للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


التعليم في الأزهر الشريف

نشرنا ونشر المؤيد في يوم الخميس الأسبق نبذة في نجاح التعليم في الأزهر
بالنسبة للمشتغلين بالعلوم التي أدخلت فيه حديثًا بسعي فضيلة مفتي الديار المصرية
فكتب الشيخ محمد راضي البحراوي من علماء الأزهر نبذة في المؤيد يعترض فيها
على ما جاء فيه من نجاح التعليم , فنشر المؤيد بعد ذلك مقالة بإمضاء (مجاور
أزهري) يرد فيها على ما كتبه الشيخ مع كمال الأدب والاحترام وهي:
***
قرأنا في مؤيد أول أمس نبذة لأحد مشايخنا الكرام في مضرة الاشتغال بالعلوم
الجديدة، ونتيجة امتحان المكافأة في هذه السنة تنحصر أبحاثها في مسائل: (١) إن
الذين امتحنوا في العلوم الأزهرية وحدها أي دون العلوم الجديدة إنما ظهر فيهم عدم
النجاح؛ لأنهم مشتغلون بالجديد أيضًا , ولكن باعتناء زائد أضاع ثمرة اشتغالهم بغيرها
(٢) إننا لو تأملنا لوجدنا أن علمي الحساب والهندسة يشتغل بهما في الأزهر في كل
عصر وآن على أحسن من الطريق الموجود الآن لأن الكتب التي كانت تقرأ كانت
مشتملة على البراهين القطعية , وأما الآن فليس في تعليمهما إلا بيان الأعمال (٣)
إن التعليم الأول كان يقوي العقل , والتعليم الجديد يقوي الحافظة ويضعف العقل (٤)
إن علم تقويم البلدان سهل لا يحتاج إلى إمعان الفكر والنظر، فهو كالتاريخ يفيد
الحافظة ولا يفيد العاقلة أصلاً (٥) إن هذا العلم لا فائدة فيه للمصريين أي وبالأحرى
للأزهريين.
والغرض من تلك النبذة هو ما صرح به بقوله: (إن الاشتغال بالعلوم الجديدة
مضر جدًّا) وقد رأيت أنا وبعض إخواني أن نكتب ما عندنا في هذه المسائل ,
فكتبت إليكم بهذه العجالة غير مصرح باسمي لأن الكلام مع الكلام , ولأننى لا
أتسامى لأن أظهر بصفة المناظر لحضرة أستاذنا كاتب تلك النبذة في جريدتكم ,
وغرض الأستاذ وغرض حضرتكم وغرضنا بيان الحقيقة.
أما المسألة الأولى فقد أحسن المؤيد الجواب عنها [*] وأزيد على ذلك أن
حضرة الأستاذ قالها عن اجتهاد لا عن اختبار؛ لأننا نحن الممتحنين يعرف بعضنا
بعضًا على أنه ليس من المعقول أن أحدًا يصرف كل عنايته إلى علم من العلوم ,
ويطلب الامتحان فيما أهمل الاشتغال به دون ما اشتغل به بكل اجتهاد.
وأما المسألة الثانية فيحتمل أن يكون مراد الأستاذ بها القرون الأولى أيام خلفاء
الفاطميين ومن بعدهم , وأما في هذا العصر فعُدم وجود علماء الحساب والهندسة في
الأزهر وهو الذي اضطر مجلس إدارته إلى استحضار مدرسين لهما من الخارج
وليدلنا الأستاذ على مهندس واحد تخرج من الأزهر.
وأما المسألة الثالثة فهي من مباحث الفلسفة العقلية التي لا يشتغل بها أحد
في الأزهر اليوم , ولكن من المعروف أن أكابر الفلاسفة والسياسيين في أوروبا تعلموا
الحساب والهندسة على الطريقة الجديدة , ولا يمكننا أن نقول: إن عقولهم ضيقة , وقد
اكتشفوا في العلوم ما اكتشفوا , ورقوها إلى الدرجة التي أعطتهم السيادة والسعادة
في الدنيا على أن العلوم إنما تطلب لأجل العمل , فكيف يكون بيان العمل مضرًّا
ومضعفًا للعقل؟ .
