للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الخلافة والخليفة
الإمام الحق في هذه الأيام

(س١٣ - ١٦) من صاحب الإمضاء في حمص (سورية) .
حضرة الأستاذ الفاضل صاحب المنار الشيخ العلامة محمد رشيد رضا وفقه
الله، وأمتعه بتقواه.
إن ثقتنا بدرجتكم العلمية العالية، واعتقادنا بإحاطتكم الكاملة لقواعد الشريعة
المحمدية، دعتنا أن نوجه لحضرتكم الأسئلة الآتية، آملين الإجابة عليها بسرعة،
دون احتراز من ملامة، أو اكتراث لغاية، بل لإنقاذ المسلمين من الضلالة، وإزالة
الفتن، وتنوير البصائر، وأجركم وحسابكم على الله:
١ - هل للخليفة عبد المجيد اليوم - في هذه الحالة - من بيعة له في أعناق
المسلمين؟ أسباب بقائها أو زوالها مفصلاً؟
٢ - هل تصح إمامة المسلمين للملك حسين - وهو والإسلام في هذه الحالة؟
أسباب صحتها أو عدم صحتها مفصلاً؟
٣ - من هم اليوم أهل الحل والعقد في جميع الأقطار الإسلامية المستقلة أو
غيرها الذين في استطاعتهم نصرة وإرشاد من أرادوا مبايعته، والذين يعدون
حائزي الشروط لأن يكونوا أولي الأمر.
٤ - من هو الإمام للمسلمين (إذا لم تصح الخلافة لعبد المجيد ولحسين)
الذي يجب أن يعرفه كل مسلم - لبينما يجتمع أهل الحل والعقد، أو يعقد مؤتمر
إسلامي للبت في الخلافة - لئلا تموت الناس ميتة جاهلية؟ محمد فوزي القاوقجي
خلافة عبد المجيد التركي:
١ - الجواب عن السؤال الأول هو أن عبد المجيد أفندي المسؤول عنه لم
تنعقد له خلافة فيسأل عن بقائها أو زوالها؛ ذلك بأنه لم يبايعه أهل الحل والعقد من
أهل بلاده بالخلافة الإسلامية التي هي الإمارة العليا ورئاسة الحكومة في أمورها
الدينية والدنيوية من سياسية وحربية وقضائية وإدارية، بل أسسوا حكومة جمهورية
جعلوا لها رئيسًا آخر، وجعلوا هذه الحكومة مدنية غير دينية؛ أي: ليست مقيدة
بأحكام الشرع الإسلامي، ولأمر ما سموا عبد المجيد أفندي المشار إليه خليفة بعد
إقراره إياهم على حكومتهم الجديدة، وصرحوا بأنهم أرجؤوا بيان معنى هذه الخلافة
الجديدة التي ليس لها أدنى علاقة بحكومتهم، وأذيع عنهم أنهم سيشاورون بعض
كبراء الشعوب الإسلامية في ذلك لجعله خليفة للجميع بمعنًى ديني أو روحاني
جديد مبهم؛ أي: كخلفاء طرق المتصوفة. وكان كثير من أهل الرأي يرون أن هذه
التسمية مؤقتة لأمر ما. ثم ظهر السر في ذلك وهو أنه لما تم لهم الأمر ورأوا
أن جمهوريتهم قد توطدت أركانها , ألغوا هذه الخلافة أيضًا وطردوا المسمى
الخليفة من بلادهم مع جميع أهل بيته والأسرة العثمانية بأسرها.
وإذا كان الذين انفردوا بالشوكة فصاروا بها أهل الحل والعقد في الترك لم
يبايعوا عبد المجيد أفندي بالخلافة الشرعية فهو لم يكن خليفة فيهم، ولو بايعوه بها؟
لرضوا أن يكون هو رئيس حكومتهم سواء سميت جمهورية أم لا، وأن تكون
حكومتهم مقيدة بنصوص الشرع القطعية المجمع عليها، والأحكام الاجتهادية التي
ثبتت عند الخليفة وأهل الشورى في حكومته دون غيرها من آراء المجتهدين، ولما
جاز أن يجعلوا حق التشريع فيها للمجلس الوطني بلا شرط ولا قيد. كما نصوا عليه
في قانونها الأساسي.
