النفر من منى إلى مكة: لما كان يوم النفر رمينا الجمرات لآخر مرة، وفي الأصيل شددنا الرحال ونفرنا من منى هابطين إلى مكة المكرمة حامدين لله شاكرين له ما وفقنا لإتمام مناسكنا، راجين من فضله وإحسانه أن يكون حجنا مبرورًا، وسعينا مشكورًا، وعلمنا مُثابًا، ودعاؤنا مُستجابًا، ويالله ما أحلى الشعور الذي يستولي على المرء في أثناء هذا النفْر، فإنه على فراقه لذلك المعهد القدسي الذي وصفنا في الفصل السابق ما له في النفس من عظيم الأنس - تراه يفارقه قرير العين مطمئن القلب جمّ السرور فرحًا بفضل الله ورحمته، وذلك شأن الإنسان بعد إتمام كل عمل من الأعمال النافعة التي يهتم بأمرها، يفرح في عاقبة إتمامه بقدر ما كان من عنايته به وتعبه فيه، وبقدر مكانة العمل نفسه من نفسه، وما يرجو من فائدته ونفعه، سواء كان ذلك في دنياه أو دينه، فمَن لم يألُ جهدًا في أداء المناسك أفاض من منى وهو بحيث وصفنا من الغبطة الروحية، والسكينة والطمأنينة، التي يعبر عنها بعض الناس براحة الضمير، ومن قصر في شيء من تلك الأعمال، ولو بترك العزيمة والأفضل خالج غبطته وطمأنينته بعض التمني ولوم النفس: ليتني فعلت كذا، وسأفعل كذا في حج آخر إن شاء الله تعالى كما تمنى بعض رفاقنا لو باتوا الليل كله في المزدلفة معي. المقام بمكة بعد الحج: قد كنت أرجأت أمورًا مما أنوي عمله في مكة إلى ما بعد الحج: (منها) ما أشرت إليه قبلُ من زيارة جميع الذين تفضلوا بزيارتي ولم تتيسر لي زيارتهم قبل الحج، (ومنها) زيارة كثير من المعاهد التاريخية والآثار النبوية في مكة وضواحيها؛ إذ لم أشأ أن أخلط ذلك بأعمال النسك كما يفعل بعض العوام الذين يعدون بعض ذلك من أعمال النسك أو من الأعمال المطلوبة شرعًا ولو لغير النسك، ولا يطلب شيء من ذلك شرعًا، لا وجوبًا ولا ندبًا، إلا من كانت له نية صالحة في شيء من ذلك وجاء به على وجه يعرفه الشرع ولا ينكره، (ومنها) شراء أشياء كثيرة مما يباع في مكة وضواحيها بعضها لأنفسنا، وبعضها لأجل إهدائه لأصدقائنا، (ومنها) وهو أهمها شرح ما عندنا من الحقائق في الحالة السياسية الحاضرة لمن يجب شرحها له بعد أن كنا فتحنا أبواب بعض مسائلها، فكان الحديث في أكثرها إجماليًّا ولا يغني فيها إلا البيان والتفصيل. لم نلبث أن بدا لنا ما لم نكن نحتسب، وفاجأنا ركب المحمل المصري بسفره يوم الخميس ١٤ ذي الحجة من مكة المكرمة إلى جدة، وعلمنا أنه قرر ركوب البحر في ثاني يوم وصوله إليها، ولو سافرنا معه لما أمكننا أن ندرك شيئًا مما نريد من مكة، فعزمنا على التخلف عنه يومًا واحدًا، وهو منتهى ما نملك من التأخير، وماذا عسى يغني عنا اليوم الواحد مما كنا نقدر له أسبوعًا كاملاً لا نستكثره عليه؟ ، على أننا أدركنا في ذلك اليوم - بتوفيق الله تعالى وعناية المحبين - ما لا يدرك إلا في أيام، فابتعنا بعض ما نحب من الحُلي والحُلَل من منسوجات الهند الموضونة وغير الموضونة وبعض منسوجات الشام وبلاد الترك والصين وغير ذلك مما يشتري مثله الحجاج عادة، وكان الفضل في شراء ذلك في وقت قصير مع أمن غبن التجار لنا فيه لصديقنا الشيخ حسين با سلامة، وهو من أشهر أدباء مكة وتجارها، وقد تركنا ما كنا نبغي من الزيارات بأنواعها، ولكن الله تعالى منّ علينا بما هو خير منها كلها، وهو التشرُّف بدخول بيته العتيق المعظم والصلاة والدعاء فيه. دخول الكعبة المعظمة: دخلت المسجد الحرام في وقت الضحى من يوم الجمعة (١٥ ذي الحجة) ، فوجدت باب البيت العتيق المعظَّم مفتوحًا، وفيه بعض شبان آل الشيبي الكرام، فرأيت الفرصة سانحة للتشرف بالدخول فيه، والوقت هادئ لا يكدر صفوه احتفال ولا ازدحام، وكان يرافقني الشيخ حسين با سلامة، فبلغ من هنالك من الشيبيين رغبتي، فقابلوها بالقبول والارتياح، فتوضأت من بئر زمزم، وأدلى الشيبيون لي السلم، فصعدت، فدخلت متذكِّرًا دخول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، متمثّلاً حاله في ذلك اليوم العظيم يوم الفتح، ففاجأني من الهيبة والخشوع والبكاء ما لم يسبق له نظير، ووقفت زمنًا لا أستطيع فيه الإحرام بالصلاة ولا النطق بالتكبير، وقد ذكر لي رفيقي با سلامة في هذه الحال المكان الذي صلى فيه صفوة الله من خلقه وَعَيَّنَهُ بالإشارة على حسب ما بيَّنه الحافظ ابن حجر في شرح البخاري، فصليت فيه ركعتين هما أرجى ما أحتسبه عند الله تعالى من التطوع، ثم صليت في كل جهة من الجهات الثلاث الأخرى ركعتين. ودخول الكعبة ليس من مناسك الحج خلافًا لما حكاه القرطبي عن بعض العلماء، واختلفت الرواية في دخول النبي صلى الله عليه وسلم البيت وصلاته فيه، والتحقيق الذي جمع به بين الروايات الصحيحة المتعارضة أنه دخله في عام الفتح لا في حجه ولا في عمرته، وأنه صلى فيه ركعتين بين العمودين المقدمين جاعلاً الباب وراءه وبينه وبين الجدار الذي صلى إليه ثلاثة أذرع بذراع الآدمي تقريبًا لا تحديدًا، وليس من السنة تتبع المواضع التي صلى فيها النبي صلى الله عليه وسلم للصلاة فيها، ولا مواقفه في النسك كما تقدم في الكلام على موقفه في عرفات، وكذا سائر عباداته، ولم يُرْوَ عن أحد من علماء الصحابة أنه فعل شيئًا من ذلك إلا عبد الله بن عمر (رضي الله عنهما) ، فهو فعل غير مشروع وغير ممنوع، إلا أن يؤتَى به على وجه يكون به بدعة، وهو جعله كالمشروع بالتزامه أو بالاجتماع عليه كالشعائر، فإذا خلا من شبهة البدعة كان كبير الفائدة لذي اللب؛ لما فيه من حسن الذكر الذي يخشع له القلب، ولعله لم يشرع لئلا يترتب عليه الحرج الشديد بالتزاحم؛ ولتعذر فعله على العدد الكثير، كما لو أراد كل حاج أن يقف حيث وقف صلى الله عليه وسلم, ولسد ذريعة الشرك؛ إذ يُخشى على ضعيف العلم بالدين أن يغلو فيه، فيجعل للرسول شركة في العبادة التي يتتبع آثاره فيها {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} (البينة: ٥) ، وإنما ذلك بتوجيه الوجه وإسلامه إليه وحده في العبادة. * * * وداع الأمير وصفاته علمت أن أمثل الأوقات لوداع الأمير ما بعد صلاة الجمعة، فقصدت عقب الصلاة حجرته التي يصلي فيها، وهي في جدار الحرم الجنوبي، فألفيته جالسًا في القسم الخارجي من الحجرة، وفي حضرته بعض الكبراء، وفي مقدمتهم رئيس الوكلاء والشيخ محمد صالح الشيبي الكبير رئيس مجلس الشيوخ، وكان معي السيد عبد الله الزواوي وكيل المجلس، وعلمنا أنه كان في القسم الداخلي، حيث صلّوا الجمعة