الصيام عبادة روحية جسدية، قد شرع لما فيه من المنافع الشخصية والاجتماعية، فهو يروض الأجساد، كما تعطش الزروع وتضمر الجياد، فيفني الرطوبات والمواد الرواسب فيها، التي تصلب الشرايين وتعيق حركة الدم فيها، ويعيد المِعَد المصابة بالتمدد إلى تقلصها وتغضنها، حتى قال بعض الأطباء: إن صيام شهر واحد (كرمضان) يصلح ما أفسده التمدد طول العام، ويمرن المرء على احتمال الجوع والعطش بالاختيار، فيسهلان عليه إذا ألجأه إليهما الاضطرار، في سفر أو سجن أو مجاعة أو قتال، ويشعر الأغنياء المترفين بحاجة الفقراء المعوزين، ويساوي بينهم في هذه العبادة وآثارها كما يساوي بينهم في سائر شعائر الدين. وهو فوق ذلك المربي الأعظم للإرادة، وإنما يتفاضل أعاظم الرجال بما في الإرادة من قوة العزيمة، فلولاها لما استسهل صعب، ولا ثبت شجاع في حرب، ولما أقدم المصلحون على تغيير المنكرات، ولا سيما مقاومة الظلم والاستبداد، ولما ثبت عامل على عمل حتى يتقنه، ولما صبر ذو مصاب على مصابه حتى يأمن خطره، ولما احتفظ أمين بالأمانة، إلا بقدر ما يخاف في الدنيا من عقوبة الخيانة، وناهيك بأمانة الأعراض، والمحافظة على شرف النساء. وهو فوق ذلك مراقبة لله عز وجل وتقرب إليه بما يرضيه من تزكية النفس، وتوجه إلى الكمال الأعلى، والحياة الروحية الفضلى، حياة النبيين والصِّدِّيقين، بل الملائكة المقربين. إن الصائم المسلم هو الذي يحكم سلطان الإرادة بقانون الإيمان على هوى النفس فيمنعها من التمتع بأعظم الشهوات شأنًا عندها، فينال منه الجوع والطعام بين يديه، ويبرح به الظمأ والماء البارد أمام عينيه، ويشتد شوقه إلى ملامسة زوجه وهي منه على طرف التمام وحبل الذراع، فيعرض عن كل ذلك ويتركه بوازع الإيمان، ابتغاء لمرضاة الله تعالى وتحصيلاً للفوائد التي شرع لها الصيام. ألم تر أن الذي يربي إرادته ويحكمها في أشد شهواته وأقواها مدة شهر كامل في كل عام على الأقل جدير بأن لا تنزعه نفسه أكل شيء من أموال الناس بالباطل ولا العبث بشيء من أعراضهم، أو ليس الذي يقدر على ترك أعظم ضروريات الحياة مما أحد الله له وقرب منه متناوله يكون أقدر على ترك ما حرم الله عليه من جنسها ومما هو أدنى منها، وأجدر بأن يغلب هوى النفس الذي يغريه بها، بلى، وإن من الأمثال الإسلامية المشهورة في بعض الأقطار، (إن الذي يزكي لا يُسرق) وهذا أمر معقول كسابقه، فإن الذي يخرج المال من جيبه أو صندوقه طائعًا مختارًا ويؤتيه الفقراء والمساكين ويضعه في غير ذلك من المصارف الشرعية لوجه الله وابتغاء مرضاته بنفع عباده، جدير بأن لا يعصي الله تعالى بتكلف سرقة مال غيره، وهو يعلم أن ذلك سبب لسخط الله تعالى، ولو كان لا يبالي بسخط الله ولا برضوانه بل يؤثر عليه حب المال لحفظ ماله في صندوقه ولم يخرج زكاته فذلك أسهل من إحراز المال بالسرقة. علل الله تعالى فرض الصيام علينا، بأنه هو الذي يعدنا ويؤهلنا للتقوى، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (البقرة: ١٨٣) وإنما التقوى ملكة يقدر صاحبها بوازعها النفسي على اتقاء كل ما يدنس نفسه ويدسيها من ترك واجب، أو اقتراف محظور، ولذلك قالوا: إنها عبارة عن القيام بالواجبات وترك المحرمات، وهذه الملكة كسائر الملكات، تكتسب بالأعمال النفسية والبدنية التي يقوى بها سلطان الإرادة على نزعات الأهواء كما سبق القول، وقد فطن لهذا بعض حكام الغرب، فقال في