للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


التجديد والتجدد والمجددون
(تابع لما سبق)
القضية الأولى
في حقيقة معنى القديم والجديد، والتجدد والتجديد،
والتفاضل بين الطريف والتليد
الخلق كله جديد وإنما القديم المطلق هو الله عز وجل، والجدة والقدم في
المخلوقات نسبيان، فكل قديم منها كان جديدًا، وكل جديدٍ سيصير قديمًا، ومن
الأمثال العامية بل العامة: (من ليس له قديم فليس له جديد) ويا له من مثل حكيم
يفهم منه العلماء ما لا تصل إليه مدارك الدهماء.
والتجدد والتجديد في الكون من السنن الإلهية العامة التي هي مصدر النظام
في تكويننا، والتغير والتحول في أطوار وجودنا، وعملها فيها عين عملها في آبائنا
وجدودنا {فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً} (فاطر: ٤٣)
فنحن في معمل الكون الأعظم كالماء في معمل الجليد، كل آنٍ في تجدد وتجديد،
تارة يكون مائعًا سائلاً، وتارة يكون بخارًا طائرًا، وتارة يكون جليدًا جامدًا، وهكذا
عالم المادة كله، تجدد طبيعي فطري، وتجديد صناعي كسبي، تحليل وتركيب،
جمع وتفريق، هدم وبناء، نماء وفناء؛ وإنما يجري ذلك كله في مادة موجودة،
ذات عناصر معدودة، قديمة في الخلق لا جديدة، ذات قوى محدودة، تُصَرِّفها قدرة
غيبية معقولة لا مشهودة، وهي قدرة الخالق الحكيم عز وجل، فالتجدد والتجديد
إنما هو في الصور والأعراض، لا في إيجاد الجواهر والمواد. ويؤثر عن نبي الله
سليمان عليه السلام أنه قال: (لا جديد تحت الشمس) وهو صحيح ظاهر بهذا
المعنى، ويقابله مقابلة التضاد قول بعض حكمائنا: إن العرض لا يبقى زمانين،
فعلى هذا يصح أن يقال: لا قديم تحت الشمس، ولا تعارض بين القولين، ولا
تناقض بين القضيتين؛ فإن كل ما تحت الشمس قديم باعتبار وجديد باعتبار آخر.
وقد كنت قلت في مقدمة محاضرة في الجمع بين الذكران والإناث في مقاعد
التعليم ما يصح أن يقال هنا على أنه مقصد لا مقدمة وهو:
(التجديد سنة من سنن الاجتماع، كما أن التجدد من مقتضى الفطرة والطباع،
ومثلهما مقابلهما من المحافظة على القديم، ولكل منهما موضع، فلا تناقض بينهما
ولا تضاد، إذا وُضع كل منهما في موضعه بغير تفريط ولا إفراط) .
(من التجدد في نظام الفطرة أن كل أحد يخالف خَلْق والديه وأخلاقهما بعض
المخالفة، ولولا ذلك لم يكن ما نرى من التفاوت العظيم بين البشر، ومن حفظ
الأصل ما لا يجهل من إرثه لهما وشبهه بهما في بعض صفاتها الجسدية والنفسية،
ولولا ذلك لوقع من التباين بين أفراد الناس ما يكاد يكون به كل منهم نوعًا مستقلاًّ
بنفسه) .
(ومن حفظ القديم في الأعمال وراء سنة الوراثة ما تقتضيه غريزة التقليد
من محاكاة الإنسان لمن يعيش بينهم من أول سن التمييز إلى نهاية أجل الشيخوخة،
ثم تقليد الجماهير لمن يرونهم أوسع منهم علمًا، أو أعلى مكانة وقدرًا، ولولا هذا لما
تكونت البيوت والفصائل، والشعوب والقبائل، بما يربط بعضها ببعض من
المشاركات في الأعمال التي تطبع في الأنفس ملكات الأخلاق والعادات، فتكوِّن
رابطة الوحدة، التي تجتمع بها وشائج الكثرة، فتكوِّن بها الفصائل قبيلة والبيوت
أمة) .
(ومن التجديد في الأعمال البشرية ما تَهْدِي إليه غريزة الاستقلال المقابلة
لغريزة التقليد، والميل إلى الاستنباط والاختراع، ولولاه لكانت جماعات البشر
كأسراب الطير، ومساكنهم لا ترتقي عن خلايا النحل وقرى النمل) .