وأما المسألة الرابعة وهي قوله: إن تقويم البلدان كالتاريخ يقوي الحافظة ,
ويضعف العقل؛ فجوابه يعلم مما قبله , والمشهور عند جميع الأمم أنه لا شيء
يقوي العقل من العلوم كهذين العلمين لأنهما يعرفان الإنسان أحوال العالم وشئونه.
هذا البرنس بسمارك الذي نقل إلينا أن دماغه أكبر دماغ بحسب ما وصل إليه
اختبار الأوروبيين أي أن عقله أكبر عقل عرفوه باختبارهم الحديث , حتى إنه كان
يحرك الممالك الأوروبية بكلمة ويسكنها بكلمة , وناهيك بعمله العظيم في الوحدة
الألمانية - كان أعلم الناس بالتاريخ والجغرافيا , واتفق الناس على أن قوة عقله ونفوذ
سياسته إنما جاءا من ذلك.
وأما المسألة الخامسة فيمكن للعارف بتقويم البلدان أن يجيب عنها بمقالة أو
رسالة أو كتاب في بيان فوائد هذا العلم للناس عمومًا وللمصريين منهم وللأزهريين
خصوصًا وأكتفي الآن بمسائل:
(أحدها) أن في الأزهر الشريف عدة أروقة , ولكل رواق منها أوقاف
مخصوصة , فإذا لم يكن أهل الأزهر عارفين بتقويم البلدان يشتبه عليهم الأمر في
إلحاق أهل كل رواق به , مثلاً: إن للشوام رواقًا , وللأتراك رواقًا , وبلاد الشام
متصلة ببلاد الترك , ومن أهلها في الأطراف من لا ينطق اليوم إلا بالتركية , وهل
يُعرف الحد بين البلادين إلا من هذا العِلم , وكذلك يقال في رواق الهنود , ورواق
الأفغان إلخ إلخ.
(ثانيها) تبين أن ببلاد أميركا قومًا من المسلمين لكنهم جاهلون بدينهم، فإذا
كتبوا إلى مشيخة الأزهر يطلبون كتابًا أو أستاذًا يعلمهم أمر دينهم فهل يمكننا أن
نعرف سمت القبلة هناك إلا إذا كنا عالمين بطول البلاد وعرضها , وذلك من علم
تقويم البلدان , ومثل هذا يقال فيما إذا كان السائل من بلاد الكاب أو إستراليا أو
جزائر المحيط وغيرها , وإن كثيرًا من المصريين يسافرون في كل سنة إلى
أوروبا، فإذا سئل الأستاذ عن القبلة في بلاد أسوج ونروج كيف يمكنه الجواب إذا لم
يعرف هذا العلم؟ .
(ثالثها) أن حوالي الدرجة ١٦٠من خطوط الطول الغربي لمدينة باريس
وحوالي درجة ٤٥ من خطوط العرض الجنوبي لها نقطة في المحيط الباسفيكي لو
خرج منها خط مستقيم , ومر في مركز الأرض إلى الجانب الآخر يكون في وسط
الكعبة , ففي تلك النقطة يصح لمن كان هناك أن يولي وجهه في الصلاة أية جهة
من الجهات الأربع , فإذا سافر المسلمون من غربي أميركا أو شرق آسيا في تلك
الجهة هل يمكن لهم معرفة هذا الحكم إلا بعلم تقويم البلدان.