نجله الشريف عبد الله وكيل الخارجية مع بعض الناس. فلما دخلت على الأمير تلقاني بالحفاوة والإكرام، فاستلمت يده لتقبيلها، فحاول تواضعه التمنع من ذلك، ولما جلسنا تفضَّل بكلمات من المجاملة كادت تذيبني خجلاً، ونكتفي من كلامه بما دون الإطراء الذي تقتضي الحال حذفه، وهو قوله موجهًا الخطاب للحاضرين: هذا فلان ... صاحب المنار، كلكم تعرفونه، وتعرفون ما له من الغيرة والإخلاص والجهاد في خدمة الإسلام. وهو قد جاءنا في هذا العام حاجًّا. وكنا نتمنى أن يبقى عندنا، ولكنه صاحب عمل كبير في مصر، وهو قد رأى وعرف كل شيء عندنا، وظهر له أننا إلى الآن لم نقف أمام عتبة عمل من الأعمال (وكان ذكر في سياق حديثه ما ينوي من ضروب الإصلاح العلمي والعملي) ، التي لا بد لنا منها، وأن همنا محصور في إخراج المتغلِّبة من بلادنا، ولا يتم ذلك إلا بفتح المدينة المنورة، فمتى تم لنا ذلك، وأردنا البدء بالإصلاح الذي نبغيه فإننا نرجو من غيرته أن لا تمنعه أعماله في مصر من إجابتنا إلى ما نطلبه من معاونته وإرشاده، وهو الآن يقدر أن يخدم حركتنا في مصر أكثر مما يخدمها هنا لو أقام بيننا. فلما أتم كلامه شكرت له ما أراه مبالغة في حسن الظن والمجاملة، وذكرت أن هذا التواضع عن كمال الرفعة قد أخجلني، حتى عقد لساني، ولم يَبْقَ لي إلا أن أقول: إنني أعد نفسي كجندي صغير مستعد في كل آن لخدمة دينه وأمته بالإخلاص، وأعاهدكم أمام بيت الله تعالى، على أنني لا أُدعى إلى عمل أستطيعه في خدمتهما إلا وأبذل فيه كل جهدي ما دمت معتقدًا أنه حق، وإنه لا يثنيني عن ذلك منفعة شخصية ولا أهل ولا ولد، فإنني نشأت على العمل بما يوجبه عليَّ اعتقادي، ويطمئن إليه قلبي، ثم قمنا، وتقدمت لوداعه، ومحاولة تقبيل يده، فأخذ بيدي، وتوجه بي إلى بيت الله عز وجل من حيث يرى من نافذة المكان، وقال: أسأل رب هذا البيت أن يجمعنا، ولا يجعل هذا آخر العهد بيننا، ثم ودعت الحاضرين، وانصرفت حامدًا شاكرًا. صفات الأمير وشمائله: قد آن أن أذكر في هذه الرحلة بعض ما علمته واستنبطته من صفات هذا الأمير الجليل، ومزاياه التي يوافق ذِكرها مقتضى الحال، فأقول: إنه حوى جل أخلاق ملوك الشرق وأمرائه العظماء، وانفرد بصفات ورثها من أجداده الشرفاء، فمن ذلك قِرى الضيوف وإجازة الوفود، وعزة النفس والثقة بها والاعتماد عليها، والثبات والإصرار على ما يأخذ به، ويجري عليه، فقد تتزلزل الجبال دونه، ولا يتزلزل، وشدة الحذر، وسوء الظن الذي عدّ من أزكى الفطن، حتى كان نصب عينيه قول الشاعر: وإنما رجل الدنيا وواحدها ... مَن لا يعول في الدنيا على رجل ولذلك تراه ينظر في كل شيء من شؤونه الخاصة، وشئون البلاد العامة، حتى أمور المنزل وشؤون الضيوف والوفود ونفقاتهم، ومصالح البدو وصلاتهم، وقد أعطاه الله تعالى قوة غريبة، فهو يشتغل بالنظر في ذلك كله عامة النهار، ولا يشكو مللاً ولا تعبًا، وقد كلمته في مسألة الاشتغال بالجزئيات، ووجوب نوطها ببعض العمال، وجعل وقته الثمين خاصًّا بالمصالح العامة والأمور الكلية، ووضع نظام لذلك، فقال: إن هذا ضروري لا مندوحة عنه، ونحن لا نزال نجري على نظامنا القديم، والتحول عنه إلى غيره لا يتأتَّى إلا في