أنواع التجديد والحاجة إليها:
التجديد الاجتماعي والسياسي والمدني والديني كل منها حاجة من حاج
الجماعات البشرية بمقتضى غرائزها واستعداد نوعها به يرتقون في مدارج العمران
ويصعدون في معارج العلم والعرفان، حتى أن الدين الإلهي الذي يستند إلى وحي
الرب الحكيم بمحض فضله، لبعض من أعدَّ أرواحهم القدسية لذلك من أصفياء خلقه -
قد سار مع غرائز الجماعات البشرية في ترقيها من طور إلى طور حتى أكمله
تعالى لهم بالإسلام، عندما وصل مجموعهم إلى سن الرشد والاستقلال.
ومع هذا الإكمال يروي لنا المحدثون عن خاتم النبيين صلوات الله وسلامه
عليه وعليهم أجمعين، أنه قال: (إن الله تعالى يبعث لهذه الأمة على رأس كل
مائة سنة من يجدد لها دينها) رواه أبو داود في سننه، والحاكم في مستدركه،
والبيهقي في المعرفة وغيرهم من حديث أبي هريرة، وأشار السيوطي في جامعه
الصغير إلى صحته، والمراد بتجديد الدين تجديد هدايته، وبيان حقيقته وحقيته،
ونفي ما يعرض لأهله من البدع والغلو فيه أو الفتور في إقامته، ومراعاة مصالح
الخلق وسنن الاجتماع والعمران في شريعته. اهـ. وموعدنا في الكلام في التجديد
الديني والدنيوي القضية الثالثة.
هذه حقيقة معنى التجدد والتجديد، وهي تهدينا إلى أن لكل من الجديد والقديم
محلاًّ، وأن من الجهل تفضيل أحدهما على الآخر مطلَقًا.
المفاضلة بين المتقدم والمتأخر:
وأما المتقدم والمتأخر من الناس فقد كانت القاعدة عند أهل العلم والأدب منا
تفضيل المتقدم على المتأخر ولكن القاعدة عند أهل النشوء والارتقاء العكس وإنما هذا
وذاك بالنسبة إلى جملة أهل العصر، دون الأفراد النابغين الذين قلما تجود بمثلهم
الأزمان، ومذهب النشوء الاجتماعي ظاهر في الأمم في أطوار حياتها وقوتها، بل هو
ظاهر في الدين الإلهي أيضًا، فقد ارتقت الشرائع الإلهية بحسب استعداد البشر حتى
كان آخرها - وهو الإسلام - منتهى الكمال، فجعل الله رسوله الذي جاء به خاتم
النبيين، وبعثته عامة باقية إلى يوم الدين، وأنزل عليه قبل وفاته {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ
دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً} (المائدة: ٣) .
وقد كان بعض الأدباء يفضل المتأخرين في بعض الأشياء، وقد افتتح عنترة
معلقته المشهورة بقوله:
هل غادر الشعراء من متردم
يعني أن الشعراء قبله لم يتركوا لمن بعدهم قولاً يقوله؛ ولكنه هو جاء فيها
بمعانٍ لم يسبقه إليها غيره، وقد عارضه ابن أبي حجلة في تفضيل كتابه (ديوان
الصبابة) على ما سبقه في معناه بقوله في خطبته: فإن قلت الفضل للمتقدم، وهل
غادر الشعراء من متردم؟ أقول: في الخمر معنى ليس في العنب، وأحسن ما في
الطاووس الذنب.
