للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


سياحة السلطان
والاستفادة من منصبه الديني

لما نجم قرن الفتنة في بلاد الأرنؤوط عام أول اقترح بعض المبعوثين منهم
ومن غيرهم أن ترسل الحكومة إليهم جماعة من الناصحين، وقالوا: إننا نعتقد أنه
يمكن استمالة زعمائهم بالنصح والإرشاد، فإذا لم يصدق اعتقادنا فالحكوة قادرة على
أن تخضعهم بالقوة القاهرة بعد ذلك كما هي قادرة الآن، وإنما الحكمة تقتضي أن
يكون الكي بالنار آخر العلاج. فأبى زعماء الاتحاديين يومئذ قبول هذا
الاقتراح، وعدوه منافيًا لكرامة الدولة وعظمتها، كأن عظمتها عندهم لا تتحقق
بالحكمة والرحمة، وإنما تتحقق بسفك دماء الأمة بأيدي جندها الذي نظم لحمايتها،
وكانوا يقولون: إن إخماد نار هذه الفتنة يتم في أيام معدودات، ولكنه لم ينته في
العام الماضي إلا بخسارة كبيرة، وسفك دماء غزيرة، وذهاب محمود شوكت باشا
نفسه إلى ميدان القتال، واستعانته بالخطابة والإشراف على القلوب من شرفة
التأثير الديني، ومع هذا كان سكون الفتنة على دخن، فعادت في هذا العام أشد ما
كانت وأوسع انتشارًا، فسيرت الحكومة إليهم كما سيرت إلى اليمن جيشًا عرمرمًا،
وقال بعض المتشيعين لها: إن نار الثورة ستنطفئ في أسبوع أو أسبوعين، فكذبت
الوقائع قولهم، وقد مرت الشهور ولم تزدد الفتنة إلا شدة.
في أثناء هذه المدة زالت سيطرة أولئك الزعماء الاتحاديين عن الحكومة،
وضعفت في مجلس الأمة، فرأى من قاموا مقامهم أن فتنة الأرنؤط قد عظمت،
وأن الدول الأوربية أنشأت تخاطب الحكومة في شأنها وما يتعلق بها، بدأت بذلك
روسية وتلتها النمسة وإيطالية، فعدنا إلى ما كنا عليه زمن عبد الحميد من
سيطرتهم علينا أو كدنا، فترجح لهم أن يلجؤوا إلى النصح ويستعينوا بنفوذ السلطان
الديني في إخماد تلك الثورة، وكان سلفهم يرون وجوب إضعاف نفوذ الخلافة في
الحكومة وداخلية البلاد وجعله سياسيًّا محضًا، فقررت الحكومة أن يسافر مولانا
السلطان إلى بلاد الأرنؤوط بعد أن يزور سلانيك وأن يصلي الجمعة إمامًا بالناس،
وأن يدعى الثائرون بأمره إلى الطاعة على أن يعفو عن المجرمين عفوًا عامًّا،
ويدفع دية قتلاهم، حتى لا يتنازعوا فيها؛ جريًا على عاداتهم وتقاليدهم، وكذلك
كان.
مولانا السلطان محمد رشاد طيب النفس طاهر القلب يؤثر الرحمة على
الانتقام؛ لهذا كان مسرورًا مغتبطًا بهذا الرأي، وقد سافر إلى سلانيك ثم سافر منها
إلى مناستر وقصوه، وقد اجتمع للتشرف بالاحتفال به ألوف كثيرة، وفاض معين
إحسانه على المدارس والملاجئ وجمعية الاتحاد، ونقل البرق عن السائح عبد
الرشيد أفندي الروسي إلى أشهر جرائد المسلمين هنا أنه أمّ الناس في صلاة الجمعة،
وكانوا زهاء ثلاث مئة ألف أي: من الجند والأهالي والوفود، فكبرت الجرائد
العربية بمصر وسورية لهذا الخبر ونوهت به، وقالت: إن خليفتنا أحيا سنة
الراشدين وقام بوظيفته الدينية الكبرى، ثم جاءت جريدة (صباح) من الآستانة
وفيها ذكر الاحتفال وأن السلطان صلى مأمومًا. وكان الإمام صديقنا إسماعيل حقي
أفندي المناسترلي.