زمن غير قصير، قلت: نعم، وإنما الغرض وضع النظام له والبدء فيه. ومن أخلاقه وشمائله توخِّي التواضع في القول والفعل، مع المحافظة على الوقار وأبَّهة الملك، والأدب العالي في مخاطبة الجليس ومجاملته، مع الإشارة إلى ما تقتضي الحال من معارضته، وهو على آدابه وتواضعه شديد الوطأة على المجرمين والمخالفين السياسيين، يأخذهم بأشد العقاب الذي يرهب كل من تحدِّثه نفسه بأن يعمل على شاكلتهم، لا يخاف في ذلك لومة لائم. (ومنها) العفة والنزاهة فهو مقتصد في تمتُّعه بالطيبات، عزوف النفس عن الانهماك في الشهوات، (ومنها) الشجاعة والإقدام على مكافحة الأخطار، لا يخاف الموت على نفسه ولا على ولده؛ ولذلك جعل أنجاله الأربعة قوادًا لجيوشه، يكافحون المهالك بأيديهم، ويناطحون الموت بنواصيهم. وهو يحب وطنه (الحجاز) حبًّا عظيمًا، ويكرم الحفاة العراة من أعرابه تكريمًا، وطالما نوهنا بما علمنا من براعته في سياستهم وحفظ الأمن بينهم، وقد رأيناه يقضي في مقابلتهم عدة ساعات من كل نهار وهم يدمرون عليه بما اعتادوا من الحرية والاستقلال. أما معارفه وآراؤه في السياسة والأمور الاجتماعية فليس الخوض فيها من مقتضى الحال في هذا الوقت، ولم يكن يسهل العلم بتفصيلها من المذاكرات القليلة التي دارت بيني وبينه، وإن كنت كلمته فيها بحرية واستقلال قلما يكلمه بمثلهما أحد؛ لأنه قليل الكلام، لا يطيل المراجعة والحوار في المسائل ليعلم كُنه غروره فيها، ولكن الزمان سيبين كنه ذلك كله بما يظهر من تصرفه في شؤونها. وقد وقفت منه على آراء سيكون لها أعظم شأن في سياسته: (منها) يأسه من الدولة العثمانية ولولا هذا اليأس لما أقدم على ما أقدم عليه، كما أشرت إلى ذلك في خطبتي السياسية بمنى بين يديه، ثم إنه كلمني في هذا الموضوع بعد النزول من منى، وعدَّه من الأمور التي عبرت فيها بالخطبة عن رأيه قبل الوقوف عليه. (ومنها) أنه له ثقة بالدولة البريطانية، وتقديرًا لقوتها وعظمتها لا حد لهما، ولا سلطان لشيء عليهما. (ومنها) أن ما شاهده من التطور والتحول في سياسة الدولة العثمانية، وإفضاء ذلك إلى جعْلها كالكرة في أيدي جمعية الاتحاد والترقي قد ضاعف ما في فطرته وتربيته من كراهة الآراء والأفكار التي نشأ عنها ذلك الفساد، وشدة الحذر من أصحاب أمثال هذه الآراء والأفكار، وقد ذكرت في هذه الرحلة ما كان أعجبني ووافق رأيي من خطته السياسية التي أفصح عنها في منشوراته، وأشرت إلى ما طرأ بعد ذلك من التحول فيها فلا أعيده، وإنما أقول: إنه جاء موافقًا لما ذكرته هنا من آرائه الراسخة، فظهر أن التجارب لا تزيدها إلا رسوخًا وثباتًا. وإنني أختم الكلام بتكرار الشكر والثناء على حسن ضيافته لي وإكرامه إياي، فقد غمرني بكرمه وجوده، وكان من دقة لطفه وكمال ذوقه في ذلك أن جعله بطريقة لا مجال للاعتذار عن قبول شيء منه، وقد كنت قلت أول مقدمي لبعض المقربين منه كلامًا عن عادتي التي شرحتها في المنار عند رحلتي إلى الهند، وهي أنني لا أقبل أن تشاب خدمتي للعلم وللملة والأمة بشيء من شوائب المنافع الشخصية، حتى إنني كنت أعلن في تلك الرحلة أنني لا أقبل الهدية، ورجوت أن يتلطف في تبليغ ذلك، وإن أدري أفعل أم لا، ولكنني