كتاب صنفه في (تربية الإرادة) : إنه لا مربي للإرادة كالصيام، ولأجل هذا شرع في جميع الأديان. إن أحق الناس بتحصيل هذه الملكة وبسائر فوائد الصيام الروحية والاجتماعية والجسدية من جمعوا بين حكم الله وحكمته فيه وراعوا ذلك حق رعايته، فالإسلام علم وتربية، بنيا على أساس الحكمة والفلسفة، وذلك نص قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} (البقرة: ١٥١) وقد يستفيد كثير من الناس حكمة العبادة ويجنون ثمرتها، وإن لم يتلقوا بالتعليم أن ذلك هو المصلحة التي شرعت لأجلها، كما يستفيد بعض الناس من شيء يأكله أو يشربه، فيكون من حيث لا يدري شفاء من مرض ألمَّ به أولئك الذين أخلصوا دينهم لله فكان لهم من العلم بكل عبادة أنها تُرضي الله تعالى وأنَّ ترْكها يؤدي إلى سخطه واستحقاق عذابه. ومن الناس من يؤدي العمل تقليدًا ومجاراة لمن نشأ فيهم فيكون عادة له كسائر العادات الشخصية والاجتماعية، لا ينوي به قربة، ولا يشعر له بفائدة، ولا يفكر في حكمة الشارع فيه، فلا يكون لصيامه أثر كبير في عباداته ولا معاملاته ولا عاداته، قد يصوم ولا يصلي، وقد يصوم ويصلي وهو مصرّ على المعاصي، فهو الذي يصدق على صيامه ما قاله بعض الأوربيين في تعريف الصيام، من أنه عبارة عن تغيير مواعيد الطعام، بجعلها في الليل بدلاً من النهار، وإنما كمال الصيام بجعله جنة ووقاية من جميع الآثام، قال صلى الله عليه وسلم: (الصيام جنة فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن شاتمه أحد أو قاتله فليقل إني صائم إني صائم) رواه الشيخان في الصحيحين وأصحاب السنن الأربعة، والرفث صريح الكلام في الوِقاع أو ما يتحدث به الزوجان في تلك الحال، والصخب الجلبة والصياح، فإذا كان مثل هذا مما يمنع في الصيام، فما شأن اقتراف كبائر الآثام؟ على أن مثل هذا الصائم خير من تارك الصيام ولا سيما المجاهر به، فإذا كان مثله كمن يبني قصرًا ويهدم مصرًا، فإن مثل تاركي الصيام من أمثال الفساق كمثل من يهدمون القصور والأمصار. يترك الصيام في هذه البلاد أناس كثيرون من طبقتين أو ثلاث طبقات، تتفق وتختلف في بعض الأعمال والصفات: طبقة تحوت الغوغاء الأرذلين، وطبقة أسرى الشهوات المترفين، وطبقة أدعياء المدنية المقلدين، فأما أولئك التحوت السفهاء فإنهم لا يشعرون بقيمة لأنفسهم يشاركون بها سائر طبقات الأمة في شعائرهم الدينية، دع ما هو أرقى من ذلك كالشعور بما يجب من شكر رب العالمين الرحمن الرحيم والتقرب إليه والاستعداد للرضوان الأكبر في دار الكرامة عنده، وغاية ما ورثوه من تقاليد الأديان التي كان عليها آباؤهم الأولون والآخرون تعظيم بعض الموتى ذوي الأضرحة التي خذلت سنة الدين بتشريف بنائها، وجعلها مساجد يصلى إليها ويطاف بها، وبناء القباب عليها واحتفالات الموالد التي هي أعياد ومواسم يحشر الناس إليها بجوار تلك القباب، وزيارة الجماهير للمقابر في ليالي الأعياد وجمع رجب وأيام أخرى من السنة، يرحل فيها إلى القرافات النساء والرجال والأطفال، مشاة حفاة ركبانًا على الحمير والجمال، وما في ذلك من المنكرات الكثيرة المعروفة. وأما هؤلاء المترفون (فمنهم) ملاحدة المتفرنجين الذين هم شر على هذه الأمة من كل عدو لها (ومنهم) أسرى الشهوات الذين ليس لهم من قوة الإرادة ما يقدرون به على مغالبة الهوى وعصيان داعي اللذة، أو حبس النفس على عمل شاق، وهم أشد الناس حاجة إلى