للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


جواب مجلس المبعوثان
عن خطاب السلطان في افتتاح مجلس المبعوثان [*]

يا صاحب الشوكة:
إن أدوار الفتور التي حدثت على إثر أدوار الفتوحات العثمانية وتوالي ظهور
الغوائل الخارجية من جهة وسوء الاستعمالات الداخلية التي هي أشد تأثيرًا في
التخريب من جهة أخرى - كانت نتيجتها استياء جميع العناصر العثمانية، وكان من
ذلك أن والدكم المعظم قد وضع خط (كلخانه الهمايوني) الضامن للحقوق الشخصية،
والقاضي بالمساواة بين جميع العناصر العثمانية المختلفة، وبهذه الوسيلة قد
اكتسبت الدولة العثمانية حياة جديدة ملائمة للحال العصرية.
بَيْد أنه لما كان من اللازم تأمين الحقوق البشرية وضمانتها بصورة راسخة
ثابتة وكان من الضروري - صيانة لهذه الضمانة - تبديل شكل الحكومة القديم
وقبول الأصول الدستورية المستندة على حكم الأمة الأصلي - صدرت في زمن
جلوسكم السعيد إرادتكم السنية بوضع القانون الأساسي ونشره وفتح مجلس النواب
إجابةً لآمال خواص الأمة التي هي خلاصة آمال الأمة كافة.
على أن طريقة الشورى هي أصل في إدارة الحكومات، وأن صور الحكومات
التي تغاير هذا الشكل المشروع ناتجة عن تغلب الباطل على الحق والاستبداد على
العدل بصورة مؤقتة.
ثم إنه مع تصريح جلالتكم في الخط السلطاني بأن استعداد الأمة وأهليتها في
ذلك الحين مسلم بهما ومع اعترافكم بأن القانون الأساسي وضع موافقًا لذلك الاستعداد
قام بعض رجال حكومتكم وأحدثوا مشاكل وهمية متناقضة جعلوا بها مستقبل قوة هذه
الأمة العظيمة عرضةً للخطر , مدعين أنها غير أهل لصورة ولا شكل من الأشكال
التي عينها (القانون الأساسي) وعليه تفرق مجلس الأمة أيدي سبا! ! .
إن أولئك المخادعين الذين خدعوا جلالتكم بالمشكلات الوهمية التي أحدثوها،
لم يكتفوا بالتعدي على أحكام القانون الأساسي، الذي هو مناط سعادة الأمة وحريتها،
بل قد تجرءوا على بهتان آخر وهو زعمهم عدم استعداد أدمغة الأمة لهذا القانون،
فحسنوا لجلالتكم إرجاء تنفيذه مستخفين بقوة إدراك الأمة.
ولكن نشكر الله، فإن الأمة رغمًا عن المساعي التي بذلها من نِيطَ بهم نشر
العلم والمعارف في سبيل تعطيل الأدمغة وتغطية العيون، قد أدركت بحسب
استعدادها الفطري وقابليتها الطبيعية أن هذه الحال ستئول إلى الانقراض، وأنها إن
لم تَنَلْ حقوقها السياسية فلا تستطيع أن تحفظ مركزها في عالم السياسة والمدنية،
وعليه عرضت لجلالتكم الآمال العامة.
ونحمد الله على أن جلالتكم قد أدركت كل الإدراك الخطر المحدق بالدولة الذي
لم يستر إلا عن أبصار الرؤساء ورجال الحكومة، فعرفتم ما ينتج للدولة والمملكة
بسبب اطمئنان الأفكار العامة من السعادة في الحال والاستقبال، فأصدرتم الأمر
السلطاني القاضي بالدعوة إلى افتتاح مجلس الأمة وإعادة الانتخاب، موافقةً لأحكام
القانون الأساسي بالرغم عن آراء المخالفين لفتحه؛ ولذلك فإن الأمة تشكر لجلالتكم
هذا الشعور الذي كان سببًا لإنقاذ الدولة العثمانية من انقراض محقق , وسَوْقها إلى
طريق الترقي والسعادة.
ولو أنكم تغلبتم قبلاً على خداع أرباب الغايات لكانت الأراضي الغامرة
الموجودة في أطراف المملكة قد أصبحت في خلال الثلاثين سنةً الماضية أراضيَ
عامرةً، ولَكُنَّا في ارتقاء وعلاء بدل التدني والانحطاط، ولما كانت الشرذمة القليلة
التي استفادت من الاستبداد فتحت في قلب الأمة جرحًا كاد يصير قرحًا، ولكان
الوطن نال الرفاهة والسعادة من كل الوجوه، ولكانت الدولة العثمانية استقرت في
مركزها السياسي اللائق بها أمام الدول منذ زمن مديد.