بعد شد الرحال وعند إرادة الركوب وصلت إلى جائزة سنية، أو هدية هاشمية، أردت أن أكلم مَن جاء بها في شأنها، فقال: هكذا أُمرت، وأنا لا أعلم شيئًا إلا أنني عبد مأمور أمرني سيدنا، فنفذت أمره، وانصرف، فعجبت من هذا اللطف الدقيق، والذوق السليم. طواف الوداع وتوديع الإخوان: في أثناء اشتغال وكيل الخرج وأعوانه بشدّ الرحال، طفت أنا ومَن معي من الآل والصحب طواف الوداع، وكان ذلك بعد العصر، وكنا قصدنا أن نركب في ذلك الوقت، ولكن لم يتيسر لنا الركوب إلا عند قرب غروب الشمس، وودعنا قبل الخروج كثير من الإخوان والمحبّين، وركبنا، وركب معنا بعض الأصدقاء مشيّعين، وفي مقدمتهم السيد الزواوي الكبير، ونجله السيد عبد الرحمن والشيخ حسين با سلامة، ومطوفنا ونجله، وخرج معهم الأخ الرفيق الشيخ خالد، أما سائر الرفاق والأهل فقد ركبوا في الشقادف من أول الأمر، وأما أنا فركبت البغلة التي أُرسلت إليَّ من الإصطبل الهاشمي مع اثنين من حُجاب الأمير مشيا أمامي بملابسهما الرسمية، حتى إذا ما خرجنا من مكة المكرمة، وبلغنا المكان المعروف بقهوة المعلم - وقد ذكرناه في الكلام على دخولنا مكة حرسها الله تعالى - ألفينا هنالك صاحب السيادة الشريف شرف حاكم مكة (القائم مقام الأمير فيها) بالانتظار مع بعض رجاله، وقد أنفذ للتوديع من قِبَل الحضرة الهاشمية نائبًا عنها، وعلمنا أنه خرج منذ وقت العصر؛ لأنه هو الوقت الذي عيّن لخروجنا، ولم يتيسر لنا الخروج فيه، فنزلنا، وجلسنا معه قليلاً، واعتذرنا له عن تأخيرنا، وشكرنا له هذا الانتظار الطويل، ثم صلينا المغرب مع المودعين جماعة، وأتبعتُها أنا والرفيقان بالعشاء مجموعة معها جمع تقديم، ثم ودعنا السادة المشيعين، وركبنا الرواحل، وسِرنا باسم الله قافلين، والحمد لله رب العالمين. ذيل لمباحث الحج في الصدقات وفقراء الحرم: إنني عند توديع السيد الزواوي قلت له: قد بقي معي في الكيس خمسة عشر جنيهًا إنكليزيًّا من النقود المخصصة للصدقة في الحرم، لم يتيسر لي إنفاقها، فأنا أوكلك في توزيعها على المستحقين من أهل الصلاح والمروءة المتعففين، وأعطيته إياها، فأرسل إليَّ بعد عودتي إلى مصر ورقة فيها أسماء مَن صرفها لهم، ومقدار ما أعطى كُلاًّ منهم، وعليها أختامهم، وبهذه المناسبة نقول في فقراء الحرم والصدقة فيه وفي غيره، وما يتعلق بذلك كبحث السؤال: إن الفقراء المتسوّلين أول مَن يستقبل الحجاج قبل دخول مكة، وآخر من يشيعهم عند الخروج منها عائدين إلى بلادهم، وكذلك شأنهم عند الخروج من مكة إلى منى فعرفات، وعند العودة من منى بعد انقضاء أيامها. وأكثر هؤلاء المتسولين من صغار الصبيان والبنات، يقل فيهم المراهقون والمراهقات، فتراهم يحيطون بالحجاج من كل جانب، رافعين أيديهم إلى مقدم الهوادج، وألسنتهم تكرر الأدعية المناسبة للأوقات، فيذكرون في أدعيتهم قبل دخول مكة، وعند الخروج إلى عرفة، أداء الحاج وقبوله والعودة بالسلامة، وبعد الحج زيارة النبي صلى الله عليه وسلم والوقوف بشباك حجرته الطاهرة، ومنهم مَن يربط كوزًا من الزنك ونحوه بطرف خشبة كالعصا، ويرفعها حتى تكون بين يدي الراكب، فيكون ما يوضع في كل كوز خالصًا لحامله، وأما الصغار