للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


فتاوى المنار

فسخ عقد النكاح بالعيب في أحد الزوجين
(س٣) من صاحب الإمضاء في العلاقمة بالشرقية
بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين
إلى القائم بأمر ربه المعتضد بحجة الله البالغة صاحب مجلة المنار أرفعه
مستفتيًا فضيلتكم بعد حمد الله حق حمده والصلاة والسلام على خير عباده سيدنا
محمد وعلى آله ومَن تبعه وتحية الله وسلامه عليكم.
أيها الأستاذ النبيل السيد السند:
يا صاحب الفضيلة بينما نقرأ ما يتعلق بالمرء وزوجه من بقاء النكاح وفسخه
في الكتب التي للأئمة الثلاثة الشافعي ومالك وأبي حنيفة رضي الله عنهم؛ إذ
رأينا فيها أنه ليس لأحد الزوجين أن يفسخ النكاح لعيب بالآخر إلا بالجنون
والجذام والبرص، ويسميها الأئمة - ومن تبعهم - العيوب المشتركة فتوقفنا في
حصر العيوب المشتركة التي يفسخ بها النكاح في الثلاثة الآنفة الذكر، مع وجود ما
يماثلها في الضرر، بل ربما كان أشد وأولى مما ذكروا بالفسخ كالسل والزهري
وغيرهما من الأدواء المستحدثة، وبعد البحث والتنقيب لم نعثر على قول لا في
الكتب التي بأيدينا ولا ممن سألناهم ممن يظن فيهم أنهم لا يتقيدون بما تقع عليه
أبصارهم من المنصوص، فبعثنا إليكم بتلك الرسالة مستفتين: هل تجري
الأدواء المستحدثة مجرى ما نصوا عليه لمشاركتها له في علة الحكم، فتكون مقيسة
عليه، فيفسخ بها النكاح أو يقف الأمر عند حد المنصوص، وهنا تساؤل: أيّ
فرق بينها وبينه؟ وإذا كان ما نص عليه الفقهاء مأخوذًا من دليل فما هو؟ هذا ما
نرجو أن تجيبوا عنه بفصل القول الذي نعهده فيكم ويعهده العقلاء أجمع، أمدكم
الله بالعلم النافع وهدانا الله وإياكم إلى ما يوصلنا إلى مرضاته وسلوك سبيله القويم،
إنه سميع قريب عليم.
... ... ... ... ... ... ... أحمد عطية قوره من العلاقمة
(ج) ليس في هذه المسألة نص صريح في الكتاب ولا في السنة
الصحيحة وحديث زيد بن كعب بن عجرة الآتي فيه مقال، وليس فيه تصريح
بالفسخ لأجل البرص. ولكن فيها آثارًا عن بعض الصحابة والتابعين مستندة إلى
أصول الشريعة الثابتة من منع الغش ونفي الضرر والضرار، وحينئذ لا وجه
لحصر العيوب فيما ورد في تلك الآثار؛ إذ لا دليل على الحصر وإن ورد عن
بعضهم عبارة فيه فتلك العبارة ليست مما يحتج به مَن ذكرتم من الفقهاء كما يُعلم
من أصولهم، ومذاهبهم ليست متفقة كما ادَّعيتم. وقد حرر المسألة العلامة المحقق
ابن القيم في كتابه (زاد المعاد) في فصل مستقل قال:
(فصل)
في حكمه صلى الله عليه وسلم وخلفائه في أحد الزوجين يجد
بصاحبه برصًا أو جنونًا أو جذامًا أو يكون الزوج عِنِّينًا
في مسند أحمد من حديث يزيد بن كعب بن عجرة [١] رضي الله عنه أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم تزوج امرأة من بني غفار فلما دخل عليها فوضع [٢] ثوبه
وقعد على الفراش أبصر بكشحها بياضًا فانحاز [٣] عن الفراش، ثم قال: (خذي
عليك ثيابك) ولم يأخذ مما آتاها شيئًا. وفي الموطأ عن عمر رضي الله عنه، أنه
قال: أيما امرأة غُرّ بها رجل بها جنون أو جذام أو برص فلها المهر بما أصاب
منها وصداق الرجل على مَن غره [٤] وفي لفظ آخر: قضى عمر رضي الله عنه
في البرصاء والجذماء والمجنونة إذا دخل بها فُرق بينهما والصداق لها بمسيسه
إياها وهو له على وليها.