إن الأمة العثمانية تشارك جلالتكم في الأسف الذي أظهرتموه بسبب إعلان
إمارة بلغاريا استقلالها، وضم النمسا ولايتي البوسنة والهرسك إلى أملاكها، وهما
الولايتان اللتان كانت تديرهما مؤقتًا بموجب ميثاق دولي؛ لأن الأمة العثمانية كانت
في دور انقلابها السعيد تقطع الطرق السياسية بصورة سلمية، وتربي صميم الآمال
لتكون مظهرًا لمؤازرة الدول المتمدنة وأهلاً لانعطافها في حياتها الدستورية الجديدة.
إن هذه الحوادث السياسية التي هي إرث مشئوم من سيئات الماضي المديد
سيبذل مجلسنا النيابي كل الوسائل التي يحفظ بها شرف حقوق الدولة لحلها، وسيقوم
بجميع المساعدات اللازمة لمجلس الوكلاء المحرز ثقة الأمة والمسئول أمام مجلسها
النيابي.
إن خطة مجلسنا ستكون دائرةً على إدامة حسن العلاقات بين الدولة العثمانية
وجميع الدول، وإن الأمة التي أحدثت في الدولة هذا الانقلاب السلمي الداخلي
ستُرِي العالم أجمع بأن سياستها الخارجية مؤيدة للسلم.
وإن آمالنا معقودة بأن دولتنا سترتقي بفضل خطتها السلمية إلى الدرجة التي
تليق بدولة عظيمة الشأن أمام الهيئة الدولية، وأنها ستكون جديرةً بالاستفادة من
الحقوق الدولية على وجهها، كما أنها ستكون مرعية الجانب أهلاً لمحبة الدول كافة،
وإنا نتوقع أن تنتهي المسائل السياسية الحاضرة على وجه حسن بمؤازرة الدول
المعظمة التي ثبتت لها خطتنا السلمية ونيتنا السليمة.
إن مجلسنا سيبذل الجهد بتنظيم الأمور المالية التي هي من أهم المسائل
الداخلية، وسيكون رقيبًا صادقًا على الواردات، ومسيطرًا غيورًا على الصادرات،
وسيمنع بتةً إعطاء درهم واحد من الخزانة على غير وجهه، كما أنه سيمنع أيضًا
أخذ بارة واحدة من أفراد الأمة بغير وجه مشروع، مقتحمًا في هذه السبيل كل
المصاعب التي سيلاقيها في أمر ضبط الواردات والصادرات، وذلك بسبب النتيجة
الأليمة التي أنتجها الإسراف والتبذير في الماضي بصورة لم يعهد لها نظير في
تاريخ الأمة، حتى يتسنَّى لدولتنا أن تكتسب لقب دولة مقتصدة تدير أمورها على
القواعد المالية، وترفع عنها لقب دولة سفيهة مبذرة! !
وإننا نرى من الأمور الهامة الواجبة بذل الجهد بتوطيد الأمن وتأييد رفاهة
العناصر المختلفة المؤلفة منها دولتنا، وصيانة الحقوق العامّة بإجراء العدالة
مجراها، والمحافظة على جريان القضاء بكل استقلال، وفتح المدارس في جميع
أنحاء المملكة، وإصلاح حال الموجود منها، وتربية أبناء الوطن تربيةً وطنيةً
دستوريةً، وتزييد الوسائل النقلية وفتح الطرق والمعابر لتسهيل نقل
الصادرات والواردات، وترقية حال الصناعة والزراعة وتوسيع نطاق التجارة.
ومن الضروريات تعزيز القوتين البريّة والبَحْرِيّة لِتكونا بدرجة مناسبة لموقعنا
الجغرافي، ولِيتسنّى لنا بهما المحافظة على حقوقنا المشروعة وحكومتنا المقيدة، لا
للتعدي على حقوق الغير.
ولهذه الأمور الحيوية المذكورة سنبذل الجهد بتدقيق التقارير التي قدمت من
الحكومة لمجلسنا، ونضع القوانين الموافقة لبلادنا وأمتنا.
وإنا مع الشكر لجلالتكم على عزمكم القطعيّ الثابت على إدارة المملكة بموجب
أحكام القانون الأساسي، الكافل الحقيقي لسعادة الأمة نؤكد لجلالتكم بأن عزم الأمة
الحقيقي على صيانة القانون الأساسي ثابت راسخ لا تزعزعه أيَّةُ قوةٍ مهما عظمت،
كما أننا نعرض لجلالتكم ما خالج أفئدتنا من الابتهاج والسرور برؤية شخصكم الكريم
ماثلاً أمام نواب الأمة، مما جاء دليلاً على رفع الحواجز والحوائل بينكم وبين الأمة.
