للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


تلقين الميت

(س١٤) من صاحب الإمضاء في - كلنتن - جاوه.
حضرة إمام المرشدين وقدوة العلماء المصلحين. من يتلقى سؤال كل سائلٍ
ملهوف بالقبول والرضا الأستاذ العلامة مرشد الأمة ورشيدها سيدي محمد رشيد
رضا أبقاه الله للمسلمين يداوي كل مرض كان عارضًا؛ آمين.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته - أرجو من فضلكم إجابة السؤال الآتي على
صفحات المنار الأغر - ما قول سيدي فيما شاع في ناحيتنا الجاوية من قراءة
التلقين في حاشية البرماوي على شرح ابن قاسم؛ وهو قوله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ
هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} (القصص: ٨٨) ... إلخ؛ بعد تمام الدفن. وهو مشتمل
على آيات قرآنية على خلاف أسباب نزولها، ومعان غير متناسبة، وبعضهم زاد على ما في البرماوي زيادات كثيرة ومناسبات لا تليق بالحال، ك] قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا
قَلِيلٌ [ ... إلخ وهي متعلقة بالأحياء لا بالأموات، فهل هو على هذا النظم
مأثور أم لا؟ فإن قلتم: نعم إنه مأثور أو إنه مجموع من متفرقات مأثورة، فأرجو
من سعة علمكم وكريم إنسانيتكم أن تشرحوه لنا شرحًا وافيًا حتى لا تخفى معانيه على
أمثالنا من القاصرين. وإن قلتم لا، فقد أشكل علينا أن البرماوي يقول: (ويسن
تلقينه بعد الدفن وتسوية القبر؛ فيجلس عند رأسه إنسان ويقول: بسم الله الرحمن
الرحيم كل شيء هالك إلا وجهه.. إلخ) ، والبرماوي من علماء المسلمين فيكف
يسوغ له أن يقول بالسنية ما لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم، والعلماء هم
أدلاء الأمة ومرشدوهم إلى سنة نبيهم صلى الله عليه وسلم، فكيف يرشدون بما لم
يرشدهم نبيهم صلى الله عليه وسلم، ويخترعونه بعقلهم ورأيهم، وكيف يجوز لنا أن
نلقن موتانا بما لم يرد عن نبينا صلى الله عليه وسلم، ومبنى التلقين على التعبد لا
مجال للرأي فيه؟ أفيدونا بيانًا شافيًا لأنَّا قليلو الاطلاع، فإنا لم نجد سجعاته في
الآيات القرآنية ولا في الأحاديث النبوية، والسلام.
الداعي / الحاج موسى عبد الصمد
(ج) : ما ذكره البرماوي ليس بسنة، ولم يرد فيه حديث يثبت السنية ولا
الاستحباب؛ بل لم يرد في التلقين حديث صحيح ولا حسن؛ وإنما ورد فيه حديث
واحد ضعيف لم يخرجه أصحاب الصحاح ولا السنن؛ بل رواة الضعاف والمناكير
والموضوعات وغيرها لأجل تدوينها، على أن الاعتماد في مسألة الاحتجاج على
أسانيدها ومتونها، وقد اختلفت ألفاظهم فيه بعض الاختلاف، وهو حديث أبي أمامة
رضي الله عنه. رواه ابن عساكر وابن النجار والطبرانى والديلمي، وهاك رواياتهم
مرموزًا فيها إليهم، من سنن الأقوال، من كنز العمال، وهي ثلاث:
١- (إذا مات الرجل فدفنتموه فليقم أحدكم عند رأسه فليقل: يا فلان ابن فلانة!
فإنه سيسمع، فليقل: يا فلان ابن فلانة! فإنه سيستوي قاعدًا، فليقل: يا فلان ابن
فلانة! فإنه سيقول له: أرشدني رحمك الله، فليقل: اذكر ما خرجت عليه من الدنيا؛
شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن
الله يبعث مَن في القبور. وإن منكرًا ونكيرًا عند ذلك كل واحدٍ يأخذ بيد صاحبه
ويقول: قم ما تصنع عند رجل لقن حجته؟ فيكون الله حجيجهما دونه) . (كر عن أبي أمامة) .