وفي سنن أبي داود من حديث عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما: طلق
عبد يزيد أبو ركانة [٥] زوجته أم ركانة ونكح امرأة من مزينة، فجاءت إلى النبي
صلى الله عليه وسلم، فقالت: ما يغني عني إلا كما تغني هذه الشعرة لشعرة أخذتها
من رأسها، ففرِّق بيني وبينه، فأخذت النبي صلى الله عليه وسلم حمية، فذكر
الحديث ... ، وفيه أنه صلى الله عليه وسلم قال له: طلِّقْها، ففعل، قال: راجع
امرأتك أم ركانة وإخوته، فقال: إني طلقتها ثلاثًا يا رسول الله قال: قد علمت،
راجعها، وتلا:] ْيَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنّ [ (الطلاق: ١) ،
ولا علة لهذا الحديث إلا رواية ابن جريج له عن بعض بني أبي رافع وهو مجهول
ولكن هو تابعي وابن جريج من الأئمة الثقات العدول، ورواية العدل عن غيره
تعديل له ما لم يعلم فيه جرح، ولم يكن الكذب ظاهرًا في التابعين ولا سيما التابعين
من أهل المدينة ولا سيما موالي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا سيما مثل هذه
السُّنة التي اشتدت حاجة الناس إليها، لا يظن بابن جريج أنه حملها عن كذاب ولا
عن غير ثقة عنده ولم يبين حاله.
وجاء التفريق بالعنّة عن عمر وعثمان رضي الله عنهما وعبد الله بن مسعود
وسمرة بن جندب ومعاوية بن أبي سفيان والحرث بن عبد الله بن أبي ربيعة
والمغيرة بن شعبة رضي الله عنهم، لكن عمر وابن مسعود والمغيرة - رضي الله
عنهم - أجلوه سنة، وعثمان ومعاوية وسمرة - رضي الله عنهم - لم يؤجلوه،
والحرث بن عبد الله - رضي الله عنه - أجله عشرة أشهر. وذكر سعيد بن
منصور: حدثنا هشيم أنبأنا عبد الله بن عوف عن ابن سيرين أن عمر بن الخطاب
رضي الله عنه بعث رجلاً على بعض السعاية، فتزوج امرأة وكان عقيمًا، فقال له
عمر رضي الله عنه: أعلمتَها أنك عقيم؟ ، قال: لا. قال: فانطلقْ فأعلمْها، ثم
خَيِّرْها، وأجَّل مجنونًا سنة، فإن أفاق، وإلا فرق بينه وبين امرأته. فاختلف
الفقهاء في ذلك، فقال داود وابن حزم ومَن وافقهما: لا يفسخ النكاح بعيب ألبتة،
وقال أبو حنيفة رضي الله عنه: لا يفسخ إلا بالجب والعنة خاصة. وقال الشافعي
ومالك يفسخ بالجنون والبرص والجذام والقرن والجب والعنة خاصة. وزاد الإمام
أحمد عليهما: أن تكون المرأة فتقاء منخرقة ما بين السبيلين، ولأصحابه في نتن
الفرج والفم وانخراق مجرى البول والمني في الفرج والقروح السيالة فيه والبواسير
والناصور والاستحاضة واستطلاق البول والنجو والخصي وهو قطع البيضتين
والسل وهو سل البيضتين والوجء وهو رضهما وكون أحدهما خنثى مشكلاً، والعيب
الذي بصاحبه مثله من العيوب السبعة والعيب الحادث بعد العقد وجهان.
وذهب بعض أصحاب الشافعي إلى رد المرأة بكل عيب ترد به الجارية في
البيع، وأكثرهم لا يعرف هذا الوجه ولا مظنته ولا مَن قاله، وممن حكاه أبو
عاصم العباداني في كتاب طبقات أصحاب الشافعي، وهذا القول هو القياس أو قول
ابن حزم ومَن وافقه. وأما الاقتصار على عيبين أو ستة أو سبعة أو ثمانية دون ما هو
أولى منها أو مساوٍ لها فلا وجه له، فالعمى والخرس والطرش وكونها مقطوعة
اليدين أو الرجلين أو إحداهما أو كون الرجل كذلك من أعظم المنفرات والسكوت عنه
من أقبح التدليس والغش وهو منافٍ للدين، والإطلاق إنما ينصرف إلى السلامة فهو
كالمشروط عرفًا، وقد قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه لمَن تزوج
امرأة، وهو لا يولد له: أخبرْها أنك عقيم وخيِّرْها، فماذا يقول رضي الله
عنه في العيوب التي هذا عندها كمال بلا نقص.
