للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


حكم الشرع فيمن يساعد اليهود على امتلاك فلسطين
ببيع أرضها وغير ذلك

(س٧) من حضرة صاحب الإمضاء إلى صاحب المنار، بعد خطاب
طويل:
لقد وصلت حالة البلاد الفلسطينية إلى درجة من أسوأ الحالات وأصبح هذا
القطر العربي الإسلامي مهددًا بخطر الاضمحلال والزوال بسبب ما تسرب إلى
أيدي أعداء البلاد من الأراضي المقدسة التي تعد بحق هي الحصون التي يجب على
كل مسلم أن يدافع عنها إلى آخر نسمة من حياته.
ولقد أعلن اليهود مرارًا أنهم يريدون الاستيلاء على هذه البلاد المقدسة استيلاء
أبديًّا تامًّا، وأن يجعلوها يهودية، كما أن إنكلترا إنكليزية، وقد بدأت نتائج غزوتهم
تظهر جلية واضحة، فقد أصبح عدد كبير من المسلمين مشردين بلا مأوى، وهذه
مقدمة لتشريد بقية السكان وإجلائهم عن بلادهم، كما أنهم استولوا على مرافق البلاد
الاقتصادية ولم يبق للمسلمين غير القليل من أراضيهم التي إن لم يحافظوا عليها
أصبحت فلسطين المقدسة يهودية بالفعل بعد زمن قليل.
إن أعداء البلاد يريدون فتحها والاستيلاء عليها بالمال، ولو أنهم أرادوا
افتتاحها حربًا وقعد أحد أبنائها عن الجهاد أو قام يساعد الخصوم على امتلاكها لقلنا:
إنه خارج على دينه وقومه، فما رأيكم فيمن يساعدهم على تمليكهم البلاد وهذا
لا يقل خطورة عمن يقعد عن الجهاد أو يساعد الخصم؟
وهل يجوز لمن يؤمن بالله واليوم والآخر، وبكتاب الله وشريعته ورسوله أن
يبيع أرضه لليهود بعد أن يعلم أنه إن فعل ذلك مكَّنَهم من مقدسات المسلمين وساعدهم
على القضاء على الإسلام، وطرد إخوانه من بلادهم؟ وما حكم أمثال هؤلاء في
الإسلام، رئيس اللجنة التنفيذية لمؤتمر الشبان العربي بفلسطين.
... ... ... ... ... ... ... ... محمد يعقوب الغصين
(الجواب)
(بسم الله الرحمن الرحيم) رَبِّ آتني حكمًا وفهمًا وعلمني من لدنك علمًا،
أما بعد فإن حكم الإسلام في عمل الإنكليز واليهود الصهيونيين في فلسطين
حكم قوم من أهل الحرب أغاروا على وطن من دار الإسلام فاستولوا عليه بالقوة
واستبدوا بأمر الملك فيه، وشرعوا في انتزاع رقبة أرضه من أهله بتدابير منظمة
ليسلبوهم المِلْك (بكسر الميم) كما سلبوهم المُلْك (بضمها) وحكم من يساعدهم
على عملهم هذا (امتلاك الأرض) بأي نوع من أنواع المساعدة وأية صورة من
صورها الرسمية (كالبيع) وغير الرسمية (كالترغيب) حكم الخائن لأمته وملته،
العدو لله ولرسوله وللمؤمنين، الموالي لأعدائهم وخصومهم في ملكهم وملكهم، لا
فرق بينه وبين المجاهد معهم للمسلمين بماله ونفسه، فالذي يبيع أرضه لليهود
الصهيونيين في فلسطين والذي يسعى في شراء أرض غيره لهم من سمسار وغيره
كالذي يساعد أي قوم من الأجانب على قومه فيما يحاولون من فتح بلادهم بالسيف
والنار، وامتلاك أوطانهم، بل أقول ولا أخاف في الله لومة لائم، ولا إيذاء ظالم:
إن هذا النوع من فتح الأجنبي لدار الإسلام هو شر من كل ما سبقه من أمثاله من
الفتوح الحربية السياسية والدينية على اختلاف أسمائها في هذا العصر؛ لأنه سلب
لحق أهل الوطن في ملك بلادهم وحكمها، ولحقهم في ملك أرضها لأجل طردهم
منها. ومن المعلوم بالبداهة أنه إذا بقي لنا ملك الأرض تيسر لنا إعادة ملك الحكم،
وإلا فقدناهما معًا.