وكلمة (الفضل للمتقدم) صارت مثلاً في أفواه العلماء والأدباء، ولا أدري
أول من قالها هل هو عدي بن الرقاع الشاعر الأموي الذي ضمَّنها في شعره أم
غيره؟ وهذا شيخ صناعة الأدب الحريري قد استشهد في تفضيل بديع الزمان على
نفسه في مقدمة مقاماته بقول عدي هذا، ثم رأيناه عقد المقامة السادسة منها لتفضيل
الطريف على التليد، ونصر العصاميين على العظاميين، وإني أحفظ من عهد
طلب العلم عبارته في هذا، ولا يخلو إيرادها من إحماض وفكاهة، قال:
(روى الحارث بن همام قال: حضرت ديوان النظر بالمراغة، وقد جرى
به ذكر البلاغة، فأجمع من حضر من فرسان اليراعة، وأرباب البراعة، على أنه
لم يبق من ينقح الإنشاء، ويتصرف فيه كيف شاء، ولا خلف بعد السلف من
يبتدع طريقة غراء، أو يفترع رسالة عذراء، وأن المفلق من كتاب هذا الأوان،
المتمكن من أزِمَّة البيان، كالعيال على الأوائل، ولو ملك فصاحة سحبان ووائل،
وكان بالمجلس كهل جالس في الحاشية، عند مواقف الحاشية، فكان كلما شط القوم
في شوطهم، ونثروا العجوة والنجوة من نوطهم، ينبئ تخازر طرفه، وتشامخ أنفه،
أنه مخرنبق لينباع، ومجرمز سيمد الباع، ونابض يبري النبال، ورابض يبغي
النضال، فلما نثلت الكنائن، وفاءت السكائن، وركدت الزعازع، وكف المنازع،
وسكنت الزماجر، وسكت المزجور والزاجر، أقبل على الجماعة وقال: لقد جئتم
شيئًا إدًّا، وجرتم عن القصد جدًّا، وعظمتم العظام الرفات، وافتتم في الميل إلى
من فات، وغمصتم جيلكم الذين فيهم لكم اللدات، ومعهم انعقدت المودات، أنسيتم
يا جهابذة النقد، وموابذة الحل والعقد، ما أبرزته طوارف القراسح، وبرز فيه
الجذع على القارح، من العبارات المهذبة، والاستعارات المستعذبة، والرسائل
الموشحة، والأساجيع المستملحة، وهل للقدماء إذا أنعم النظر من حضر غير
المعاني المطروقة الموارد، المعقولة الشوارد، المأثورة عنهم لتقادم الموالد، لا
لتقدم الصادر على الوارد ... إلخ) .
وللشعراء محاورات مشهورة في تفضيل الحبيب الأول أو الحبيب الآخر،
ومن المشهور في الأول قول بعضهم:
أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى ... فصادف قلبًا خاليًا فتمكنا
وقول آخر:
كم منزل في الأرض يألفه الفتى ... وحنينه أبدًا لأول منزل
نقل فؤادك حيث شئت مع الهوى ... ما الحب إلا للحبيب الأول
وقول بعضهم في الثاني:
محا حبها حب الأُلى كن قبلها ... وحلت مكانًا لم يكن حُل من قبل
وقول آخر في الرد على مفضِّل الحبيب الأول؛ ولكن جاء بحجة دينية لا
غرامية، وفلسفة دروينية لا عذرية:
أكلف بآخر من علقت بحبه ... لا خير في حب الحبيب الأول
أنشُكُّ في أن النبي محمدًا ... ساد البرية وهو آخر مرسل؟
والعدل في الحكم أن تقدم الزمان وتأخره لا شأن لهما في المفاضلة بين الأفراد،
ففي كل زمان أفذاذ، فالقديم كان جديدًا، والجديد يعود قديمًا، كما حققنا، ولله در
القائل في ذلك:
قل لمن يرى للأواخر شيئًا ... ويرى للأوائل التقديما
إن ذاك القديم كان حديثًا ... وسيبقى هذا الحديث قديمًا
وإنما التفاضل بين الأشياء والأشخاص يتعلق بذواتها وصفاتها، ودرجة انتفاع
الناس وارتفاقهم بها، فإن كان للمتقدم فضل الابتكار والاختراع، فقد يكون للمتأخر
عنه فضل التحسين والإكمال الذي يتم به الانتفاع، وقد اشتهر أن كثيرًا من
المخترعات التي سبق بعض اللاتين أو الإنكليز إلى كشفها قد أتمها الألمان فكان
نفعهم وانتفاعهم بها أعظم.
* * *
القضية الثانية
(فضل الشيء في مزاياه ودرجة الانتفاع به)

جهل هذه الحقائق أو تجاهلها أدعياء التجديد، فطفقوا يدعون إلى ترك القديم
لأنه قديم، والأخذ بالجديد لأنه جديد، وربما وصفوا القديم بالبالي لزيادة التقبيح
والتنديد، وإن كان على قدمه لا تبلى جدته، ولا تخلق ديباجته، ولا تخبو ناره،
ولا تنطفئ أنواره، كدين الله القويم، وكتاب الله الكريم {وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ
فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ} (الأحقاف: ١١) .
