امتازت جريدتنا (المنار) بالتنويه المتواصل بأن الإسلام جاء بتعاليم كافية لعروج الأمم إلى سماء السيادة العليا، وبلوغها مراتب السعادة القصوى؛ لأنها أبطلت جميع الاعتقادات التي تحول بين الإنسان وبين كماله، كالاعتقاد بأن الإنسان ناقص حقير لا يصح له أن يرفع أعماله الحسنة إلى الجناب الإلهي الأقدس، ولا أن يطلب من مولاه الحقيقي العفو عن تقصيره وتفريطه بالتوبة الصحيحة بينه وبين ربه الرءوف الرحيم إلا بواسطة رؤساء الدين المعبر عنهم بالقديسين أو الأولياء المقربين، فأبطل الامتياز الصنفي وألغى هذه الوساطة والرئاسة التي تهبط بالطباع، وجعل الناس كلهم عبيدًا لله وحده أحرارًا بالنسبة لما سواه، لا فضل لأحد على أحد إلا بالعلم والعمل والكمالات المكتبسة، وكما أبطل سلطة الرؤساء الروحانيين قيد سلطة الملوك والحكام (كما بينا ذلك من قبل) بشريعة حقة مبنية على أصول الحرية الصحيحة والعدل والمساواة التي سادت بها أوروبا في ممالكها واعتز سلطانها ولم تقتبسها إلا من الإسلام، وستضطر أوروبا إلى الأخذ بما لم تأخذ به من قواعد الإسلام، كإيجاب الزكاة التي هي العلاج الوحيد لمرض من أشد الأمراض الاجتماعية وهو الاشتراكية، وكإعطاء المرأة حقوقها التي كانت مهضومة قبل الإسلام عند جميع الأمم في الشرق والغرب، فجاء القرآن يقول: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} (البقرة: ٢٢٨) واحدة وهي القيامة بالرعاية والحراسة والإنفاق؛ لأن الفطرة والطبيعة تعطيه حق رئاسة المنزل وحراسته والإنفاق عليه؛ لأنه أقوى وأقدر على الكسب. وفي الحديث الشريف: (النساء شقائق الرجال) فاقتبست أوروبا ذلك وعظمت شأن النساء ولكن لم تأخذ بكل ما جاء به الإسلام في ذلك؛ لأن الأوروبيين ما فتئوا يمنعون المرأة التصرف بمالها والمدافعة عن حقوقها بنفسها ويقيدونها في ذلك بزوجها، وهذا التقييد مبني على الاعتقاد القديم بضعف عقلها وعدم أهليتها للتصرف. وكمحو التعصب الذميم بالعدل الذي جعل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب يساوي بين الإمام علي بن أبي طالب ورجل من آحاد اليهود. والفرنسويون أئمة المدنية الأوروبية الذين يشير عَلَمهم إلى العدل والحرية والمساواة، لا يزالون يضطهدون اليهود إلى اليوم، وتنشئ الجمعيات المؤلفة لاضطهادهم الجرائد وتؤلف الرسائل في التحريض عليهم والتنفير منهم، إلى غير ذلك من التعاليم الصحيحة التي تكفل لمن يأخذ بها السعادة الحقيقة. هذا ما يحملنا على تكرار القول بأن أمة هذه قواعد دينها لا يصلح حالها إلا بالتمسك بها، وما كنا ممن يسند إلى الإسلام ما ليس له أو يضيف إليه ما ليس منه، فإن الدين نفسه يحظر علينا هذا. كيف وقد اعترف للإسلام بمزاياه الشريفة مما ذكرنا وما لم نذكر جميع الناظرين في التاريخ، والباحثين في الملل والشرائع بالإنصاف من غير المسلمين حتى إن ذلك ليفيض من أنابيب أقلامهم فيما يكتبون، ويجري على ألسنتهم عند ما ينطقون، من غير روية ولا تكلف، ولا مصانعة ولا تصنع، ونذكر هنا على سبيل الاستشهاد مقالة لبعض الكتاب الأفاضل نشرت في المقطم (عدد ٢٩٨٩) من عدة مقالات في أسباب انحطاط الشرق، وهاكها بحروفها: أسباب انحطاط الشرق (الهيئة الاجتماعية الشرقية) لحضرة الأفوكاتو الفاضل نقولا يوسف دبانة
بينما كان ملوك الغرب لا يقيدهم دستور ولا يعرفون قانونًا إلا قانون استبدادهم، كان ملوك الشرق مقيدين بدستور يمنعهم عن كل استبداد وظلم ولم تحلهم منه إرادتهم الخاصة ولا إرادة الشعب، وذلك القيد هو القرآن الشريف. أفليس الحكم الذي هذه صفاته الأصلية أفضل من سائر الأحكام؛ لأنه مبني على أساس الحرية الصحيحة والعدل والمساواة، وهل ينكر أحد بعد هذا أن الشرق مهد المبادئ الجمهورية والحكومة الدستورية. ولا يغرب عن البال أنا إنما نتكلم عن المبادئ لا عن الحوادث، فقد قام في الشرق حكام مستبدون زادوا عددًا عن الذين قاموا في الغرب، لكن ذلك لا يقدح في قولنا: إن مبادئ الأحكام في الشرق مبادئ دستورية، فإذا تعدى الإنسان الشريعة فتعديه لا يبطل وجودها، وشبيه ما في الشرق ما جرى في فرنسا لمَّا حكمها نابليون الأول، فإنه كان من أعظم الملوك استبدادًا، ومع