على أن خلافته تكون فيهم خلافة تغلب , ولا تكون هي الإمامة الحقيقية التي
تجب طاعة صاحبها بأنه خليفة الرسول صلى الله عليه وسلم، والإمام الحق لجميع
المسلمين؛ إذ يشترط في الإمام الحق شروط أخرى أجمع عليها أهل السنة كالنسب
القرشي الذي يماري فيه اليوم بعض الجاهلين، وبعض الذين يحكمون أهواء
السياسة في الدين، وعبد المجيد أفندي غير مستجمع لهذه الشروط كالقرشية والعلم
الاجتهادي , والعدالة الشرعية التي ينافيها رضاه بالحكومة اللادينية - وفيهما خلاف لبعض الحنفية - وكذا عنايته بالتصوير والعزف على الآلات الوترية عند جمهور
فقهاء المسلمين. على أنه من أفضل أسرته وغيرها سيرة وسريرة وتدينًا ورغبة في
خدمة المسلمين، كما نقل إلينا الثقات الذين عرفوه. دع كون أهل الحل والعقد في
الترك ليسوا أهل الحل والعقد في سائر الشعوب الإسلامية المستقلة كعرب الجزيرة
وغيرهم، ودع كون بيعتهم مسبوقة ببيعة غيرها أقرب إلى الشرع منها، كما تراه في
الجواب عن السؤال الثاني.
وأما بيعة من بايع عبد المجيد أفندي من مسلمي مصر والهند وأفريقية فهي
باطلة لا يثبت بها شيء؛ لأنهم ليسوا أهل الحل والعقد في بلادهم الذين يترتب على
بيعتهم نفوذ أحكام من بايعوه فيها، ولم تكن بيعتهم تابعة لبيعة أهل الحل والعقد في
بلاده هو , ولا في غيرها لتكون مؤكدة لها، وإنما تنعقد البيعة شرعًا بمبايعة أهل
الحل والعقد من أهل الاختيار الذين بينا شروطهم , وما يعتبر فيهم في كتابنا
(الخلافة أو الإمامة العظمى) كما بينا فيه شروط الخليفة , وما تنعقد به البيعة، وما
يجب بها على المبايع والمبايعين له.
واعلم أن الحكم الشرعي في خلافة التغلب كالخلافة العثمانية السابقة - أن
الطاعة فيها للخليفة إنما تجب على من هو متغلب عليهم بشوكته دون غيرهم من
المسلمين، وإنما ذلك لدفع الفوضى فهو ضرورة تقدر بقدرها، وأنه إذا وجد في
بلاد أخرى خلافة صحيحة، ودعا الإمام الحق فيها هذا الخليفة المتغلب وقومه لطاعته
وجب عليهم ذلك. فإن أبوا وجب عليه قتالهم إن قدر، ووجب على كل من دعاه
إلى ذلك من المسلمين أن يقاتلهم معه؛ أي: تحت لوائه.
وقد صرح شيخ الإسلام الحافظ ابن حجر في شرحه للحديث الثاني من كتاب
الأحكام من صحيح البخاري بأن الذين انتحلوا منصب الخلافة من غير قريش
بشوكة التغلب حكمهم حكم البغاة؛ أي: قطاع الطريق الذين يخرجون من طاعة الإمام
الحق.
خلافة حسين العربي المكي:
وأما السؤال الثاني فصحته كما يفهم بالقرينة لضعف عبارته العربية: هل
تصح إمامة الملك حسين للمسلمين؟ أو هل تصح توليتهم إياه إمامًا عليهم؟ وهو
يريد بذلك مبايعة بعض أهل فلسطين وسورية والحجاز والعراق له.
والجواب عنه أن هذه المبايعة لا تجعله إمامًا للمسلمين , فهي بيعة غير
صحيحة وبيان ذلك من وجوه:
(الوجه الأول) أنه يوجد بجوار بلاده إمام آخر قد ولي الإمامة قبله بسنين
كثيرة في اليمن , وهو قرشي علوي مستجمع للشروط الشرعية التي يفقدها هو:
كالعلم والعدالة والشوكة كما يعلم مما يأتي. ومن المعلوم أن النبي صلى الله عليه
وسلم أمر بقتل من يبايع بالخلافة مع وجود إمام آخر بويع قبله. والحديث في ذلك
مشهور رواه مسلم في صحيحه.
فإن قيل: إن إمام اليمن زيدي غير سني. أجيب!