إن تفضيل الجديد لجدته على القديم لقدمه، مكابرة للحس وسفه للنفس
ومصادمة للعقل، وهو باطل ببداهة الرأي وإجماع كل قبيل وشعب، فإن من القديم ما
يتنافس فيه خواص الناس في أرقى أمم الحضارة، فيباع بالألوف الكثيرة من
الجنيهات، إما لقدمه ونفاسته معًا، وإما لقدمه وحده، وإن هذه البلاد لتفاخر جميع بلاد
الحضارة بآثارها التليدة، وليس عندها شيء من مبتكرات حضارتها الطريفة، وإنك
لترى قصور الملوك والقياصرة وكبار الأمراء والأغنياء مزينة بالصور التي رسمها
قدماء المصورين، كما ترى على جدرانها دون أرضها أنفس السجاجيد العجمية
والشيلان الهندية القديمة.
وإنك لترى دور الآثار العادية تتغالى في شراء هذه الآثار، كما ترى خزائن
الكتب العامة الخاصة تتغالى في شراء الكتب القديمة لكبار العلماء المتقدمين، وإن
علماء هذا العصر في الغرب يشهدون لكثير من قدماء الحكماء والعلماء والشعراء
بالفضل، ويعترفون بأن منهم من لا نظير له في هذا العصر ولا شبيه.
وأما الأنبياء، وكبار القديسين والأولياء، فلا يزال السواد الأعظم في بلاد
الحضارة العصرية يفضلهم على جميع العلماء والحكماء المتقدمين والمتأخرين،
ويعترف بما امتازوا به في أنفسهم وفي هدايتهم، بل لا تزال مئات الملايين من
شعوب أوربة وأمريكة تعبد واحدًا منهم، فأين تذهبون يا أدعياء التجديد الإلحادي؟
وما شأن من تقلدون من ملاحدة الإفرنج الأفذاذ مع العلم بالنهضة الدينية الجديدة في
أوربة وأمريكة التي أثارتها الحرب الأخيرة؟
وإن كان كل جديد يحمد ويؤثر لجدته، فماذا تقولون في هذه السموم الجديدة
المخدرة للأعصاب، بل المفسدة لصحة الأجساد، المطفئة لسرج العقول، التي
يوشك أن يهلك بها هذا الشعب، إذا لم تنجح حكومته فيما سعى إليه حكمدار
العاصمة لدى عصبة الأمم من صد تيارها، وقطع الطرق الخفية على تجارها،
ومن تقليل ما تصدره معاملها في أرقى بلاد أوربة في هذه المدنية المادية الفاسدة
المفسدة.
وأما أحدث نظام جديد للحكومات العصرية فهو النظام البلشفي الذي ترتعد منه
فرائص دول الأرض؛ وإنما يتمنى له النجاح والانتشار بعض المتململين من إرهاق
دول الاستعمار لهم؛ ولكن غلاة التجديد الإلحادي معجبون به ميالون إليه، ولولا
عقاب الحكومة لصرحوا ببث الدعاة له، ولو لم يكن من فوائده عندهم إلا هدم هداية
الدين، وتقويض أركان الفضائل وأصول الشرائع الإلهية لكفى.
القول الحق الفصل في القديم والجديد:
والقول الحق في الموضوع: إنه لا بد للبشر في كل عصر من القديم والجديد،
وإن في كل منهما الحسن والقبيح، والنافع والضار، وأن من الناس من هو أميل
بطبعه إلى هذا، ومن هو أميل إلى ذاك من أجناس الأشياء وأنواعها، وقلما يفضلها
لمحض جدتها إلا الأطفال، ومن على مقربة منهم من النساء والرجال، وأما
العقلاء المستقلون فلا يرغبون عن النوع القديم إلى الجديد إلا بمرجح يرجحه عليه
عملاً بالقاعدة المنطقية في المتساويين؛ وإنما تكون الجدة مرجحة في جزئيات النوع
الواحد إذا كانت متساوية في سائر صفاتها؛ فإن الجديد يكون أزهى وأبهج وأثبت
وأبقى، فمثال الجنس من الأثاث والماعون سرر النوم، ومثال النوع منه في المادة
ذوات المعادن المختلفة، وفي الشكل ذوات العمودين وذوات الأربعة الأعمدة،
وجزئيات النوع منها أفراده، والعاقل لا يختار شيئًا منها لمحض جدته؛ إنما
يرجحه بسبب من أسباب الارتفاق والانتفاع به، إما في ذاته وإما في أمر خارج
عنه، كالاقتصاد واللياقة والوطنية والقومية.