الذين لا يحملون هذه الكيزان فما يرضخ لهم يُرمَى على الأرض، فيستبقون لالتقاطه، فيكون حظ النشيط والقوي منهم أضعاف حظ الخامل والضعيف. السؤال محرم في الإسلام لا تبيحه إلا الحاجة الشديدة، أو الضرورة التي تبيح كثيرًا من المحظورات كأكل الميتة ولحم الخنزير؛ لأنه ذل يدعو إليه الكسل وحب البطالة والاتكال على أوساخ الناس، والضرورات عوارض تعرض لبعض الناس أحيانًا وهي تقدر بقدرها شرعًا، وليس من شأنها أن تكون ملازمة للكثيرين من الأصحاء القادرين على الكسب، بحيث تبيح لهم أن يجعلوا السؤال حرفة يكون عليها مدار رزقهم، كما هو شأن أكثر السائلين في كل البلاد، بل يكون بعض هؤلاء غنيًّا شرعًا تجب عليه الزكاة، وقد يتأثل السائمة والعقار، وإذا كان السؤال لغير ضرورة معصية محرمة - وكانت الإعانة على المعصية معصية - فعلى المسلم العارف بأحكام الإسلام أن لا يرضخ بشيء لمَن يعلم من حاله أنه قد اتخذ السؤال حرفة له، ولا لمَن يعلم أيضًا أنه غير مضطر إلى ما يسأله، بأن كان يمكنه أن يستغني عنه، والمجهول حاله في ذلك موضع تردد ونظر، وأما من يعلم الإنسان أو يظن من حاله أنه يسأل عن ضرورة ولا غنى له عما يسأله ولا وصول له إليه بغير السؤال - فلا مندوحة للواجد على مواساته والرضوخ له من مال الله تعالى وقد يصل ذلك إلى درجة الوجوب، كأن تعلم أن فلانًا مضطر ولا يعلم بحاله أحد يرجى أن يزيل اضطراره سواك وأنت قادر على ذلك، ومثل هذه الصورة تقع للأفراد القليلين، وقلما تقع للكثير من الناس إلا في أزمة المجاعات العامة. إنني قلما أعطي أحدًا من السائلين الكثيرين في الشوارع بمصر ولما رأيت هؤلاء السائلين خارج مكة عند قدومي إليها - وأنا لم أنسَ ما كان بلغنا ونحن في مصر من خبر العسرة والضيق في الحجاز وما سمعته مؤكدًا لذلك في جدة - وجدتني مندفعًا لإعطاء كل مَن سألني، ولما نفد ما كان في كيسي من الدراهم المعدة لنفقة الطريق في جدة إلى مكة - أذنت الرفيق الذي صحبني من جدة بأن يعطي مَن يعلم أنه لم يأخذ مني ويحصي ما ينفقه كي أرده له بعد الاجتماع بالآل الذين كانوا يحملون نفقتنا في رحالهم. وكنت أردت أن أجري على هذه الطريقة مع السائلين في الحرم الشريف. ثم صدني عن ذلك أنهم صاروا يجتمعون عليَّ بكثرة عند الدخول ويحيطون بي، بحيث يتعذر توزيع ما في اليد أو الجيب عليهم فكنت أنثره على بُعد، فيتركونني، ويتهافتون عليه، ثم تركت ذلك لما فيه من المشقة والشهرة، ورأيت الراحة في الإخفاء، ولكن رفيقي محمد نجيب أفندي ظل يتحمل التعب والعناء في توزيع الصدقة على هؤلاء المتسولين في داخل الحرم وخارجه وله صبر طويل على ذلك. ومن غريب ما رأينا من دلائل البؤس والجوع في الفقراء الملازمين للحرم أن بعض الناس جاء بشيء من الحبوب لحمام الحرم فاختطفوه، وصار بعض السودانيين من الدكرور يأخذون منه ويضعونه في أفواههم ويمضغونه متغذّين به كالدواب. وقد جرينا نحن على عادة الناس بالرضخ بالقليل للواحد من هؤلاء المتسولين، بحيث كان صرف الجنيه الواحد يوزَّع على المائة أو المئات منهم، وإنما تطيب النفس بما هو أكثر من ذلك للذين يتعرضون ولا يسألون، والذين إذا سألوا يتجملون ولا يلحفون، وإنما