(رابعها) اتفقت الجرائد حتى الإنكليزية منها على أن أهم أسباب انتصار
البوير وانكسار الإنكليز في الحرب المشتعلة الآن في جنوب أفريقيا، هو معرفة
البوير التامة بجغرافية البلاد التي وقعت فيها الحرب , وتقصير الإنكليز في ذلك ,
والحرب عند المسلمين قد تكون فرض عين عليه بالشرط الذي يعرف حضرة
الأستاذ أنه متحقق اليوم في كثير من البلاد الإسلامية , وهذا الفرض متوقف في هذا
العصر على معرفة تقويم البلدان.
(خامسها) إن للبلاد الإسلامية التي يتغلب عليها العدو أحكامًا شرعية
مخصوصة , والبلاد التي من هذا القبيل كثيرة الآن ومتصلة بالبلاد الأخرى ,
وكثيرًا ما يقع الاختلاف في حدودها , والأحكام تابعة لمعرفة الحدود , وقد ألحق
ببلاد السودان جزء من بلاد مصر لاشتباه حضرات النظار بين (سرس)
و (فرس) .
(سادسها) إن علم تقويم البلدان يعلمنا مع التاريخ ما عليه الدول الحربية من
الاستعداد , وقد أمرنا الله أن نعد لهم ما نستطيع من قوة , وورد في بعض الأحاديث
أن نحاربهم بمثل ما يحاربوننا به، فالقيام بامتثال هذا الأمر يتوقف على هذين
العلمين.
(سابعها) إن عقلاء المسلمين وكُتابهم قاموا في هذه السنين يحثون المسلمين
على الاتحاد والارتباط والتعاون والتعاضد , ولا ينكر فائدة هذا مسلم , وهو يحتاج
إلى التعارف , والتعارف يكون بعلمي التاريخ وتقويم البلدان.
هذه الوجوه لوجوب الاشتغال بالجغرافيا على المسلمين عمومًا والأزهريين
الذين يستعدون لإرشاد المسلمين في كل قطر بوجه خاص، كلها دينية محضة
ويمكن استنباط غيرها.
ولا حاجة بعد ما تقدم للكلام في نتيجة النبذة التي كتبها أستاذنا الشيخ راضي
البحراوي، وهي أن الاشتغال بالعلوم الجديدة مُضر , فإنه حفظه الله اعترف بأن
الحساب والهندسة من العلوم النافعة , وحصر المضرة في تعلمهما على الوجه
العملي , وقد علم ما فيه كما علمت فوائد تقويم البلدان بالإجمال , وظهرت فوائدها
في تقوية العقل بالنجاح في الامتحان.
وهذا الرأي يوافقه عليه بعض المشايخ ويخالفه الآخرون , وقد كان
عندما اجتمعنا في يوم الخميس الماضي بحضرة أكابر المشايخ لتوزيع المكافأة أن
فضيلة الأستاذ الشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية قال: إن بعض المشايخ
قال: إن الذين يشتغلون بالعلوم الجديدة في الأزهر قد تركوا العناية بالعلوم الدينية
ووسائلها مع أن هذه هي المقصودة أولاً بالذات , فحملني ذلك على استخراج هذا
الإحصاء لأجل تلافي الأمر إذا اتضحت حقيقته , وتلا علينا الإحصاء الذي نشرتموه
مبسوطًا في المؤيد الأغر.
وعندما قال: إن بعض المشايخ قال كذا؛ التفت إليه مولانا الأستاذ
الأكبر شيخ الجامع وقال مستفهمًا استفهام إنكار: (ومن الذي قال هذا؟) وقد
سمع هذه الكلمة منه المشايخ الحاضرون , ومن كان قريبًا منهم من المجاورين ,
فعلمنا من هذا أن أكابر مشايخنا ينشطوننا على الاشتغال بهذه العلوم لعلمهم
اليقيني بدرجة استفادتنا منها , ولا شك أن حضرة الأستاذ الشيخ محمد راضي
البحراوي يوافقهم على هذا بعد زيادة التدقيق لأن مقصود الجميع مصلحة الجميع.