(أولاً) بأنه من أهل العلم الاجتهادي، ولا يبايع علماء الزيدية أنفسهم أحدًا إلا
إذا ثبت عندهم اجتهاده.
(وثانيًا) بأن علماء السنة اشترطوا في الإمام الإسلام، ولم يشترطوا مذهبًا
معينًا، بل اشتراطهم للاجتهاد في الدين ينافي اشتراط المذهب، وأما ما يسمونه
البدع وخاصة ما كان منها محل النظر والاجتهاد - كاختلاف المذاهب - فلا يعدون
مخالفة السنة فيه بالتأول مانعًا من صحة الخلافة , كما في شرح البخاري للحافظ ابن
حجر. واستدل على هذا بأن كبار أئمة السنة كالإمام أحمد لم يقولوا ببطلان خلافة
المأمون والمعتصم اللذين حملا الناس على القول بخلق القرآن، وقد استدل الحافظ
بإمامة اليمانيين على بقاء الإمامة في قريش إلى عصره وكانوا زيدية فيراجع في
شرح حديث (لا يزال هذا الأمر في قريش ... ) من شرح للبخاري.
(وثالثًا) أن حسين بن علي ليس من علماء أهل السنة المجتهدين , ولا
المقلدين لأحد مذاهبهم عملاً وحكمًا كما يعلم مما يأتي، وإن كان قد نشأ في قوم
يسمون سنية وحنفية وشافعية , فذلك لا يقتضي أن يكون ملتزمًا لمذهب الحنفية أو
الإمام الشافعي، وسنبين هذا بالإجمال هنا، وقد بيناه بالتفصيل مرارًا آخرها:
الخطاب الذي نوجهه في شأنه إلى العالم الإسلامي وينشر في المنار تباعًا. ومما
فيه أنه يحكم بين الناس في الحضر برأيه وهواه، وبين البدو بقانون أبي نمي
المخالف لنصوص القرآن وإجماع المسلمين.
فإن قيل: إن إمامة يحيى محصورة في بلاده ولم يعترف بها غير أهلها.
(فالجواب) أن إمامة حسين محصورة كذلك، بل دون ذلك. ففي اليمن من أهل
الحل والعقد ما ليس في الحجاز وهم أكثر عددًا، وأشد بأسًا وشوكة من أهل
الحجاز ومن أهل سورية وفلسطين - إن فرضنا أن لاعترافهم تأثيرًا شرعيًّا -
بدليل أن الدولة العثمانية قاتلتهم عدة قرون ولم تقدر على إزالة إمامتهم. فيحيى
يرجح على حسين من وجوه، وحجته عليه بمبايعته بالإمامة قبله قائمة. (وللكلام
فيها بقية تأتي في جواب السؤال الرابع) . وبهذا يعلم خطأ الذين بايعوا حسينًا بدعوى
أن الخلافة التركية قد سقطت , وأصبح منصب الخلافة معطلاً، وأنه يجب التعجيل
بإقامة إمام للمسلمين؛ لئلا يصدق على من يتأخر عن ذلك حديث: (من مات وليس
في عنقه بيعة لإمام مات ميتة جاهلية) فقد غشوا الناس بهذا القول، كما غشوهم بأنه
لا يوجد أحد مستجمع لشروط الإمام غير هذا الرجل ويعلم هذا بما يأتي:
(الوجه الثاني) : أن الملك حسينًا فاقد للعلم الشرعي اجتهادًا وتقليدًا كما
يعلم بالقطع من مكتوباته الرسمية وغير الرسمية , فإنها مشتملة على الأغلاط
اللغوية الفاحشة في المفردات والجمل والأسلوب. وفهم الكتاب والسنة وكتب أئمة
العقائد والفقه يتوقف على إتقان اللغة العربية. ومشتملة على تحريف فظيع للآيات
والأحاديث، وعلى تفسيرهما بالرأي بل الهوى، وعلى أحكام باطلة لا دليل عليها،
وأحاديث موضوعة لا أصل لها، وقد أوردنا في مواضع متعددة من المنار بعض
ذلك، فإذا وجد من أدعياء العلم المتحيزين إليه من ينكر علينا ذلك؛ فإننا نجمعه في
كتاب نطبعه على حدته ونطالبهم بالرد عليه إن استطاعوا.