إن قلبنا لا يشعر بغير محبة الأمة والوطن، وكل آمالنا الاشتغال لخير الملك
والأمة، ورائدنا في ذلك مصباح المساواة والاتحاد، وغايتنا الحق والعدل، وقد
عاهدنا ثلاثين مليونًا من العالم على المحافظة على حقوقهم ولا نخاف في القيام بعهد
وكالتنا غير توبيخ الوجدان وخوف الرحمن، ومن جعل الحق وجهته فالله يعينه
ويؤيده.
جواب مجلس الأعيان
يا سُلْطَانَنَا:
كانت أعضاء الأعيان كلها آذانًا مصغية , وقلوبًا واعيةً لذلك الخطاب الذي
فُهْتُمْ به يوم افتتاح مجلس الأمة المؤلف من الأعيان والمبعوثين.
انقضى ذلك الزمن الذي أصيبت فيه الحكومة بأدواء الخلل، فزالت بزواله
تلك البرازخ التي كانت حائلةً دون اختلاط السلطان بالشعب، وتوثيق الروابط
بينهما، وكانت تلك الحوائل لأغراض شخصية، فالشعب اليوم يرى نفسه مغبوطًا
برؤية سلطانه وسماع خطابه بواسطة المبعوثين والأعيان، ذلك الخطاب الذي ضمن
فيه الدستور، فلنا الشرف أن نرفع لجلالتكم واجبَ الشكر الصادر عن هذا الأمر
السارّ.
والحكومة الشورية تقوم على هذا الأسّ المتين الكافل لجميع الحقوق وليس
هناك ضامن لتثبيت السلطة العليا وتنزيهها عن التبعة إلا حفظ ذلك الأساس المتين.
لذلك تحقق العزم الوارد في الخطاب، والموجه إلى الشعب والعالم بأسره،
وهو الإشارة إلى حفظ القانون الأساسي بالميثاق البات، وإنا نقابل ذلك بالحمد
والثناء الجميل.
إن ما ورد في الخطاب السلطاني من الأمل في بذل الهمة والمساعي لإنجاح
المداولات بين الدول الموقعة على عهدة برلين بشأن البوسنه والهرسك والبلغار -
ذلك كله - من مهمات السلطة التنفيذية، ولنا الأمل الوطيد بقيام الوزارة خير قيام
بمهماتها، وإنا نضيف إلى ذلك الأمل النظر في مسألة كريد.
نحن في حاجة عظيمة إلى الثقة بنا، ولا يتم لنا ذلك إلا بنجاح حقيقي في
النظام الإداري والعسكري، ويعوزنا بذل المساعي العظيمة لنحفظ مؤازرة
الحكومات، ولتكون لنا مدنيةٌ صحيحةٌ ثابتةٌ.
إن المساواةَ بين الأفراد والعدل بين أفراد الأمة وجماعاتها وتعليم الشعب
وتهذيبه حسب حاجات الزمان على نمط الشعوب المتمدنة والاعتماد المالي الصحيح
وضمانة حال البلاد مِن حيثُ الاقتصادُ وتعزيزُ القوة العسكرية - كل ذلك من الأمور
الضرورية التي لا تقبل التسويف والتأجيل.
وإن ثقتنا كلها موضوعةٌ في مجلس الأمة (المبعوثان) وآمالنا بمساعيهم
الحكيمة محققة، وسنرى منهم مشروعات وقوانين تضمن لنا وتسهل بلوغ الأماني
المشار إليها، وبذلك يكون للأمة والبلاد مستقبل زاهر سليم من كل شائبة.
ومن الضروري ألا تقصر السلطة التشريعية التي هي مؤلفة من الأعيان
والمبعوثين في العناية بالمسائل الحقيقية لوضع قوانينَ تسير البلاد بسببها في سبيل
التقدم والنجاح، ولا ريبَ عندنا بأن مساعي الوزارة التي يناط بها التنفيذ ستنضم
إلى هذه المساعي، وحينئذٍ ننال السعادةَ التامةَ التي نطلبها، وهي ذلك الغرض الذي
يرمي إليه المصلحون من أبناء الوطن.
وإنا نختم عريضتنا هذه بتكرار الشكر لجلالتكم لتعهدكم وعزمكم الأكيد على
حفظ شكل الحكومة الشورية، ونؤكد لجلالتكم أن مجلس الأعيان يبذل جهده في
قيامه بواجب حفظ الدستور الذي يرى حفظه من أقدس الواجبات.
وإنا نعرض لجلالتكم بأن مجلس الأعيان يقوم نحوكم ونحو الأمة بكل ما يجب
عليه من الإخلاص التام.