ذلك كان يلقب رسميًّا نابليون إمبراطور جمهورية فرنسا، فقيام حاكم كالحاكم بأمر الله لا ينافي قولنا أن مبادئ الهيئة الاجتماعية الشرقية مؤسسة على الجمهورية والمساواة. ومما يدل على أن حق الملك في الشرق ليس حقًّا شخصيًّا هو أن الشرق ميال إلى إلقاء مقاليد الأحكام إلى الأرشد في العائلة لا إلى الابن ولا إلى الوارث الأقرب كما في أوروبا، فتختلف وراثة الحكم بذلك عن وراثة المقتنيات، ولو كان الحكم حقًّا شخصيًّا لكان يرثه الذي يرث المقتنيات والأموال، فكأن الشعب الشرقي يقول عند إعطائه الحكم للأرشد: إننا لما كنا نبايع حاكمنا حق الحكم علينا وجب أن نطلب منه أن يكون أهلاً للحكم متمكنًا فيه، فالأرشد في العائلة أولى بذلك من ابن الحاكم السابق؛ لأن خبرته أكثر ومادته أوفر وإرادته أمضى وعزمه أشد. هذا ويتضح من البحث الدقيق أن المبادئ الجمهورية والاشتراكية المنتشرة الآن في الغرب والتي يعدها الغرب تقدمًا وتمدنًا وجدت في الشرق من البدء وهي: أولاً - حقوق المرأة المدنية، فإن المرأة في الغرب لا تستطيع أن تتصرف بدرهم من مالها الخاص، ولا أن تعقد عقدًا، ولا أن تدافع عن حقوقها أمام المجالس ولا ولا ... بلا إذن من زوجها، على حين أن المرأة الشرقية مُطْلَقة الحرية في ذلك كله. ثانيًا - إعانة الفقراء بالأموال الإجبارية، فإن الحكومات الغربية تسعى الآن في إلزام الأغنياء بإعانة الفقراء فيلتزم كل غني أن يدفع شيئًا معلومًا من ماله لإعانة الفقراء والمساكين، وهذا جل ما يسعى إليه الاشتراكيون، ولكن الشرق سبقهم إليه والزكاة وبيت المال شاهدان عليه. ثالثًا - إبطال الجمعيات المستقلة بنفسها وبقوانينها عن الهيئة الاجتماعية كالأكليروس والرهبنة، والشرق قال قبل الغرب: لا رهبنة في الإسلام، ولا حاجة في الإسلام إلى الواسطة بين الله والعبيد، إذ كل إنسان له الحق أن يكون إمامًا وخطيبًا إلخ. رابعًا - عدم تعرض الحكومات للأديان، وأحسن قاعدة للحكومات في معاملة أديان الشعوب هي ما تجري حكومات الشرق عليه مبدئيًّا في ذلك. فتبين مما تقدم ما هي مبادئ الشرق الأصيلة، ولو اتُّبعت لارتقت بالشرق إلى أعلى درجات التقدم والتمدن، ولكن الحكام لم يتبعوها فجاروا وما عدلوا، وداموا على ذلك مدة طويلة، والشيء إذا دام صار عادة، والعادة إذا طالت صارت فطرة، فاتبع الحكام الظلم فصار عادة، واعتاد المحكومون الخضوع فصار فطرة، وجعل الحكام يعدون عدم الاستبداد ضعفًا، وعليه قال الشاعر: (إنما العاجز مَن لا يستبد) وأضاع المحكومون معرفة حقوقهم فباتوا طعمة لكل آكل، وكيف يمنعون الغريب من التسلط عليهم وهو هاضمهم بقوته الأجنبية على حين أنهم لا يستطيعون منع الحاكم الوطني من أن يجور عليهم وهو لا يقدر أن يظلم إلا بواسطتهم ومساعدتهم له، إذ هم الحاشية والحرس والجلادون والسجانون وسائر منفذي الأوامر - هذه العاقبة الأولى. وأما الثانية: فهي أن الحكام خافوا قيام الشعب المظلوم فاحتالوا لذلك باستخدام الفُرس والخزر والتركمان والانكشارية والمماليك، فصارت الآفة آفتين الأولى: أن ذلك الجند الغريب طغى على الشعب أيضًا مع حكامه، وتاريخ المماليك والانكشارية شاهد على ذلك، وأصل الدولة التركية من ذلك الجند الغريب. وأما الآفة الثانية: فهي أنه لما كان جيوش البلاد مؤلفة من الأجانب نسي الوطنيون حمل السلاح حتى جعلوا يظنون الدخول في العسكرية من أعظم المصائب، وفقدوا الروح العسكري، فإذا جاء العدو لم يجد وطنيًّا يريد مقاومته أو يستطيعها إذا أراد. والعاقبة الثالثة: أنه لم يقم في الشرق عائلات شريفة ولا قوية، نعم إن زيادة سطوة تلك العائلات ماديًّا تكون خطرًا على الحكومة، ولكن إذا كانت سطوتها أدبية فقط ساعدت الحكومة على التقدم والارتقاء؛ لأنها تضطر إلى المحافظة على شرفها والبعد عن كل ما يشينه، وتكون أمينة على كنوز الحب الوطني، جامعة تحت لوائها جميع تابعيها وخدمها ومجاوري قصورها، وأعظم شاهد على ذلك حالة العائلات الشرقية (كذا) في إنكلترا، فهي رأس الشعب وزهرته وثمره ومستودع حب الوطن والمعين الأعظم للحكومة، أما في الشرق فالعائلات الشرقية لا تكاد توجد، فضلاً عن العائلات البسيطة كما تقدم.