(الوجه الثالث) أنه فاقد للعلم بالسياسة العامة وشؤون الدول والأمم التي
صارت تتوقف في هذا الزمان على علم واسع، وهو مع ذلك ينفرد بعقد الاتفاقات
مع الدول، فيقع فيما يضيع به حقوق المسلمين ومصالحهم , كما يعلم بالقطع من
الاتفاق مع الإنكليز على ما يسميه (مقررات النهضة) وفيها التصريح بجعل البلاد
العربية وفي مقدمتها الحرمان الشريفان تحت حماية دولة أجنبية غير مسلمة ,
تجتهد في إزالة ملك الإسلام وشرعه من الأرض. وقد نشرنا هذه المقررات مرارًا
وبيَّنا مفاسدها. ومثلها المعاهدة الأخيرة المبنية على أساسها: التي كان أعلن قبولها
بادئ بدء في أول شوال من السنة الماضية - ١٣٤١ - ولكن كان من توفيق الله
تعالى أن علم بجل مضمونها أهل فلسطين وغيرهم , فانتقدوها وصرحوا برفض ما
يتعلق بهم منها، وبينا نحن وغيرنا سائر مفاسدها، فاضطر الملك حسين إلى
الامتناع من إمضائها النهائي بعد أن أمضاها الإمضاء المبدئي وأمر باتخاذ يوم
إعلانها عيدًا رسميًّا للأمة العربية. وقد أرسل قبل سفره إلى شرق الأردن خطابًا
إلى الأمة الإنكليزية اعترف فيه بموالاة حكومتها - خلافًا لنص القرآن - وبأنه
أضاع بذلك استقلال من تبعه في ذلك من الأمة العربية؛ ونشر هذا الخطاب في
الجرائد العربية واشتهر.
(الوجه الرابع) فقده للعدالة من شروط الخلافة , والدلائل على ذلك كثيرة
جدًّا من أهمها: استبداده الذي لا يكابر فيه أحد يعرف حاله، وظلمه الذي نذكر منه
منعه لشرفاء قومه الذين كانوا في الآستانة وغيرهم من الرجوع إلى بلدهم ,
واستيلاؤه على أموالهم من أملاكهم وأوقافهم , وعدم إعطائهم شيئًا منها، وناهيك بما
ذكرناه آنفًا من حكمه بما يخالف كتاب الله وإجماع المسلمين. ومن أشهر أعماله
الاستبدادية! ضربه الضرائب على الحجاج، وظلمه لأهل الحرمين الشريفين
ومنه: حرمانهم من مئات الألوف من الدراهم والغلال التي كانت ترسلها إليهم
الحكومة المصرية في كل عام وقد رأينا ما دافع به عنه بعض المأجورين
والمنافقين في العام الماضي.
وملخصه أنه ملك للحجاز ومالك له وله أن يمنع من دخوله ولو لأداء فريضة
الحج من شاء ويأذن لمن شاء (وقد صرح بهذا ولده الأمير عبد الله ونشر في
الجرائد) وأن يشترط ما شاء على من شاء من الحجاج كمنع ركب الحج المصري من
وضع أدويته وأدواته الصحية في جدة ومكة وغير ذلك، مع أن المعلوم من الدين
بالضرورة أنه ليس لأحد أن يشترط على مؤدي ركن من أركان الإسلام شروطًا أو
يضع عليه ضريبة , ولو جاز هذا في أداء الحج لجاز في أداء الصلاة , فإذًا لا
يجوز له أن يتحكم في حرية الحجاج بشيء إلا إذا ارتكب أحد ذنبًا يعاقب عليه
الشرع، فله أن يحاكمه وينفذ ما يحكم به عليه بالعدل. وأما استصحاب الحجاج
للأطباء وللأدوية والعقاقير , واستخدامهم للمطوفين أو غيرهم من أهل البلاد في
أعمال مشروعة بالتراضي - فليس له أن يمنع أحدًا منها.
(الوجهان الخامس والسادس) فقده للشوكة والقوة المالية والجندية اللتين
يتوقف عليهما حفظ البلاد وحماية الثغور والجهاد المشروع، وجعله البلاد تحت
حماية الدولة البريطانية بنص مقررات النهضة. وقد رفع استقالته المرة بعد المرة
إلى الحكومة الإنكليزية , وطلب منها أن تولي غيره على الحجاز، وتختار له
ولأولاده مكانًا يقيمون فيه. ونشر هذا في جريدته (القبلة) ونقلناه عنها في
المنار مرارًا، ولو لم يكن له إلا هذه الخزية لكفت مانعًا من جواز خلافته، فإن
المراد من الخلافة إعزاز الإسلام والمسلمين بالاستقلال والحرية الشرعية، لا
جعلهم أذلة تحت سلطان دولة غير إسلامية.