والقياس أن كل عيب ينفر الزوج الآخر منه، ولا يحصل به مقصود النكاح
من الرحمة والمودة يوجب الخيار، وهو أولى من البيع، كما أن الشروط
المشروطة في النكاح أولى بالوفاء من شروط البيع، وما ألزم الله ورسوله مغرورًا
قط ولا مغبونًا بما غُرَّ به وغُبِنَ به. ومن تدبر مقاصد الشرع في مصادره وموارده
وعدله وحكمته وما اشتمل عليه من المصالح لم يَخْفَ عليه رجحان هذا القول،
وقُربه من قواعد الشريعة.
وقد روى يحيى بن سعيد الأنصاري عن ابن المسيب رضي الله عنه قال:
قال عمر رضي الله عنه: أيما امرأة تزوجت وبها جنون أو جذام أو برص فدخل
بها ثم اطلع على ذلك فلها مهرها بمسيسه إياها وعلى الولي الصداق بما دلس كما
غره. وَرَدُّ هذا بأن ابن المسيب لم يسمع من عمر رضي الله عنه من باب الهذيان
البارد المخالف لإجماع أهل الحديث قاطبة، قال الإمام أحمد: إذا لم يقبل سعيد بن
المسيب عن عمر رضي الله عنه فمَن يُقبل؟ ، وأئمة الإسلام جمهورهم يحتجون
بقول سعيد بن المسيب: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكيف بروايته عن
عمر رضي الله عنه؟ وكان عبد الله بن عمر رضي الله عنه يرسل إلى سعيد يسأله
عن قضايا عمر رضي الله عنه، فيفتي بها، ولم يطعن أحد قط من أهل عصره -
ولا مَن بعده ممن له في الإسلام قول معتبر - في رواية سعيد بن المسيب عن عمر
رضي الله عنه ولا عبرة بغيرهم.
وروى الشعبي عن علي كرم الله وجهه: أيما امرأة نُكحت وبها برص أو
جنون أو جذام أو قرن فزوجها بالخيار ما لم يمسها، إن شاء أمسك وإن شاء طلق،
وإن مسها فلها المهر بما استحل من فرجها. وقال وكيع عن سفيان الثوري عن
يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب عن عمر رضي الله عنهم قال: إذا تزوجها
برصاء أو عمياء فدخل بها فلها الصداق ويرجع به على مَن غره. وهذا يدل على
أن عمر رضي الله عنه لم يذكر تلك العيوب المتقدمة على وجه الاختصاص
والحصر دون ما عداها، وكذلك حكم قاضي الإسلام حقًّا، الذي يُضرب المثل
بعلمه ودينه وحكمه - شريح رضي الله عنه، قال عبد الرزاق عن معمر عن أيوب
عن ابن سيرين رضي الله عنه: خاصم رجل إلى شريح، فقال: إن هؤلاء قالوا
لي: إنا نزوجك أحسن الناس فجاؤوني بامرأة عمياء، فقال شريح: إن كان دلس
لك بعيب لم يجُز. فتأمل هذا القضاء وقوله: إن كان دلس لك بعيب كيف يقتضي
أن كل عيب دُلِّسَتْ به المرأة فللزوج الرد به.
وقال الزهري رضي الله عنه: يرد النكاح من كل داء عضال. ومَن تأمل
فتاوى الصحابة والسلف علم أنهم لم يخصوا الرد بعيب دون عيب إلا رواية رُويت
عن عمر رضي الله عنه: لا ترد النساء إلا من العيوب الأربعة الجنون والجذام
والبرص والداء في الفرج، وهذه الرواية لا نعلم لها إسنادًا أكثر من أصبغ وابن
وهب عن عمر وعلي رضي الله عنهما وقد رُوي عن ابن عباس ذلك بإسناد متصل
ذكره سفيان عن عمرو بن دينار عنه.