من مُثُل ترجيح القديم على الجديد الذي هو خير منه في نفسه وفي الارتفاق
والانتفاع به، وراء المثل المعروفة من رخص الثمن وغلائه ومراعاة قدرة المقتني
المالية، أن في دار الصناعة البحرية الإنكليزية آلات بخارية لثقب حديد المدافع
وغيره قد حدث بعدها آلات من نوعها تدار بالكهرباء هي خير منها قوة وسرعة
ونظافة - وربما كانت أقل نفقة أيضًا - وهم لا يستبدلونها بها لأن في استبدالها بها
نفقة عظيمة لا تفي بها منفعتها حدثني الدكتور يعقوب صروف أنه رأى هذه
الآلات، وأن الدليل الذي كان يطوف به هنالك قال له: إن اليابانيين تعلموا منا
صنع هذه الآلات في عصر الكهرباء، فجعلوا آلاتهم كهربائية فكانت خيرًا من
آلاتنا هذه، وإن بقاء حاجتنا إليها لا يبيح لنا بذل النفقة الكبيرة التي يتقاضاها
تغييرها.
ترجيح ما هو وطني أو قومي على الأجنبي:
وأما ترجيح كل ما هو وطني وقومي على غيره من جديد وقديم فهو ركن من
أركان الحياة الاقتصادية والسياسية والأدبية في جميع الأمم الحية، ولا سيما
الإنكليز الذين راعهم رواج المصنوعات الألمانية في بلادهم لرخص ثمنها، فألَّفوا
عدة جمعيات للبحث في أسباب تلافي هذا، وقد سألت في بعض صيدليات برلين
وميونخ عن علاج إفرنسي من العلاجات التي أحملها في السفر وأقتنيها في الحضر،
لعروض الحاجة إليها فجأة في بعض الأوقات، فكان الجواب في البلدين واحدًا وهو
(هذا لاتيني هذا لاتيني) لم يقولوا: إنه غير موجود، بل ذكروا سبب ذلك، وهو
أنه من صنع اللاتين لا من صنع الجرمان، ثم استبدلت به علاجًا ألمانيًّا خيرًا منه
فيما وضع له، ولو وجد علاج مصري أو عربي يقوم مقامهما لفضلته عليهما.
بمثل هذه القومية والوطنية ارتقت شعوب الغرب بأبنائها البارين بأقوامهم،
المعتزين بأوطانهم، فهم يفضلون كل ما هو لهم من صناعة وتجارة وتشريع وغير
ذلك من مقومات الأمم ومشخصاتها على ما هو لغيرهم، فأحكام قضاة الإنجليز
القدماء وقرارات ندوتهم من أصول التشريع عندهم يحافظون عليه أشد من محافظتنا
على الأحكام التي نؤمن بأنها منزَّلة من عند الله تعالى، بله الأحكام الاجتهادية التي
استنبطها أئمتنا من نصوص شريعتنا وقواعدها، وقد سبق أسلافُنا الإفرنجَ إلى
الاعتزاز بما لهم من تشريع وغيره في صدر الإسلام، ومن ذلك ما وقع لعمر
رضي الله عنه مع معاوية لما جاء الشام لابسًا مرقعته، مرتحلاً ناقته، إذ قال له
معاوية: (يا أمير المؤمنين، إن أهل الشام قد اعتادوا أن يروا حكامهم في ملابس
فاخرة فهم لا يهابون من يكون متبذلاً في لباسه وزيه) فقال له عمر رضي الله عنه:
(نحن جئنا لنعلمهم كيف نحكم، لا لنتعلم كيف يحكمون) .