(الوجه السابع) أن الذين بايعوه ليسوا أهلاً لأن يبايعوا , كما أنه هو ليس
أهلاً لأن يبايع. أما من حضر الحجاز منهم فهم تحت سيطرته وقهره؟ فليسوا أحرارًا
ولا مختارين، وليس لهم صفة أهل الحل والعقد، كما يعلم مما بيناه مفصلاً في كتاب (الخلافة - أو الإمامة العظمى) وأما من بايعه من أهل سورية وفلسطين
والعراق فهم تحت سيطرة دولتين أجنبيتين قويتين؛ لا يملكون من أمرهم طاعة حاكم
آخر. وإنما المبايعة على السمع والطاعة في الجهاد , وأموال الزكاة وإقامة الحدود
وغير ذلك من الأحكام، فلا الملك حسين يستطيع أن يقيم شيئًا من هذه
الأحكام في هذه البلاد , ولا أهلها قادرون على إعطائه هذه الاستطاعة، ولا على
طاعته إذا هو أمر بشيء منها (والمبايعة في عقد الخلافة كالمبايعة في عقد البيع) بل
هذا هو الأصل وذلك وما في معناه مأخوذ منه، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ
المُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ} (التوبة: ١١١) - إلى أن قال:
{فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِه} (التوبة: ١١١) ولا تتحقق المبايعة في هذا
ولا ذاك إلا إذا كان كل من المتبايعين أهلاً للقيام بنصيبه من العقد. كأهلية الخليفة
لإقامة أحكام الله تعالى كما أنزلها بما له من صفتي العلم والعدالة، وأهليته لتنفيذها
بما له من القوة والشوكة، وأهلية المبايعين له لقبول أحكامه وطاعته فيها وإعانته
عليها. ومثال ذلك في بيع الأعيان ملك البائع لما يبيعه وقدرته على تسليمه، وقدرة
المشتري على أداء الثمن. ومن المعلوم بالضرورة لكل من الملك حسين ومن بايعوه
في شونة شرق الأردن - كما بايع سلفهم في هذه البلاد مروان بن الحكم - أن كلاًّ
منهما عاجز عما توجبه عليه البيعة، فمثلهما كمثل من قال لآخر: بعتك هذا
الطائر في الفضاء، بهذا القمر الذي يلوح في السماء. فقال: قبلت.
على أنني أعلم أن أكثرهم لا يعرف معنى الخلافة , ولا معنى المبايعة , ولا
ما توجبه عليهم , وأن من يعرف ذلك منهم لم يقصدوه بمبايعتهم حتى فيما
يستطيعونه منه , كأن ينفروا إلى قتال سلطان نجد أو إمام اليمن إذا استنفرهم
خليفتهم , ولم تمنعهم الدولة المسيطرة على بلادهم من القتال معه. والدليل على
ذلك أن هذه البلاد كلها كانت قد بايعته من قبل , وكان أهل سورية وفلسطين يظنون
عقب احتلال ولده الأمير فيصل للبلاد مع جيوش الحلفاء أنه تنفيذ لما كانوا يعدونهم
به في زمن الحرب، من أن الشريف يحارب لاستقلالهم وأنه هو ملكهم، فلهذا
بايعوه، وخطبوا باسمه في طول البلاد وعرضها. ولما انعقد المؤتمر السوري
لتقرير استقلال البلاد وإعلانه لم يجعل له شيئًا من الأمر فيها لا بلقب الخليفة ولا
غيره، وقد استنجد ولده فيصلاً ملك سورية لحرب النجديين مرة، فقررت وزارة
هاشم بك الأتاسي رفض الطلب , وإنما سمحت بالتطوع لمن شاء من السوريين
باختياره على نفقة الحجاز. ولو كانوا بايعوا على علم وعزم؛ لربطوا سورية
بالحجاز في ذلك العهد، ولكانوا أجدر بالنجاح يومئذ منهم اليوم.