٢- (إذا مات أحد من إخوانكم فنثرتم عليه التراب فليقم رجل منكم عند رأسه
ثم ليقل: يا فلان ابن فلانة؛ فإنه يسمع ولكن لا يجيب. ثُم ليقل: يا فلان ابن فلانة؛
فإنه يستوي جالسًا، ثم ليقل: يا فلان ابن فلانة؛ فإنه يقول: أرشدنا رحمك الله،
ولكن لا تشعرون، ثُم ليقل: اذكر ما خرجت عليه من الدنيا؛ شهادة أن لا إله إلا الله
وأن محمدًا عبده ورسوله، وأنك رضيت بالله ربًّا وبمحمدٍ نبيًّا وبالإسلام دينًا وبالقرآن
إمامًا؛ فإنه إذا فعل ذلك أخذ منكر ونكير أحدهما بيد صاحبه؛ ثم يقول له: اخرج
بِنَا من عند هذا، ما تصنع به فقد لقن حجته؟ ولكن الله عز وجل حجته دونهم، قال
رجل: يا رسول الله فإن لم أعرف أمه؟ قال: انسبه إلى حوّاء) . (طب. كر
الديلي. عن أبي أمامة) .
٣- (يا أبا أمامة: ألا أدلكم على كلمات هي خير للميت من الدنيا وما فيها
وما غابت عليه الشمس وطلعت؟ إذا مات أخوكم المؤمن وفرغتم من دفنه فليقم
أحدكم عنده قبره، ثُم ليقل: يا فلان ابن فلانة؛ والذي نفس محمد بيده إنه ليستوي
قاعدًا، ثُم ليقولن: يا فلان ابن فلانة؛ فيقول: أرشدني إلى ما عندك يرحمك الله [١]
فليقل: اذكر ما خرجت عليه من الدنيا؛ شهادة أن لا إلا الله وأن محمدًا رسول الله،
وقد كنت رضيت بالله ربًّا وبالإسلام دينًا وبمحمد نبيًّا، فيقوم منكر فيأخذ بيد
نكير فيقول: قم بنا ما يقعدنا عند هذا وقد لقن حجته؟ ويكون الله حجيجهما دونه، قيل: إن كنت لا أحفظ اسم أمه؟ قال فانسبه إلى حواء) . (ابن النجار عن أبي
أمامة) .
وأورده في سنن الأفعال معزوًّا إلى ابن عساكر بهذا اللفظ: عن سعيد الأموي
قال: شهدت أبا أمامة وهو في النزع فقال لي: يا سعيد إذا أنا مِتُّ فافعلوا بي كما
أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا
مات أحد من إخوانكم فسويتم عليه التراب..) ، إلخ ما تقدم.
فأنت ترى أنه ليس في شيء من ألفاظ هذا الحديث شيء من تلك الآيات، ولا
تلك السجعات، ولهذا سكت بعض الفقهاء عن مسألة التلقين وقال بعضهم باستحبابه
بناءً على تساهلهم في العمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال، وقد أدخل هذا
التساهل بدعًا كثيرة في الإسلام، كما حققه الإمام الشاطبي في الاعتصام، وحسبك
منه ما ننقله عنه في هذه الأيام، من إثبات بدعية الدعاء بعد الصلاة من الجماعة مع
الإمام؛ حتى الأدعية والأذكار المأثورة عنه عليه الصلاة والسلام؛ فإن ما ثبت
عمله على الانفراد، لا يجوز فيه التزام الاجتماع، والمدققون من الفقهاء لم يزيدوا
على ما ورد في حديث أبي أمامة.
قال النووي: هذا التلقين استحبه جماعات من أصحابنا منهم القاضي حسين
وصاحب التتمة والشيخ نصر المقدسي في كتابه التهذيب وغيرهم. ونقله القاضي
حسين عن الأصحاب مطلقًا، والحديث الوارد فيه ضعيف؛ ولكن أحاديث الفضائل
يتسامح فيها عند أهل العلم من المحدثين وغيرهم. وقد اعتضد هذا الحديث بشواهد
من الأحاديث الصحيحة كحديث: (اسألوا الله له الثبيت) ووصية عمرو بن
العاص. اهـ المراد منه.
أقول: إن حديث الدعاء للميت بالثبيت لا يعضد شرعية التلقين التي يراد بها
منع السؤال الذي ثبت الدعاء بالتثبيت لأجله ورجاء السداد فيه، ولو كان التلقين
يحول دون السؤال لكان تلقينه خيرًا من الدعاء له، وكذلك وصية عمرو لا تعضده،
فإنه أوصى بأن يقيموا عند قبره قدر ما ينحر جزور ويفرّق لحمها؛ لأجل أن
يستأنس بهم؛ يعني أن روحه تشعر بوجوده فتستأنس بهم في ذلك الوقت الذي هو
أول العهد بذلك العالم وحيث يمتحن الداخل فيه.