هذا وإن فقد فلسطين خطر على بلاد أمتنا المجاورة لهذا الوطن منها، فقد
صار من المعلوم بالضرورة لأهل فلسطين والمجاورين لهم، ولكل العارفين بما
يجري فيها من عزم اليهود على تأسيس الوطن القومي الإسرائيلي واستعادة ملك
سليمان بقوة المال الذي هم أقطاب دولته الاقتصادية، وبقوة الدولة البريطانية
الحربية أن هذا الخطر سيسري إلى شرق الأردن وسورية والحجاز والعراق، بل هو
خطر سينتقل من سيناء إلى مصر.
وجملة القول أن الصهيونية البريطانية خطر على الأمة العربية في جميع
أوطانها الأسيوية وفي دينها ودنياها، فلا يعقل أن يساعدها عليه عربي غير خائن
لقومه ووطنه، ولا مسلم يؤمن بالله تعالى وبكتابه العزيز وبرسوله محمد خاتم
النبيين، صلوات الله عليه وعلى آله وأصحابه، بل يجب على كل مسلم أن يبذل
كل ما يستطيع من جهد في مقاومة هذا الفتح، ووجوبه آكد على الأقرب فالأقرب،
وأهون أسباب المقاومة وطرقها المقاومة السلبية، وأسهلها الامتناع من بيع أرض
الوطن لليهود، فإنه دون كل ما يجب من الجهاد بالمال والنفس الذي يبذلونه هم في
سلب بلادنا وملكنا منا.
ومن المقرر في الشرع أنهم إن أخذوها وجب على المسلمين في جملتهم بذل
أموالهم وأنفسهم في سبيل استعادتها، فهل يعقل أن يبيح لنا هذا الشرع تمهيد السبيل
لامتلاكهم إياها بأخذ شيء من المال منهم وهو معلوم باليقين؛ لأجل أن يوجب علينا
بذل أضعاف هذا المال مع الأنفس لأجل إعادتها لنا وهو مشكوك فيه؛ لأنه يتوقف
على وحدة الأمة العربية وتجديد قوتها بالطرق العصرية، وأنَّى يكون ذلك لها وقلب
بلادها وشرايين دم الحياة فيها في قبضة غيرها؟ فالذي يبيع أرضه لليهود في
فلسطين أو في شرق الأردن يعد جانيًا على الأمة العربية كلها. لا على فلسطين
وحدها.
ولا عذر لأحد بالفقر والحاجة إلى المال للنفقة على العيال، فإذا كان الشرع
يبيح السؤال المحرم عند الحاجة الشديدة، ويبيح أكل الميتة والدم ولحم الخنزير
للاضطرار، وقد يبيح الغصب والسرقة للرغيف الذي يسد الرمق ويقي الجائع من
الموت بنية التعويض، فإن هذا الشرع لا يبيح لمسلم بيع بلاده وخيانة وطنه وملته
لأجل النفقة على العيال، ولو وصل إلى درجة الاضطرار، إن فرضنا أن
الاضطرار إلى القوت الذي يسد الرمق يصل إلى حيث لا يمكن إزالته إلا بالبيع
لليهود وسائر أنواع الخيانة، فالاضطرار الذي يبيح أمثال ما ذكرنا من المحظورات
أمر يعرض للشخص الذي أشرف على الموت من الجوع وهو يزول برغيف واحد
مثلا، وله طرق ووسائل كثيرة.
وإنني أعتقد أن الذين باعوا أرضهم لهم لم يكونوا يعلمون أن بيعها خيانة لله
ولرسوله ولدينه وللأمة كلها، كخيانة الحرب مع الأعداء لتمليكهم دار الإسلام
وإذلال أهلها، وهذا أشد أنواعها.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ *
وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} (الأنفال: ٢٧-
٢٨) .