ما بايع القوم لأجل السمع والطاعة. وإنما بايع بعضهم لهوى أو منفعة
شخصية، وبعضهم لنكاية الدولة الأجنبية المسيطرة , ولا سيما الذين صدقوا
قول دعاة الرجل: إنه هو القادر وحده على إنقاذهم من هذه السيطرة. وبايع
بعضهم لتصديق من قال له: إن هذه المبايعة فرض عليه لا يترتب عليها غرم
ولا تخلو من غنم، وإنه إذا امتنع منها ومات من ليلته مات ميتة جاهلية , وكان من
أهل النار. وقد يوجد في هؤلاء العوام المخلصين من إذا دعي مثل هذه الدعوة إلى
القتال مع الخليفة استجاب على غير علم ولا هدى.
وهنالك أناس آخرون بايعوا لغرض سياسي عام أو خاص؛ أما الخاص فهو
غرض من ظن من أهل فلسطين أن تقوية رابطتهم بملك الحجاز بالخلافة يحمله
على مساعدتهم ولو فيما يغضب الدولة البريطانية، أو يمنعه أن يعقد معاهدة معها
يوافقها فيها على الحالة الحاضرة , وهي حالة الانتداب المرتبط بوعد بلفور بجعل
فلسطين وطنًا قوميًّا لليهود الصهيونيين، وقد كان رضي بالمعاهدة المشتملة على
هذا وأعلنها رسميًّا بمكة في أول شوال من السنة الماضية ثم اضطر إلى طلب
تعديلها كما تقدم آنفًا.
وأما الغرض العام فهو ما أراده أولو العصبية العربية من إعادة الخلافة
الرسمية العامة إلى العرب , وقد ظنوا أن الفرصة قد سنحت لهم بما فعل الترك.
وأكثر أهل البصيرة والمعرفة والإخلاص من هؤلاء يعلمون أن هذا الرجل ليس
أهلاً للخلافة ولا للملك، ولكنهم يقولون: إن مركزه البارز في الحجاز جعله مرجحًا
على غيره من العرب، وهو شيخ كبير , إذا لم ينتفع العرب بهذا المركز في حال
حياته - لما نعلم من صفاته - فلا يمنع ذلك من انتفاعهم به بعد وفاته، ومهما يطل
أجله الشخصي فهو قصير في جانب أجل الأمة. وقد خاطبني بعضهم بهذا قولاً
وكتابة. ولكن المبايعة لأجل العصبية باطلة، والعصبية محرمة، والأحاديث
فيها معروفة في الصحاح والسنن، وهي تضر العرب بتنفير الأعاجم منهم وهم في
غنى عنها بجعل الشارع الإمامة في قريش، وما على قريش وغيرهم إلا أن يرشحوا
من أفضل رجالات قريش من تقوم الحجة على قدرتهم على النهوض بهذا الأمر , وأما
إلصاقه برجل يمقته أكثر مسلمي الأرض، ويرمونه بأقبح الطعن كخيانة
العرب والإسلام وإضاعة ملكهم - كما اعترف به في خطابه الأخير للشعب
البريطاني - فهو أكبر العقبات في سبيل إعادة هذا الحق إلى أهله.
حفظ هؤلاء السياسيون شيئًا وغابت عنهم أشياء لا محل لبيانها هنا، وإنما
نقول: إن إعطاء لقب الخلافة لهذا الرجل سيكون أضر على الأمة العربية عامة من
إعطائه لقب ملك العرب , ومن جعله زعيمًا للأمة العربية من قبل بما يزيد هذه
الأمة تفرقًا وعداوة وضعفًا في أنفسها، وكراهة واحتقارًا من جميع الشعوب
الإسلامية الذين أرادوا أن يجعلوه إمامًا لها، وخليفة مطاعًا أو محترمًا عندها، ومن
ثم يزيد نفوذ الأجانب قوة فيها، ودسائسهم توغلاً في بلادها. وهو قد بدأ ببث
الدسائس في شافعية اليمن العليا والسفلى لإيقاع الفتن بينهم وبين الإمام يحيى،
وإيقاد نار الحرب؛ إذ بلغهم دعاته بأنه سينقذهم من سلطان هذا الإمام الزيدي،
ويقيم لهم حكامًا شافعيين من أهل مذهبهم يكونون تابعين له ومستمدين للسلطة منه.
وهذا يوافق ما صرح به لرئيس مؤتمر الجزيرة بمكة , ونشر في جريدة (القبلة)
في أوائل ربيع الآخر من هذه السنة - أعني أنه لا بد من إعطاء أهل هذه
البلاد من اليمن ما يطلبون من شكل الحكومة الداخلية التابعة لملك العرب! ! !