هذا كله إذا أطلق الزوج، وأما إذا اشترط السلامة أو شرط الجمال فبانت
شوهاء، أو شرطها شابة حديثة السن فبانت عجوزًا شمطاء، أو شرطها بيضاء
فبانت سوداء، أو بكرًا فبانت ثيبًا. فله الفسخ في ذلك كله، فإن كان قبل الدخول
فلا مهر، وإن كان بعده فلها المهر، وهو غرم على وليها إن كان غرَّه، وإن كانت
هي الغارة سقط مهرها أو رجع عليها به إن كانت قبضته. ونص على هذا أحمد
في إحدى الروايتين عنه، وهو أقيسهما وأولاهما بأصوله فيما (إذا) كان الزوج
هو المشترط. وقال أصحابه: إذا شرطت فيه صفة فبان بخلافها فلا خيار لها إلا
في شرط الحرية إذا بان عبدًا فلها الخيار، وفي شرط النسب إذا بان بخلافه وجهان.
والذي يقتضيه مذهبه وقواعده أنه لا فرق بين اشتراطه واشتراطها، بل
إثبات الخيار لها إذا فات ما اشترطته أولى؛ لأنه لا تتمكن من المفارقة بالطلاق،
فإذا جاز له الفسخ مع تمكنه من الفراق بغيره فلأن يجوز لها الفسخ مع عدم تمكنها أولى، وإذا جاز لها أن تفسخ إذا ظهر الزوج ذا صناعة دنيئة لا تشينه في دينه ولا في عرضه وإنما تمنع كمال لذتها واستمتاعها به فإذا شرطته شابًّا جميلاً صحيحًا
فبان شيخًا مشوهًا أعمى أطرش أخرس أسود، فكيف تلزم به وتمنع من
الفسخ؟ هذا في غاية الامتناع والتناقض والبعد عن القياس وقواعد الشرع
وبالله التوفيق. وكيف يمكن أحد الزوجين من الفسخ بقدر العدسة من البرص ولا
يمكن منه بالجرب المستحكم المتمكن، وهو أشد إعداءً من ذلك البرص اليسير،
وكذلك غيره من أنواع الداء العُضَال [٦] وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم حرم على البائع كتمان عيب سلعته وحرم على مَن علمه أن يكتمه من المشتري، فكيف
بالعيوب في النكاح، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت قيس - حين
استشارته في نكاح معاوية رضي الله عنه أو أبي جهم رضي الله عنه -: (أما
معاوية فصعلوك لا مال له، وأما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه) ، فعلم أن
بيان العيب في النكاح أولى وأوجب، فكيف يكون كتمانه وتدليسه والغش الحرام به
سببًا للزومه، وجعل ذا العيب غلاً لازمًا في عنق صاحبه مع شدة نفرته عنه، ولا
سيما مع شرط السلامة منه وشرط خلافه؟ ، وهذا مما يعلم يقينًا أن التصرفات
(في) الشريعة وقواعدها وأحكامها تأباه، والله أعلم.
وقد ذهب أبو محمد بن حزم إلى أن الزوج إذا شرط السلامة من العيوب فوجد
أي عيب كان فالنكاح باطل من أصله غير منعقد، ولا خيار له فيه ولا إجازة ولا
نفقة ولا ميراث، قال: إن التي أدخلت عليه غير التي تزوج؛ إذ السالمة غير
المعيبة بلا شك؛ فإذًا لم يتزوجها، فلا زوجية بينهما. اهـ.
***
الإصرار على البدع
وما يُشترط في مكان الجمعة وزمانها وعدد جماعتها
(٤-٧) من الشيخ يوسف أحمد سليمان، الطالب بمشيخة الإسكندرية
من (طملاي) بمركز منوف.
فضيلة الأستاذ مفتي المنار
سأل عبد الرحمن أحمد الصعيدي من طملاي عن حكم فعل البدع التي كثيرًا
ما نهينا أئمة البلد عنها ولله الحمد، فأجبتم إجابة كافية شافية في الجزء التاسع الذي
صدر في ٣٠ ربيع سنة ١٣٣٥ (صحيفة ٥٣٨) ، وعرضنا الجواب على علماء
الناحية، لا فرق بين مدرس في الأزهر وغير مدرس فقرؤوه وفهموه، والتمسنا
العمل بما علموه فامتنعوا، وقالوا: إن تَرْكُ العمل غير جائز والعمل بالبدع جائز
وهو أحسن! ولذا لم يتركوا حتى ولا واحدة، بل زادوا الطبل والرايات أمام
الجنازة إذا شخص منهم مات، وعضوا عليها بالنواجذ. وقد رأينا في كتاب فتاوى
أئمة المسلمين للشيخ محمود (صحيفة ٥٦) : سئل الشيخ أحمد الرفاعي عن الذي
لم يرضَ بسنة النبي في الصلاة أو الدفن، فهل تصح الصلاة خلفه، ويصح أن
يجعل من عدد الجمعة؟ ، فأجاب بأن الصلاة خلفه باطلة وإذا جعل من عدد الجمعة
بطلت صلاة الجمعة على جميع المسلمين. وسئل الشيخ سليم البشري عن رجل
يقول بعدم جواز ترك البدع المجمع على بدعيتها كالترقية ... إلخ، وإذا قيل له سُنَّةُ
النبي صلى الله عليه وسلم ترك هذه الأمور لا يقبل النصيحة، وهذا الرجل إمام
راتب في مسجد، فهل يصلون جماعة في المسجد قبله أو معه أو بعده؟ ، فأجاب
بأن هذا الإمام مبتدع فلا يكون إمامًا للمسلمين، وعليهم أن يجتهدوا في منعه من
الإمامة ولو بواسطة الأفراد.
