويكون جزرًا للنسور والعقبان، وقد تركت إنكلترة للأفغان بلادهم لقوتهم، واحتلت بلاد المصريين لضعفهم. (٤) ماذا يعرف المقطم من أمر أصحاب العمائم في البلاد العثمانية عامة وفي الآستانة، حيث النفوذ السياسي خاصة، فيعرض بذكرهم في هذا المقام؟ هل يضمن لنا الكاتب الفاضل قبول دول أوربة دخول دولتنا في اتحادهم، إذا ضمنا له قبول أصحاب العمائم لذلك، أؤكد للرصيف الكريم أنهم يرضون ذلك ويتمنونه، ويرون أن من حقوق الخليفة عقد مثل هذا الاتفاق إذا كانت المصلحة العامة تقتضيه وهم لا يجهلون أنه من المصلحة العامة، ولعلهم أقرب إلى كل وفاق بين الدولة وغيرها، وبين عناصر الأمة من أولئك الذين يظن المقطم فيهم أنهم دعاة الوفاق؛ لأنهم يتبجحون بذلك قولاً، ويقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم. (٥) أشار المقطم إلى أن سبب الخلاف بين زعماء جمعية الاتحاد والترقي هو الدين وما يقتضيه من حقوق الخليفة، وأن أصحاب العمائم هم الذين عارضوا أولئك الزعماء الذين يريدون أن يزيلوا كل ما يحول دون اتحاد الدولة بأوربة، مهما كان، وليس الأمر كذلك، فإن شيخ الإسلام وحزبه من أصحاب العمائم في المشيخة الإسلامية وغيرها، كلهم من أنصار الذين يظن المقطم أنهم هم الذين يزيلون تلك الموانع. وأما الحزب الآخر فزعماؤه من حملة الطرابيش لا من حملة العمائم، وليس لهؤلاء في الدولة سياسة خاصة يتولون زعامتها، وليسوا كبعض الرهبنات النصرانية إلبًا على المخالف؛ لأن الإسلام ليس فيه امتياز لبعض الأصناف على بعض. وهذا الزي الذي عليه أكثر صنف العلماء، قد ابتدعه الحكام، ولم يكن في الصدر الأول ولم يكن عامًّا في زمن من الأزمان. (٦) إن المتدينين من أصحاب العمائم وغيرها يعتقدون وجوب العمل بالشريعة في حقوق الخليفة وغيرها، وليس في الشريعة نصوص تمنع من عقد العهود بين المسلمين وغيرهم، فقد عاهد النبي صلى الله عليه وسلم المشركين في الحديبية بشروط كان لهم فيها الرجحان، حتى كره ذلك الصحابة، ولم يقبلوه بعد المراجعة فيه إلا بمحض الإذعان الذي هو شرط الإيمان، وليس في الشريعة أيضًا نصوص تمنع من استعمال غير المسلمين في أعمال الحكومة، وقد استعمل الصحابة الروم والقبط في دواوينهم، وكذا من بعدهم إلى يومنا هذا، ولم نر مثل هذا التساهل من أوربة في منتهى مدنيتها، نعم.. لا يتساهلون هذا التساهل مع المرتد جهرًا. وهؤلاء المتدينون ظاهرهم كباطنهم، فالاتفاق معهم أسهل وأثبت. على أنه ليس لهم في المملكة جمعيات سياسية؛ لتنفيذ ما يعتقدون أنه الحق والصواب، وقد خالفت الحكومة اعتقادهم في مسائل كثيرة، ولم يقاوموها بقول ولا فعل. أما غير المتدينين منا فهم منافقون، يحبون إضعاف الدين من حيث هو دين لا من حيث هو سياسة؛ لتستقر زعامتهم وزعامة أمثالهم، لا لأجل مساواة أوربة والاتحاد بها، وهم متفقون على إبقاء الدين آلة سياسية، وقد ظهر من خطبهم وقوانينهم السرية ما يدل على ذلك. وهذا هو الذي ينفر أوربة منا ويبعدها عنا دون اتباع الدين من حيث هو دين، ومن حيث هو شريعة ظاهرها كباطنها. هذا ما أحببنا بيانه للمقطم الأغر، فلعله يترك التعريض بأصحاب العمائم في مثل هذه المباحث، سواء في ذلك قلمه وأقلام أنصاره الذين عرض أحدهم بأصحاب العمائم في مقام الدفاع عن الماسونية، ولم نعهد أن أصحاب العمائم قاوموا الماسونية، ولا شهروا بها كما يفعل اليسوعيون وغيرهم من رجال النصرانية، فإن كانوا يقيسون أولئك على هؤلاء فهذا قياس مع الفارق، يعرفه من محَّص المسائل ووقف على الحقائق.