وإن من أعجب العجائب وأغرب الغرائب أن يوجد رجل عربي يحب أمته
ويعمل لها بإخلاص يزيد في غرور هذا الرجل وتجرئته على المضي في سياسته
العربية , بعد أن صرح في جريدته (القبلة) تصريحًا رسميًّا بأنها قائمة على
أساس عداوته لجميع أمراء الجزيرة أصحاب القوة والبأس فيها، مع العلم بأنه
أضعف من كل واحد منهم، وأنه لا اتكال له وله اعتماد في هذه العداوة إلا على
قوة الأجنبي الطامع في استذلال جميع العرب والسيطرة على جميع بلادهم، وأنه
لا وسيلة لهذا الأجنبي إلى غرضه إلا هذا الشقاق الذي يعتمد فيه على هذا الملك
وأولاده، ولذلك جعل واحدًا منهم ملكًا في العراق؛ ليقنع أهله بعقد محالفة
العبودية والاسترقاق لأهله، والتصرف في أرضه. ويطمع الآخرون أن يصيروا
ملوكًا في سورية وفلسطين واليمن ونجد تحت ظل هذا الأجنبي وحمايته، وهذا ما
يبغونه من الوحدة العربية.
أمثل هذا يعطى لقب الخلافة ليتخذه آلة للدعاية المروجة لهذه السياسة؟ أبمثل
هذا تتحد الأمة العربية , وتستعيد مجد الخلافة وتعيد بها مجد العرب؟ ألا إن الأمة
العربية لم تصب بمصيبة أشد ضررًا وأعظم خطرًا من هذا الرجل وأولاده، وإنه
لا أحد من أشياعهم أجدر باللوم على مبايعته وموالاته من إخواننا الفلسطينيين
والسوريين الذين كنت أجل كثيرًا من أذكيائهم وأولي الخبرة والاطلاع منهم أن
يظلوا منقادين بالدعاية الكاذبة الخاطئة إلى هؤلاء الأفراد، بعد أن افتضح أمرهم
فعرفه كل حاضر وباد، ولم أر أحدًا منهم استطاع أن يدافع عنهم بكلمة حق، وكان
يجب على من يظنون منهم أنه يمكن استصلاحهم والانتفاع منهم - وقد خاطبنا
بعضهم بذلك قولاً وكتابة - أن يحتفظوا بمبايعة كبيرهم بالخلافة - التي هي منتهى
أمانيه وأول ما خاطب به أولياءه الإنكليز قبل الاتفاق معهم -؛ ليمهدوا لها بنظام
معقول وضمان يوثق به. فماذا أبقوا بأيديهم، بعد أن أعطوه حق الولاية الشرعية
عليهم، إن كانوا يعدون بيعتهم له صحيحة؟ وسيبث هو الدعاية بأنه لا معنى لها
إلا وجوب طاعته في كل مستطاع يأمر به بلا شرط ولا قيد ولا نظام ولا قانون،
إنا لله وإنا إليه راجعون.
(الوجه الثامن) حرصه على السلطة وتهالكه على لقب خليفة وملك؛ حتى
إنه اعتمد فيه على موالاة دولة غير مسلمة , كما ثبت من المكاتبات الرسمية بينه
وبينها التي انتهت بقبوله لحمايتها , كما أشرنا إليه في هذه الفتوى وفصلناه بالوثائق
الرسمية في عدة أجزاء من المنار.
وما كان يدعيه من التعفف وعدم الرغبة في الخلافة يوجد في قوله وفعله
ومنشوراته وأقواله المطبوعة في جريدته ما يناقضه أو يعارضه. وذلك شأنه في
جميع أقواله وأعماله كالوحدة العربية وغيرها: صرح بأن الخلافة قد ماتت،
وصرح بأنه لا يقبل أن يبايع بها إلا إذا أجمع المسلمون على اختياره لها، وكان
يسعى لها هو وأولاده قبل ذلك وفي أثنائه! ثم قبل المبايعة من بعض أهل فلسطين
وشرقي الأردن وسورية المستعبدين للأجانب بشؤم نهضته، وقد كان أهل هذه
البلاد بايعوه في عهد وجود ولده فيصل في سورية، وصرح أهل مكة في مبايعته
بأنهم قد كانوا بايعوه من قبل وهم يبايعونه الآن تجديدًا وتوكيدًا. وقد نشرت هذا
المعنى جريدته (القبلة) ، فأين الإجماع من المسلمين وما ثم شيء جديد؟!