فعلى هذا؛ هل الشرع الذي شرعه لنا رسول الله يرى لنا رخصة في كوننا
نصلي الجمعة في الغيط أو في البيت أو في المسجد بعدد أقله ثلاثة غير الإمام
الخاطب من وقت صلاة العيد إلى الاصفرار، هل ذلك يجزئ أم لا، وما هي التي
تجزئ؟ اشفنا بالجواب، رفعك الملك الوهاب.
* * *
الجواب في مسألة البدع:
البدع منها ما يكون كفرًا أو وسيلة إلى الكفر ومنها ما هو حرام وما هو
مكروه، وليس في البدع الشرعية شيء جائز كأن يكون مباحًا؛ لأنها لا تكون إلا
ضلالة كما ورد في الحديث، وقد صرح بهذا الفقيه ابن حجر المكي في الفتاوى
الحديثية (ص٣٠٦) وأما البدعة غير الشرعية فهي التي قالوا: إنها تنقسم إلى
الأحكام الخمسة كما بيّنه ابن حجر في ص١١٢ من الفتاوى الحديثية أيضًا، ولكنه
أخطأ في بعض الأمثلة، وعبّر عن بعض هذه البدعة بالبدعة اللغوية وقد فصَّل
العلامة الشاطبي هذا البحث تفصيلاً تامًّا في كتابه (الاعتصام) ، وسبق لنا نقل
كثير من فصوله. ولم يبلغنا قبل اليوم أن الجهل بلغ من أحد ينسب إلى الإسلام
مبلغًا حمله على القول بأن العمل بالبدعة الشرعية جائز وأنه خير من تركها! . وما
نقله السائل عن الشيخ أحمد الرفاعي فيه مبالغة لا نعرف لها وجهًا بذلك الإطلاق،
وما أفتى به الشيخ سليم البشري حق ظاهر، والشيخ أقدر من كل أحد في مصر
على مقاومة البدع وإبطال كثير منها؛ وذلك لا يكون بفتوى منه؛ فإنه يَقِلُّ في هذا
القطر مَن يترك شيئًا تعوَّده لفتوى عالم، ولكن لدى الشيخ وسائل أخرى، كل منها
يؤثر ما لا تؤثر الفتاوى الفردية.
يسهل على الشيخ - وهو رئيس العلماء - أن يؤلف لجنة من كبار علماء
المذاهب الأربعة في الأزهر ويأمرها بإحصاء البدع الفاشية في المساجد والأضرحة
والموالد وغيرها وتأليف رسائل في التغير عنها، تطبع ويذكر فيها أسماء عشرات
من العلماء الذين ألفوها وأقروها، وأن يعهد إلى علماء جميع المعاهد الدينية
وطلابها بنشرها وقراءتها على الناس في المساجد بنظام متبع، وكذا في غير
المساجد بشرط أن يكونوا أول العاملين بها والمنكرين على كل من يخالفها، ويمكن
طبع الألوف من هذه الرسائل على نفقة الأوقاف الخيرية المطلقة وتوزيعها بغير
ثمن، وأن يعهد إلى بعض المنشئين المجيدين بإنشاء خطب في ذلك، توزعها
وزارة الأوقاف على خطباء جميع المساجد ليخطبوا بها، وأن يقترح على الشعراء
المجيدين أن ينظموا ذلك في قصائد وموشحات تزجر الناس عن تلك البدع. ويسهل
عليه أيضًا أن يتوسل بالحكومة إلى إبطال كثير من تلك البدع، ولا سيما بدع
المواسم والاحتفالات التي للحكومة يد فيها. فعسى الله أن يوفق الشيخ إلى هذا
العمل الذي لا يقدر عليه غيره، فيكون ذخرًا له عند الله تعالى، وموجبًا لثناء
الناس كلهم بحق.