فمسائل التشريع لا تبنى على مثل هذا. وأنت ترى فيما نقله الشاطبي عن
الإمام مالك أصلاً راسخًا من أصول الشريعة، وهو أن ما تركه النبي صلى الله عليه
وسلم والصحابة رضي الله عنهم أجمعين مع وجود سببه وداعيته؛ فتركهم إياه إجماع
على أنه غير مشروع ولا جائز في الدين؛ أي في العبادات دون العادات.
وقد ذهب بعضهم إلى تقوية الحديث بعمل أهل الشام به من العصر الأول في
زمن مَن يُقتدى به. قال في شرح الإقناع - من كتب الحنابلة - بعد ذكر المتن
استحباب الأكثر للتلقين، وذكر الحديث وضعفه ما نصه: وقال الأثرم: قلت لأبي عبد
الله (أي الإمام أحمد) : هذا الذي يصنعون إذا دفن الميت: يقف الرجل ويقول: يا
فلان ابن فلانة؛ اذكر ما فارقت عليه - شهادة أن لا إله إلا الله - فقال: ما رأيت
أحدًا نقل هذا إلاّ أهل الشام حين مات أبو المغيرة، جاء إنسان فقال ذاك. وكان أبو
المغيرة يروي فيه عن أبي بكر بن أبي مريم عن أشياخهم أنهم كانوا يفعلونه.
اهـ.
أقول: أبو بكر بن أبي مريم ضعيف وقد اختلط عقله. وأما أبو المغيرة فهو
عبد القدوس بن الحجاج الحمصي، روى عنه أحمد والبخاري في غير الصحيح،
وأصحاب السنن؛ وهو ثقة. وقال النسائي: لا بأس به. وقد ذكر التلقين أبو
عبد الله ابن القيم - في سياق الاستدلال على سماع الموتى بعد الدفن - قال: وقد
سُئِلَ عنه الإمام أحمد فاستحسنه واحتجّ عليه بالعمل. ويروى فيه حديث ضعيف ذكره
الطبراني في معجمه من حديث أبي أمامة - فذكر الحديث وقوّاه باتصال العلم به
في سائر الأمصار والأعصار من غير إنكارٍ؛ ثُم ذكر حكايات مناسبة
لمعنى التلقين.
أقول: لو أن ابن القيم - رحمه الله تعالى - أراد تحقيق هذه المسألة في حدّ
ذاتها لكتب غير هذا؛ ولكنه أوردها في سياق يريد تقويته بسرد الدلائل الكثيرة
كعادته؛ فجاء كلامه فيه موضعًا للنظر والنقد؛ فأمّا جواب الإمام أحمد عنه للأثرم
فلا يدل على استحسانه ولا على تقويته بالعمل به؛ إذا لم ينقل العمل به إلاّ عن أهل
الشام من رواية أبي بكر بن أبي مريم؛ وهو ضعيف، فيدل لفظ الإمام أحمد على أن
التلقين في عصره من القرن الثالث لم يكن معروفًا إلا عن أهل الشام، فسقط بهذا
قول ابن القيم باتصال العمل به في سائر الأعصار. والحق أن العمل لا يعد حجة إلا
إذا كان مستفيضًا عن أهل الصدر الأول من الصحابة والتابعين، فما حدث بعد ذلك
فلا قيمة لشيوعه وكثرة العمل به، فكم من بدعة عمّت الأقطار والأمصار، يقيم
الحجج على بطلانها وقبحها مثل ابن القيم وأستاذه ابن تيمية من أنصار السنة.
وجملة القول أن التلقين لم يثبت بكتاب الله ولا بسنة رسوله، ولا قال أحد
من المحققين إنه سنة؛ بل قال بعض الفقهاء باستحبابه؛ للتساهل في العمل بالحديث
الضعيف والاستئناس له بما يناسبه. والبرماوي ليس قدوة، وكم في كتب أمثاله
وكتب مَن هم أعلم منه من البدع، فلا ينبغي لأحد أن يثق إلا بما يصرّح المحققون
بثبوت نقله عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وجمهور السلف، دون ما يذكر
غفلاً.