ومن ذلك أمره رضي الله عنه لقواده وعماله في بلاد الأعاجم بالتزام الزي
العربي، فقد كتب إلى عامله في بلاد العجم عتبة بن فرقد كتابًا ينهاهم فيه عن زي
الأعاجم ويأمرهم بالمحافظة على عادتهم العربية، ومما قاله في كتابه: (تمعددوا -
أي تشبهوا بجدكم معد بن عدنان في شدته وبأسه وخشونة معيشته، فالمعديون في
العرب كالإسبرطيين في الإغريق - تمعددوا واخشوشنوا وابرزوا واقطعوا الركب -
أي ركاب الخيل - وارموا الأغراض، وعليكم بالشمس فإنها حمام العرب وإياكم
وزي الأعاجم ... إلخ) ، وقد حفظ العرب شخصيتهم القومية في الممالك التي
فتحوها ما داموا متمسكين بهذه الوصايا وغيرها من مقوماتهم ومشخصاتهم ولا سيما
لغتهم ودينهم، فكانت الأمم تندغم فيهم وتتعرب وتسلم، ومن تركها منهم ذاب
واندغم في غيره من الشعوب.
وقد قلَّد الإفرنج أجدادَنا في هذه السيرة، ولا سيما الإنجليز. وأدعياء التجديد
الإلحادي يحاولون إقناعنا بأن ننسلخ من ذلك كله حتى أحكام الميراث التي خالف
الإنكليز فيها جميع شرائع الأمم كحيازة أكبر الذكور من الأسرة لجميع ما يتركه
أبواه من العقار دون سائر إخوته من بنين وبنات.

احتقار الملاحدة والقبط للمسلمين بدعوتهم إلى ترك شريعتهم:
وأما نحن المسلمين في هذه البلاد فقد بلغ من احتقار أدعياء التجديد لنا أن
يجهر الملاحدة والقبط بها على أعواد المنابر في المدارس الجامعة بدعوتنا إلى ترك
ديننا وشريعتنا كلها، لا إلى ترك أحكام الإرث وحدها، ذلك بأنهم احتجوا علينا بأن
الحكومة تركت أحكام شريعتنا في كذا وكذا من العقوبات والأموال فسكتنا لها وقبلنا
حكمها، فيجب علينا إذًا أن نترك سائر ما شرعه الله لنا من الأحكام الشخصية في
الإرث والزواج والطلاق، إذ لا فرق عند هؤلاء المفتين المجددين بين النوعين من
أحكام الشريعة.
لقد هزلت حتى بدا من هزالها ... كلاها وحتى سامها كل مفلس
بل لم يقفوا عند هذا الحد من احتقارنا بالطعن في شريعتنا الإلهية الغراء،
العادلة الكاملة البيضاء، من أعلى المنابر وعلى صفحات المجلات والجرائد، حتى
زعموا أن جميع شبابنا المتعلمين أو سوادهم الأعظم يوافقهم في آرائهم، ويدين لهم
بالزعامة في تجديدهم، بل استخف بالمسلمين أجرؤهم على الجهر بالسوء فيهم وفي
دينهم [١] ، فطفق يشتمنا ويشتم كل من يدافع عن الإسلام في مصر وفي غيرها، وهو
من غير أصلاب الفراعنة آلهة المصريين الأقدمين، التي يوجب عليها في تجديدها أن
ترجع إلى مدنيتهم وإن مر عليها ألوف السنين، ويخص الكتاب السوريين المسلمين
بالقدح والتفريق بينهم وبين المصريين، فالمدنية الفرعونية الوثنية لا تنافي التجديد
المطلوب لمصر عنده؛ وإنما تنافيه الشريعة الإسلامية والحضارة العربية لأنهما
قديمتان باليتان بزعمه وزعم حزبه، وصرَّح في آخر مقال نشره في هذا الموضوع
بأن النعرة الدينية التي انتصرت بها مجلة المنار على مجلة الجامعة فقتلتها (فكان
الشباب المصري هو الخاسر بذلك) قد زالت في هذه الأيام بزوال سذاجة البلاد التي
كانت تجوز عليها هذه الأوهام، وحاول في هذه المقالة أن يجهز على هذه الأوهام
الإسلامية، بتحريك النعرة الوطنية المصرية الفرعونية، التي تأبى دخول آل
الرافعي في جنسية مصر، ولعل تاريخهم فيها يقارن تاريخ بيت الملك، وينفي
بالأولى جنسية هذا الواقف بين أيديكم أيها السادة؛ لأن تاريخ هجرته إليها لا يزيد
على ثلث قرن، وهو يحرِّم عليكم قراءة مجلته المنار الإسلامي، بل السماح ببقائها
في مصر، إذ يقول في آخر هذه المقالة: (فلنفهم واجبنا ولنعلم أن الوطن خالد، وأن
شيوخنا وشبابنا مصريون قبل كل شيء، عليهم واجب محتوم يقاضيهم إياه شرف
البلاد، وهو أنه يجب أن تكون الصحافة المصرية صناعة مصرية، لا تنحصر
مصريتها في أن يكون قراؤها مصريين، بل يجب أن يكون أصحابها ومحرروها
مصريين أيضًا) اهـ بحروفه.