الصيام، فإن هذا الإفراط في الترف يضعف البدن كما يضعف النفس، وإذا كثر هؤلاء في أمة فقدت الاستعداد لدفع الأعداء عنها، وللقيام بالأعمال المتبعة التي ترقى بها الأمم والثبات عليها، وقضي عليها أن تكون مستعبدة لغيرها، وأي عار على الفتى الجذع، أو الكهل أو الشيخ الذي لم يدركه الهرم، أكبر من عار الاعتراف بعدم الطاقة على احتمال الجوع والعطش بضع عشرة ساعة يعد له بعدها الشراب المبرد وألوان الطعام الفاخرة، أيها الجذع الناشئ أيها الكهل القارح، أولى لك فأولى، وغير هذا كان بك أولى، كان أولى بك أيها الفتى أن تفخر بالتربية على صفات الرجولية، واعتياد التقشف الاختياري في المعيشة، ومنه أن لا تسرف في التعميم المباح في ليالي رمضان، وأن تصوم من كل شهر عدة أيام، كان أولى بك أيها الكهل أن تكون قدوة صالحة لولدك وأولاد المسلمين، في المحافظة على شعائر الدين، وعلى الآداب والأعمال، التي يبلغون بها درجة الكمال، وأهمها ركوب الصعب، واكتساب ملكة الصبر، وتوطين النفس على مصارعة الحوادث، ومقارعة الكوارث ألا وإن الصيام جد الصيام أول مقدماتها، وأيسر وسائلها. وأما أدعياء المدنية المقلدون فهم الذين يفطرون جهرًا ليقول فيهم غير المسلمين والمنافقون من المسلمين: إنهم (متمدنون) وهذه الطبقةأخس الطبقات فلا ينتحل لها عذر ولا يوجه إليها برهان. عذر الملحد المارق عند نفسه في ترك الصيام أنه فقد الباعث الديني، ولم يترجح عنده باعث تهذيبي، وعذر المترف الشهواني عند نفسه، عجزه عن كبح جماح لذاته، لتحكم الهوى فيها، وضعف الوازع الديني عنها، والجهول السافل من تحوت الناس له عذر هذين الفريقين وعذر آخر وراءهما، وهو أنه لا يخطر في باله ولا يصل علمه إلى ما يعلمه كثير من أفرادهما من معنى كون الصيام ركنًا للدين الذي ينسب إليه، وشعارًا للأمة التي هو منها، وإن العاقل الذي يرى لنفسه قيمة في الوجود يرى شرفه بشرفهما وذله بمهانتهما، وأنه مطالب دينًا وعقلاً بحقوق لهما عليه، وأن دين الأمة من مقومات وجودها، فمن فاته الإيمان الباعث على إقامة أركانه لأجل سعادة الآخرة، لم يسقط عنه احترام شعائره التي هي أقوى روابط الأمة؟ فبهذا العلم يؤاخذ ويطالب كل من أوتي نصيبًا منه، وترتفع المؤاخذة عمن كان نصيبه منه الجهل المطلق حتى إن نفسه لا تتوجه إلى طلبه، ومنهم من يعتذر بأن الصيام يضره وإن كانوا أصحاء الأجسام، بترك ما اعتادوا من النظام في مواعيد الطعام، والصواب أن ما يتوهمون من الضرر في ذلك هو عين النفع؛ لأن التزام تلك العادات أضعف أبدانهم وأنفسهم، حتى صار تغييرهما يؤلمهم أو يضجرهم، وإنما هذا الألم والضجر عرضان لمرض الترف، والصيام علاج له لا مضاعفة. إذا صح أن يكون في الإلحاد عذر للملحد، وفي ضعف الإرادة عذر للمترف، وفي تغيير العادة إيلام للمهفهف، فيا ليت شعري بم يعذر نفسه أو يعتذر عنها من يجاهر منهم بالفطر؟ المجاهرة بالذنب شر من ارتكاب الذنب، لأن ارتكابه سرًّا يجعل ضرره قاصرًا على من اقترفه، وأما المجاهرة به فضررها يتعدى المذنب إلى غيره؛ لأنه يكون قدوة سيئة لمن كان مستعدًّا لاقتراف ذلك الذنب تجرئه على اقترافه، ولأن في الجهر به إذا كان من الشعائر الملّية، كالصيام، احتقارا للملة والأمة التي ينسب المفطر إليها، وإضعافًا لرابطة قوية من الروابط التي تمتاز بها الأمة على غيرها. ها هنا يضحك القارئ من هؤلاء الملحدين، لا تضحكوا إلا على