في فضاء قصوه قد انتصر السلطان مراد الأول على جيش الصرب وبوسنة
وهرسك والأرنؤط والأفلاق والبغدان في ملحمة عظيمة قتل فيها ملك الصرب،
ودانت تلك البلاد كلها لآل عثمان، ولكن السلطان قتل بعد الملحمة بيد جريح كان
بين القتلى، وله مشهد يزار، وإن كانت جثته نقلت إلى بروسة ودفنت فيها،
فزيارة السلطان لمشهده فيه تذكار تاريخي لسلفه العظام الفاتحين الذين غلبوا تلك
الشعوب على أمرها هنالك، ولكننا صرنا الآن في عصر غير ذلك العصر الذي كنا
نفتح فيه الممالك؛ في عصر قد صارت الصرب فيه مملكة جديدة، والجبل الأسود
مملكة جديدة، والبلغار مملكة جديدة، واليونان مملكة جديدة، وصارت هذه
الممالك التي كانت تحت قهر سلطاننا تهددنا فيما بقي لنا، وتغري جيرانها
بالاستقلال مثلها، فالفتح المبين الذي نرجوه من سليل أولئك الفاتحين؛ هو أن
يحفظ لنا البلاد الألبانية بنفوذه الديني المؤثر في نفوس مسلميها، وبالمساوه بينهم
وبين سائر أهل البلاد في العدل والرحمة، وإيثارهما على سياسة أولئك المغرورين
بالشدة والقسوة.
ثم إننا نرجو أن تشمل سياسة العدل والرحمة بلاد اليمن التي طال العهد
ومرت القرون، ولم تر من الدولة إلا السيف والنار، والظلم والعار، وإهلاك
الحرث والنسل، كما صرح بذلك مكاتب جريدة (طنين) التي عطلت فظهرت
باسم (سنين) ، وهي لسان أولئك الزعماء المعروفين من الاتحاديين، الذين نقضوا
ما أبرمه حسين حلمي باشا من الاتفاق مع إمام اليمن على ما فيه حفظ سيادة الدولة
وحقوق الإمام في قومه، وحقن الدماء وعمران البلاد، وآثروا عليه إضعاف الدولة
والأمة بإزهاق الأرواح، وإضاعة الملايين من الأموال، وزيادة البلاد خرابًا على
خراب.
في هذه الفترة التي ضعف فيها نفوذ أولئك الزعماء، وقوي فيها نفوذ الخلافة،
نرجو أن يصيب اليمن نفحة من الرحمة التي لها السلطان الأعلى في قلب مولانا
محمد رشاد، فأهل اليمن أحق بهذه الرحمة من أهل ألبانية إن لم يكونوا مثلهم سواء،
فإذا كان الشعبان سواء في العثمانية في نظر السلطان، من حيث هو في القانون
الأساسي سلطان جميع العثمانيين، فينبغي أن يكون لأهل اليمن امتياز ما في نظره،
من حيث هو في ذلك القانون خليفة المسلمين، فالحجة لم تتعد الدستور فيما يطلب
للفريقين.
أما هذا الامتياز؛ فلمجاورتهم للحرمين الشريفين، وكونهم سياجًا لهما،
فإن بلاد اليمن إذا وقعت في يد دولة أجنبية - لا سمح الله تعالى - يزول نفوذ الدولة
من الحجاز وسلطتها عليه؛ ولما ورد فيهم من الأحاديث الشريفة التي يحترمها
الخليفة من حيث هو خليفة أشد من احترامه للقانون الأساسي.
روى الشيخان وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أتاكم أهل اليمن
هم أرق أفئدة وألين قلوبًا، الإيمان يمان والحكمة يمانية) وآخر الحديث في الإيمان
والحكمة رواه كثيرون، وروى أحمد والطبراني وغيرهما عن محمد بن جبير بن
مطعم عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أتاكم أهل اليمن مثل السحاب
خيار من في الأرض. ثم استثنى الأنصار بإلحاح واحد منهم.
وروى الطبراني عن ابن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أين
أصحاب اليمن هم مني وأنا منهم، وأدخل الجنة فيدخلونها معي. أهل اليمن
المطروحون في أطراف الأرض المدفوعون عن أبواب السلطان، يموت أحدهم
وحاجته في صدره لم يقضها) .
والأحاديث فيهم كثيرة، ويدخلون فيما ورد في العرب عامة كحديث؛ أحبوا
العرب لثلاث: لأني عربي، والقرآن عربي، وكلام أهل الجنة عربي. رواه
الطبراني والحاكم وغيرهما بسند صحيح. وحديث: (إذا ذلت العرب ذل الإسلام)
رواه أبو يعلى بسند صحيح.
لا شك عندنا في حب مولانا محمد رشاد للعرب وحبه للرحمة، فإذا لم ينل
أهل اليمن حظ من عنايته، فلا شك أن علة ذلك تكون من حكومته لا منه، ويكون
ذلك دليلاً على أن عنايتها بمسألة الألبانيين هي من ضغط أوربة، كما تدعي
البرقيات والجرائد الأوربية، لا من إيثار الرحمة على القسوة، والله نسأل حسن
العاقبة، وما فيه الخير للملة والدولة.