للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


تبرج النساء في مصر

للكلام في مصر دولة ذات صولة، بل له دول متعددة يصول بعضها على
بعض والحرب بينها سجال، وأكثرها يقع في عالم من الوهم والخيال، هو بمعزل
عن عالم الحقيقة والأعمال.
قال قوم: إن النساء أسيرات الحجاب في سجون الحجال، قد استضعفهن
فاستعبدهن معشر الرجال، فيجب تحريرهن من هذا الرق، والمن عليهن بنعم العتق،
فقام آخرون يقولون: إن هذا الحجاب حكم أنزله الله في الكتاب، فالتهاون فيه
إهمال للديانة، وجناية على العفة والصيانة، وقد أكثر هؤلاء القول وسودوا
صفحات الصحف في التألم والشكوى من الدعوة إلى تخفيف الحجاب، ونبز من
يراه بالألقاب.
ليس من غرضنا أن نقول: إن هؤلاء أو أولئك مخطئون، وإنما الغرض أن
نبين أن مسألة الحجاب مسألة كلام ومراء، لا مسألة إرشاد وإصلاح، وأن الغيرة
فيها ليست غيرة على الصيانة وآداب الإسلام، وإنما هي تغاير في ذرابة اللسان
وخلابة الأقلام.
نحن نعلم أن نساء المدن الذين يطلق عليهن لفظ المخدرات والمحجبات، لا
يبلغن عشر نساء المسلمات، ثم إن مظهر هذا الحجاب، وعنوانه هو البرقع
والملحفة التي تعرف (بالملاءة) أو (الحبرة) وإن خَلَت صاحبتها بالرجال،
وشاركتهم في بعض المعاملات والأعمال، وكان الأصل في هذا البرقع أن يستر
الوجه حتى لا يظهر منه إلا العينان، والأصل في هذه الملاءة أن تستر الرأس وجميع
البدن فلا يبدو منها شيء.
فما زال هذا البرقع يرق حتى صار يشف ما وراءه فيبدوا مستورًا أجمل منه
مكشوفًا، وما زال يدق من جانبيه ويتدلى من أعلاه، والملاءة تنحسر من حوله
فتظهر الجبهة وقصبة الأنف والأذنان والليتان (صفحتا العنق) والوجنتان، ثم
خرجت الملحفة التي تعرف بالملاءة وبالحبرة عن كونها ملحفة تستر البدن والثياب
والزينة؛ فصار نساء الأغنياء والمتوسطين ومن قلدهن من دونهن يستبدلن بالملحفة
الساترة عمارة قصيرة تتدلى من الرأس إلى المرفقين، وكساء من نسيج العمارة
يشددنه على خصورهن ويزررن العمارة به من أقفائهن، ويخرجن وهن كذلك إلى
الأسواق والشوارع حاسرات عن معاصمهن المحلاة بالأسورة وسواعدهن إلى
المرافق، وإذا رفعت إحداهن يدها ظهر ما وراء المرفق من العضد لأن أردان
جلبابها واسعة جدًّا تشبه أردان (فرجيات) شيوخ الأزهر.
هذا ما تراه من صيانة مخدراتنا المسجونات وراء الحجاب، في زعم أنصاره
باللسان والكتاب: يتبرجن في الأسواق والشوارع تبرج الجاهلية الأولى مظهرات
جميع زينتهن لجميع الناظرين فلا قرط ولا خاتم ولا سوار ولا خلخال، إلا وهو
معروض في الطريق لأنظار الرجال، والرأس نصفه مكشوف وكذاك الوجه إلا ما
على الفم وأرنبة الأنف من تلك الحريرة البيضاء التي تسمى البرقع، وما هو إلا من
نوع الشفوف المعروف بالسابريّ (الذي يكون المكتسي به كالعريان) أو النهنه
الذي هو أرق من السابريّ.
أين أصحاب الغيرة الإسلامية الذين حملوا على قاسم بك أمين تلك الحملة، أن
قال: إنه يجب على المرأة أن تستر جميع بدنها إلا وجهها وكفيها، وأن لا تخلو
بأجنبي ولا تزيد؛ لأن هذا هو الحجاب المشروع؟ ألا يحملون على اللواتي أظهرن
الشعور، والنحور، والمعاصم، والسواعد، والمرافق والأعضاء، وطفقن يتبرجن
بزينتهن هذه في كل مكان؟ ألا يحملون على أزواجهن وآبائهن وأخواتهن وسائر
أهليهن فيسفهون أحلامهم، ويحركون غيرتهم، ويأمرونهم بإمساك أموالهم أن تنفق في إعانة نسائهم على هذا المنكر العظيم؟ لماذا ثارت حميتهم على القائل، ولم
تثر على الفاعلين والفاعلات. فإن زعموا أن القول لا يفيد؛ فلماذا خافوا من ذلك
القائل، ولماذا قالوا في حقه ما قالوا؟.
النساء في مدن مصر لسن مسترَّقات فيُدعى إلى تحريرهن، ولسن مظلومات
فيُدعى إلى الرفق بهن، وإنما هنَّ مسترِّقات للرجال، ظالمات لهم في الأنفس
والأموال، والسبب الغالب في هذا هو جهل الرجال، وضعف إرادتهم، وسوء
إدارتهم، فهم غير رؤساء في بيوتهم، فإذا كان تعليم البنات وتربيتهن على ما يحب
دعاة المدنية سببًا لنهوض الأمة من كبوتها وارتفاع شأنها؛ لأنهن يربين الرجال
فيكونون أصحاب عزائم، ويعلمنهم فيعرفون حقائق المصالح، كما أنهن يربين
صنفهن على التوفير والاقتصاد، والعمل الموافق لمصلحة البيوت ومصلحة
البلاد، فمن المطالِب الآن بتربية النساء؟ لا جرم أنهن هن المطالبات بتربية
أنفسهن؛ لأنهن متصرفات بإرادتهن لا بإرادة أوليائهن، ولكن هل يسمعن النداء،
ويميزن بين ما يدعو إليه الجهلاء والعقلاء؟
الحق أنه لا يرجى أن نقوم بتربية حسنة للبنات يرجى منها مقاومة تيار الفساد
الجارف إلا بتحقيق أمنية الأستاذ -الإمام رحمه الله - وهي إنشاء الجمعية الخيرية
مدرسة لهن على الوضع الذي كان عازمًا على تنفيذه في العام القابل بعد القيام بجمع
الإعانة له في هذا الشتاء كما نذكر ذلك في موضعه؛ فإذا كان عدد أهل الغيرة على
الدين والشرف، وعلى الآداب والمدنية كثيرًا؛ فليبذلوا المال للجمعية وهي زعيمة
بهذه الخدمة كما كان يريد ويحاول، رحمه الله تعالى.
((يتبع بمقال تالٍ))