***
الجواب عن مسألة العدد في الجمعة:
اختلف العلماء في العدد الذي تنعقد به الجمعة على خمسة عشر قولاً، نقلها
الشوكاني عن الحافظ ابن حجر، أضعفها القول بأنها تصح من الواحد، فلا يشترط
فيها عدد - وقد نقل الإجماع على خلافه - ثم القول بأنها لا تنعقد بأقل من ثمانين،
وهو أكثر ما قيل فيها. وأوسطها القول بأنها تصح من اثني عشر غير الإمام،
وهو العدد الذي بقي مع النبي صلى الله عليه وسلم، فجمَّع بهم حين انفض الناس
إلى التجارة، وهم الذين نزل في شأنهم آخر سورة الجمعة، فظاهر حديث جابر في
المسألة عند أحمد والشيخين أنه صلى بهم، وإن لم يصرح بذلك وصح عند
الطبراني وابن أبي حاتم أنه صلى الله عليه وسلم سألهم عن عددهم فكانوا ١٢
رجلاً وامرأة، فلولا اعتبار العدد الذي لا يعرف إلا بالعد - دون مجرد النظر - لم
يسألهم، وفيه أن ذلك لا ينفي صحتها بأقل من هذا العدد؛ لأن هذه واقعة عين لا
تدل على العموم، وإنما وجه الاستدلال به أنه يقال فيه ما قيل في خبر انعقادها
بالأربعين، وهو أن الأمة أجمعت على اشتراط العدد في الجمعة، وقد ثبت جوازها
بهذا العدد، فلا يجوز بأقل منه، ولا سيما في الابتداء إلا بدليل، ولم نَرَ دليلاً
صحيحًا لأحد ممن قالوا بانعقادها بأقل من ذلك، فأقل ما يقال فيه: إن انعقادها بما
دون هذا العدد مشكوك في صحته، ولا يزيل هذا الشك قياسها على الجماعة الذي
استدل به مَن قال بانعقادها باثنين أو ثلاثة مع الإمام أو بدونه؛ لأنه معارض لما دل
عليه سؤال النبي صلى الله عليه وسلم عن عدد مَن بقي يوم انفض الناس من حوله؛
ولأن مخالفة الجمعة لغيرها من الصلوات الخمس في بعض الأحكام فارق يبطل
صحة القياس، ولو كان صحيحًا لما خفي على الصدر الأول، ولم ينقل عنهم
التجميع بثلاثة أو أربعة، ولكنَّ في الأربعة حديثًا لا يصح. هذا ما أراه أقوى
الأقوال في المسألة. وقال الحافظ - عند ذكر القول الخامس عشر - وهو اشتراط
جمع كثير بغير قيد: ولعل هذا الأخير أرجحها من حيث الدليل. اهـ، وفيه أن
الاثني عشر إذا لم يكونوا جمعًا كثيرًا فما حد الكثرة عنده، وهي من الأمور
النسبية، وما الدليل عليها؟
* * *
الجواب عن مسألة مكان الجمعة:
اشترط بعض الفقهاء أن تقام الجمعة في مصر جامع؛ أي: مدينة، ولم يجيزوا
إقامتها في القرى بمعناها العرفي أي الضياع أي البُليدات القليلة السكان. وروي
ذلك عن علي كرم الله وجهه مرفوعًا، وقد ضعَّف أحمد رفعه وصحَّح ابن حزم وقفه
وعليه زيد بن علي والباقر والمؤيد بالله من أئمة العِتْرة وأبو حنيفة وأصحابه.