ذكرنا هذا البحث وما وقع لنا من التجربة فيه ليستفيد منه غير العالم بما ذكرنا من الأحكام، وغير الواقف على ما وقفنا عليه من التجارب، ونسأل الله أن لا يجعل فيه شيئًا من الرياء وشهوة الشهرة، على أن صدقتنا مما ينبغي أن يستحيا من ذِكْره، فهي - والحق يقال - دون ما أنعم الله به علينا، وما من أحد يحج إيمانًا واحتسابًا إلا ويتصدق في الحج بحسب سعته؛ لأن الأعمال الصالحة يضاعَف أجرها في ذلك الزمان وذلك المكان، ومنهم مَن ينفقون هنالك فوق جميع ما نملك من المال، ولكن المتصدق العالم المخلص يجد عناءً عظيمًا في تحرِّي المستحقين الصادقين، من أهل الإيمان واليقين، والصلاح في الدين، يجد هذا العناء في وطنه الذي يقيم فيه، فكيف حاله في بلد يجهل حال أهليه، وقد كثر الكفر والابتداع في الأرض، وظهر الفساد في البر والبحر؟ وليس هذا محل شرح هذه المسألة بالإسهاب، وقد ألممنا بها من قبل في المنار. القفول من مكة إلى جدة: إننا لما ودعنا المشيعين الكرام وامتطينا الرواحل اخترت أن يكون محمد أفندي هو الصاحب بالجنب لي، وأن يركب وكيل الخرج مع الأستاذ الشيخ خالد، وكان المناسب أن يركب الأستاذ معي لما بيننا من التعادل والتوازن في الجسم، وطول الصحبة مع التوافق في التربية والرأي، فإننا تعارفنا من أوائل العهد بمَقدمي إلى مصر، ولا أزال أهدي إليه المنار من ذلك العهد إلى اليوم، ولا أرى منه إلا الوفاق والثناء والشكر. وإنما اخترت التفرق في الرواحل لثلاثة أسباب ترجح ما ذكرت من الجامعتين الجسمية والروحية بيننا: (أحدها) أن في تفرُّقنا عدلاً بين الراحلتين في التخفيف عليهما؛ لأن تعادلنا في الجسامة، يقابله تعادل صاحبينا في النحافة، (ثانيها) أن كلاً منا يحتاج إلى خدمة رفيقه في الراحلة، ومحمد أفندي يرغب في خدمتي؛ لأنني أستاذه في الدين، فلا يبقى لخدمة الأستاذ إلا وكيل الخرج، (ثالثهما) أن صاحبي أجدر بالاستفادة مني؛ لأنه اعتاد منذ كان تلميذًا الرجوع إليّ في أمور دينه، فصرت لعلمي بشؤونه أقدر على إفادته وإفتائه في أمره، وصاحب الأستاذ أجدر بالاستفادة منه؛ لأنه ما فتئ مشتغلاً بوعظ العوام وإرشادهم، وقد حِيلَ بيني وبين ذلك في مصر، فلم يقع لي فيها إلا مِرارًا قليلة في السنين الأولى من هجرتي، وأما في هذه السنين الأخيرة فلم يأخذ عني فيها إلا بعض المدرسين وأذكياء طلاب العلم، وكان من لوازم هذه القسمة بيني وبين صديقي أنني كنت أحسن حظًّا منه؛ إذ كان صاحبي من الأتقياء المتعلمين في مدارس الحكومة حتى العالية فيها، العارفين بأخلاق الناس وشؤونهم بطول اختباره وتجاربه في خدمة الحكومة المصرية، وصاحبه من العوام، على أنه كان يمكنه أن يستفيد من اختباره لشؤون الحجاز - وأصناف الحجاج - ما لا يعرف إلا من أمثاله المتوسِّمين بهذا الأمر. سرينا منفردين ليس معنا رفاق من المصريين ولا غيرهم ممن نعرف، ولكنَّا وجدنا في الطريق عددًا ليس بقليل من حجاج المغاربة منهم المشاة والركبان، وقد بلغنا بحرة في وقت السحر، فعرَّسنا فيها [١] ، وكان الجوع قد بلغ منا؛ لأننا لم نتعشَّ قبل خروجنا من مكة، فأكلنا مما حملنا من الزاد، وكان جُله من لحم خروف أهداه إليَّ بعض المحبين، لم