أنفسكم بل ابكوا عليها إن كنتم تعقلون يقولون: إن الملحد ليس من أهل الملة ولا من أفراد الأمة فيُرمى بهذا اللوم ويطالب بالاعتذار عن عمل لا يراه واجبًا عليه، وإنه يعدّ الجهر بالإفطار في رمضان من الشجاعة الأدبية والإسرار به من الضعف والنفاق ونقول: كيف يصدق هذا الكلام على ملاحدة بلادنا وكلهم منافقون يدعون الإسلام ويلتزمون من أحكامه وشعائره، وعادات أهله ما لا ينافي أهواءهم، ولا يعارض شهواتهم، كالأحكام والشعائر، وكذا العادات المتعلقة بالزواج والموت والأعياد، ويخضعون لشريعته في أحكام الزواج والإرث، فإذا ادعى أحد منهم الشجاعة المعنوية بهتك شعار الصيام، فقل له كذبت في دعواك، فإن كنت شجاعًا فصرح على رءوس الأشهاد بالردة عن الإسلام واترك كل ما هو إسلامي، ولا تتزوج نساء المسلمين ولا تأكل تراثهم، ولا تتول الأعمال والوظائف الخاصة بهم بدعوى أنك منهم، وأما إخفاء معصية الإفطار فليست مع صحة العقيدة من النفاق، بل من إخفاء العيوب والعورات. قد يقول بعضهم: إن الإسلام جنسية اجتماعية كجنسية اللغة وجنسية النسب، وإن العقائد الدينية والعبادات البدنية من الشئون الصحية التي يجب أن يكون الناس أحرارًا فيها، ولا ينبغي أن يتوقف عليها تحقق الجنسية بعد أن ينالها صاحبها بالوراثة أو بتسمية نفسه مسلمًا. ونحن نقول: إن هذا الكلام مغالطة بديهية البطلان فإن الإسلام في الحقيقة دين وهو جنسية لمن يدينون الله به، ولو في الظاهر كإقامة أركانه من صلاة وصيام وزكاة وحج وتحليل حلاله وتحريم حرامه، فهو من حيث هو دين لا تحقق له إلا بصحة العقيدة وما يتبعها من الأعمال، ومن حيث هو جنسية يتحقق بالتزام شعائره وأحكامه الظاهرة إلا ما يقع من الإخلال بها شذوذًا كما كان المنافقون يعملون في الصدر الأول فمن لا يؤمن بما جاء به رسوله ولا يقيم شيئًا من أركانه فلا حظ له من جنسيته، فكيف إذا كان مع هذا مجاهرًا بهدم هذه الأركان بلا خوف من الله ولا احترام لأهل هذه الجنسية. على أن كل منتمٍ إلى جنس يجب عليه أن يعد جميع من يشاركونه فيها إخوانًا له وأن يحترم كل ما يشترك فيه معهم من مقومات الجنسية ومشخصاتها، وإلا كان عاقًّا لها، مستحقًّا للطرد والإبعاد عنها، بدلاً من مشاركة أهلها في منافعها الصورية والمعنوية، وهؤلاء المجاهرون بالفطر في رمضان لا يشعرون بمعنى الأخوة الإسلامية العامة، ولا يقومون بشيء من حقوقها، كما أنهم لا يحترمون الشعائر والأعمال التي لا تعرف الجنسية الإسلامية إلا بها. الحق أقول: إن لبعض الذين يفطرون في رمضان عذرًا طبعيًّا، ولا يحمد عذر طبعي إلا أن يكون شرعيًّا، كعذر المريض والمسافر والعاجز عن الصيام لهرم مثلاً، ولكن لا عذر لأحد في الجهر بالإفطار؛ لأنه احتقار للإسلام وإهانة لأهله، لا تصدر اختيارًا إلا من عدو له ولهم، أو ممن لا شعور له بمعنى الأمة والملة وشرفهما كبعض الكناسين والزبالين لا كلهم، وكم يوجد من أمثالهم في المتعلمين المتفرنجين الذين يظنون أنهم ممتازون في الأمة بارتقائهم في الشئون الاجتماعية، وأنهم يشعرون من ذلك بما لا يشعر به الجمهور، وأن الخير للأمة أن تكون مثلهم في ترك أركان الدين وامتهان شعائره والاهتمام بالتمتع بالشهوات، وحسبهم شرفًا وارتقاء ما يتوهمون من عدّ غير المسلمين لهم من المتمدنين أو المتنورين ويا شقاء أمة يكثر فيها أمثال هؤلاء المترفين، فإنها لا ترتقي بهم إلا إلى أسفل سافلين.