والجمهور يجيزون التجميع في القرى بالمعنى العرفي المذكور، ومن حججهم ما
رواه البخاري وأبو داود عن ابن عباس رضي الله عنه: أول جمعة جُمعت بعد
جمعة جمعت في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجد بجُواثي من
البحرين هذا لفظ البخاري ولفظ أبي داود: بجواثي قرية من قرى البحرين. وزاد
أيضًا: (في الإسلام) بعد قوله: أول جمعة جمعت. قالوا: وصلاة الجمعة في
ذلك الوقت مما لا يفعله الصحابة باجتهادهم بل بأمر النبي صلى الله عليه وسلم أي
وإن فُرض فعلها باجتهادهم فلا يعقل أن يخفى عليه فإذًا لا يكون إلا بأمره، وهو
الراجح أو بإقراره؛ إذ لو أنكره عليهم لتوفرت الدواعي على نقله. وكتب عمر إلى
أهل البحرين: أن جَمِّعُوا حيثما كنتم، وصححه ابن خزيمة عنه. وروى عبد الرزاق
عن ابن عمر بإسناد صحيح أنه كان يرى أهل المياه بين مكة والمدينة يُجَمِّعُونَ فلا
يعتب عليهم. أقول: ولا حجة فيما هو آثار عن الصحابة مختلفة والقرية في حديث
ابن عباس الذي في معنى المرفوع هو المصر. ويمكن الجمع بأنها تصح من أهل
الضياع والمزارع ولا تجب عليهم، بل على أهل المدن. ونص حديث علي المشار
إليه آنفًا: (لا جمعة ولا تشريق إلا في مصر جامع) .
والقرية والمدينة والمصر والبلد تتوارد على معنى واحد في اللغة، وإن كان
بينها فروق دقيقة في موادها، فقد أطلق في القرآن اسم القرية والبلد على مكة،
وهي أيضًا مدينة ومصر بلا خلاف، وأطلق اسم القرية في سورة يوسف على
مصر (٨٢: ١٢) وقال علماء اللغة: القَِرية - بالفتح والكسر - المصر الجامع،
ولا ندري متى جعل المولدون لفظ القرية اسمًا للبُليدة الصغيرة، وفسر أهل اللغة
المصر بالكورة والصقع، والكورة بالمدينة، وقالوا: إن الكورة والخلاف والرستاق
والجند واحد، وهو مجموع القرى والمزارع، فكأن المصر البلد الذي يتبعه عدة
مزارع وضياع وهو كالبندر في عُرف مصر، وقال الراغب: المصر اسم لكل بلد
ممصور أي محدود، يقال: مصرت مصرًا: أي بنيته. والمصر: الحد. اهـ،
وقول الليث إنه عندهم الكورة التي تقام فيها الحدود، ويقسم الفيء والصدقات من
غير مؤامرة الخليفة - اصطلاح إسلامي.
واشترط بعض العلماء إقامة الجمعة في مسجد مستدلاً بعمل الناس في الصدر
الأول وما بعده، والعمل وحده لا يعدونه دليلاً، وروى أهل السير أنه صلى الله
عليه وسلم صلى الجمعة بالناس في بطن الوادي قبل وصوله إلى المدينة، وصرح
ابن القيم بأنه صلاها هنالك في مسجد، والجمهور لا يشترطون المسجد، وثبت
عن الصحابة إقامة الجمعة في مصلى العيد خارج البلد.
***
الجواب عن مسألة وقت الجمعة:
ورد في الأحاديث الصحيحة التصريح بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان
يصلي الجمعة حين تميل الشمس أي عند الزوال، بأنهم كانوا يصلون معه، ثم
يرجعون إلى القائلة فيقيلون، روى المعنيين أحمد والبخاري من حديث أنس،
والقائلة:الظهيرة أي منتصف النهار والقيلولة:وهي النوم في الظهيرة أو الاستراحة
فيها، وإن لم ينمْ، وفي حديث سهل بن سعد الذي اتفق عليه الجماعة: ما
كنا نقيل ولا نتغدى إلا بعد الجمعة. أي في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، كما
صرح به في رواية مسلم والترمذي. وعن ابن قتيبة: (لا يسمى غداء ولا قائلة
بعد الزوال) ، وهنالك أحاديث أخرى بهذا المعنى أخذ بها الإمام أحمد، فقال
بصحة الجمعة قبل الزوال، وتكلف الجمهور تأويلها، وذهب بعض أصحاب أحمد
إلى أن وقتها وقت العيد، وبعضهم إلى أنها لا تقدم على الساعة السادسة، أي التي
تنتهي بالزوال، والجمهور منهم كغيرهم، فالمعروف في فقههم أن وقتها وقت
الظهر، ولا دليل على صحتها في وقت العصر، والتجميع قبل الزوال مختلف فيه،
وموجب للافتراق والقيل والقال بلا فائدة، فلا ينبغي الإقدام عليه.