نَرَ مثله في طراوة لحمه ولينه ودسمه، لا في الحجاز ولا في غيره، وهو ليس من ضأن الحجاز. ثم نمنا قليلاً؛ إذ استيقظنا بعد طلوع الفجر، فأدركنا صلاته بفضل الله تعالى. لم أَرَ من بحرة في إلمامي بها ليلاً قادمًا من جدة إلى مكة إلا ما على جانبي الطريق العام من المنازل التي يسمونها القهاوي، وهي خاصة بالرجال، وأكثر مَن ينزل فيها الرجال الذين لا يستغنون عما فيها من الطعام وشراب الشاي والقهوة، وما يحتاجون إليه من الخدمة، أو الذين يريدون الاستراحة قليلاً، وإن كان معهم كل ما يحتاجون إليه، وكنت حينئذ من هذا الفريق كما تقدم، وفي هذه المرة نزلنا في المنازل التي يسمونها العشش، وهي وراء تلك القهوات، وقد رأيتها فوق ما كنت أحسب رأيتها دورًا في كل دار بيوت من العيدان، وبيت خلاء لها حائط منها يفصلها عن غيرها من الدور، بحيث يكون النساء في كل منها في ستر تام غير معرضات لأعين أهل الدور المجاورة لها، نزلت مع الوالدة والشقيقة في دار، ونزل رفاقنا في دار بجانبها، ومكثنا هنالك إلى ضحوة النهار، وقد نفد ما حملنا من مكة من الماء، فجاءنا وكيل الخرج بماء كدر غير عذب، فسألناه: ألا يوجد ماء نقي عذب في هذه الأرض؟ ، قال: بلى، ولكنه غالٍ لا يكفينا لملء ما معنا من أواني الشرب أقل من ريال، فأمرناه بأن يأتينا بقدر الكفاية منه، فجاءنا بماء لا يفضل الأول إلا بمضاعفة ثمنه، فكانت هذه كبرى سيئاته، جعلها خاتمة لخدمته، فكانت سبب حرمانه مما كنت أنوي أن أجعله علاوة له على الأجرة الوافية التي خصصها له الأمير، وما كان يصيبه كل يوم بعد كفايته وكفاية أهله من فضل النفقة المعينة، وما أخذه من ذبائح نُسكنا التي وكلته بالتصرف فيها، وقد سبق له مثل هذه السيئة معنا بمنى، جاءنا بماء كدر لولا أن تداركنا أنفسنا بالبحث عن ماء نقي وفقنا له لما سلم أحد منا من مرض النزلة الشعبية التي ظهرت أعراضها في بعضنا، ولكننا غفرنا له تلك. وأما هذه فلم نستطع تداركها وسوء الخاتمة لا يُغفر، فنسأله تعالى أن يحسن خاتمتنا. هذا، وإننا قد قاسينا من الظمأ في بقية يومنا وعامة ليلتنا بين بحرة وجدة ما لم نعرف له نظيرًا في تاريخ حياتنا، فكنا نبل أفواهنا من ذلك الماء عند الضرورة، وحاولت الاستغناء عنه بمصّ رب السوس فلم يغنِ شيئًا. وفي هذه الحالة تذكرت ما كنت عازمًا على استصحابه من مصر، فأنسانيه الشيطان، وهو السكر الليموني، أي الممزوج بحامض الليمون، فأوصي كل مسافر إلى تلك البلاد وأمثالها أن يحمل معه شيئًا منه. وصلنا إلى جدة قبيل الفجر، فنزلنا في دار صديقنا الشيخ محمد أفندي نصيف وكيل الإمارة الجليلة، وقد نمنا بعد صلاة الفجر ساعات قليلة، وبعد الاستيقاظ طلبت ماءً سخنًا للاستحمام، فاغتسلت، وغيرت ثياب الطريق، وعلمنا أن أكثر الحجاج المصريين نزلوا إلى السفينتين اللتين جاؤوا فيهما، فتبعناهم، وزودنا صديقنا بأحسن الزاد، ونزل معنا هو وبعض الأصدقاء في زورق البلدية البخاري إلى سفينتنا التي جئنا فيها (النجيلة) مشيعين، وكان هذا آخر عهدنا بأرض الحجاز، فنسأل الله تعالى أن يمنّ علينا بالعودة إليها مرارًا كثيرة حاجّين ومعتمرين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.