ولهذا المجدد الذي كان أول داعٍ إلى مساواة النساء بالرجال في الميراث في
العهد الأخير من مجلته هذه دعاية جديدة إلى بث دين البابية البهائية في مصر مع
تصريحه بأنه لا يؤمن به وتعليله ذلك بقوله: (فإن لنا من المزاج الأدبي الفلسفي
ما يجعلنا نلتمس لأنفسنا صوفية عالمية بغير الدين) ولكن غرضه من الدعوة
إليها صرف بعض المسلمين بها عن الإسلام لإضعاف جامعته الحائلة دون جعل
مصر فرعونية أي قبطية محضًا، ولم أصرح بهذا التعليل في المحاضرة.
أيها السادة:
إنني أذكر هذا لأنه من موضوع التجديد والمجددين الذي نعالجه لبيان حقيقته،
والتمييز بين حقه وباطله، ومحاولة اتقاء ضرره، كما قدمت في أوائل هذه
المحاضرة، فأنا أمر بسبه وقذفه كريمًا بسلام كما أمر الله في القرآن [٢] وأتقي قول
رسول الله صلى الله عليه وسلم: (المُسْتَبَّان شيطانان يتهاتران ويتكاذبان) رواه
الإمام أحمد والبخاري في الأدب المفرد، ولا أريد أن أخوض مع الخائضين في
مسألة القبط والمسلمين، والعرب الفرعونيين [٣] ؛ وإنما غرضي أن أنبه هذا الشباب
المصري الإسلامي لما يتنازعه في دينه ولغته وثقافته من عوامل الإلحاد والفرعونية
برقيتي التجديد والوطنية، لتجريده من هداية دينه وأدبه وتشريعه وعربيته وما له
في الإسلام والعربية من تاريخ مجيد، وما له بإسلامه وعربيته من زعامة في مئات
الملايين من البشر، لتكون غاية ذلك أن يصير مسلمو مصر بنفوذ شبانهم ملاحدة
حائرين، يتلمسون صوفية علمية بغير الدين، يتكلفون لمسها وهيهات أن يجدوها،
أو يكونوا بابيين يعبدون البهاء دفين عكاء، أو نصارى كسادة وطنهم من القبط
وأعوانهم يعبدون المسيح عليه السلام.
وكل هؤلاء الدعاة إلى التجديد الإلحادي يعتقدون أن هذه هي العاقبة الطبيعية
للإلحاد، كما قرره أحد كتاب فرنسة المستعمرين في كتاب جديد له رددت عليه في
المنار، قال ما خلاصته: إن تنصير المسلمين تنصيرًا مباشرًا من المحال؛ وإنما
الطريقة المثلى لذلك إفساد دينهم عليهم بالإلحاد، ولما كان من المحال أن تعيش أمة
بغير دين كانت العاقبة بعد زوال كل أثر للإسلام من أنفسهم، أن يختاروا دين
الغالبين السائدين فيهم وفي غيرهم وهو النصرانية.
وقد رأيتم في هذه الأيام كيف جدد الأستاذ عزمي دعوة الأستاذ سلامة موسى
إلى نبذ حكم القرآن في الميراث، وكيف قام الدكتور فخري يعزز هذه الدعاية
وسمعتم وقرأتم ما يحتجون به على المسلمين ويقنعون به شبانهم الغافلين، عما يراد
بهم، وهو أن ترك الحكومة من قبل لبعض أحكام الإسلام المدنية والجنائية يوجب
عليهم أن يتركوا سائر أحكامه حتى المسائل الشخصية.
(لها بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))