وأما الدليل على أن طالب الولاية والحريص عليها لا يولى؛ فأحاديث، منها
قوله صلى الله عليه وسلم لرجلين طلبا منه أن يؤمرهما: (إنَّا والله لا نوَلِّي على هذا
العمل أحدًا سأله ولا أحدًا حرص عليه) رواه الشيخان في الصحيحين واللفظ
لمسلم، وفي رواية للإمام أحمد (إنَّ أَخْوَنَكُم عِندنا مَنْ يطلُبه) وقد ورد أنه صلى
الله عليه وسلم لم يستعن بأحد من الرجلين حتى مات. وحكمة ذلك ومدركه
أن حب الملك والرياسة هو أكبر أسباب الفتن التي سفكت فيها الدماء أنهارًا ,
ومزقت الأمة شر ممزق , وأفسدت عليها أمر دينها ودنياها أممًا وشعوبًا متعادية،
والله يقول: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} (الأنبياء: ٩٢) وهي
التي أخضعت أمثال هؤلاء الأمراء للأجانب في الأجيال الأخيرة , وكانوا أولياءً
وأنصارًا لهم على سلب سيادة الإسلام عن بلادهم وغير بلادهم. وقد آن للمسلمين
أن يقيموا شرعهم باختيار أهل الحل والعقد لأئمتهم بنظام تضمن فيه حريتهم
وحرية الأمة، وتلتزم فيه أحكام الشرع وحكمه، وإن لم يكن تنفيذه إلا بعد زمن
طويل، وهذا أهم ما يطلب من المؤتمر الإسلامي المقترح.
٣- أهل الحل والعقد
وأما الجواب عن السؤال الثالث وهو تعريف أهل الحل والعقد في هذا العصر
إلخ فنجيب عنه بما يتعلق بالمقام فنقول: إن من عرف المراد من كلمتي الحل
والعقد في اللغة يعرف أهلهما، وكذلك كلمة الأمر. الحل والعقد عبارة عن
التصرف في الأمور العامة. والأمر هو الشأن، والمراد به شأن الأمة العام من
سياستها وإدارة مصالحها ونظام أحكامها، ويؤخذ هذا من تعريف الكلمة بالألف
واللام، وهو المراد من قوله تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} (آل عمران:
١٥٩) وقوله: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} (الشورى: ٣٨) وقوله: {وَلَوْ رَدُّوهُ
إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُم} (النساء: ٨٣)
والضمير في قوله: (ردوه) يرجع إلى أمر الأمن والخوف وخاصة في حال
الحرب، فأولو الأمر هم أصحاب الرأي والمكانة الذين تثق بهم الأمة وتعول على
تدبيرهم وتتبعهم فيه. وكانوا موجودين مع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم , وكان
يستشيرهم في كل شيء ليس فيه وحي من الله تعالى , ويعمل برأي من اتضح له
صواب رأيه منهم، كما عمل برأي الحباب بن المنذر في غزوة بدر لما راجعه في
المكان الذي أمر صلى الله عليه وسلم بنزولهم فيه - ويعمل برأي الأكثرين وإن لم
يره صوابًا , كما وقع في مسألة الخروج من المدينة في غزوة بدر وكان مخالفًا لرأيه
ورأي بعض كبراء الصحابة: كأبي بكر - رضي الله عنه - ولكن الاستشارة
في أحد كانت للأمة لا للزعماء المعبر عنهم بأولي الأمر وأهل الحل والعقد فقط.
والأمة هي الصاحبة الشأن والسلطة في أمرها العام بنص آية الشورى ,
ولما كان من المتعذر أن يقوم جميع أفرادها أو أكثرهم بالأمور العامة من
حربية وسياسية وقضائية وإدارية , كان المشروع المعقول أن ينوب عنها من
يكونون محل ثقتها من الأفراد الممتازين فيها بالعلم والتجارب والاستقامة , فيكونوا
هم أرباب الحل والعقد فيها الذين يختارون لها الرئيس (الخليفة أو الإمام) المنفذ
لشريعتها , ويؤيدونه بالرأي والعمل؛ فيكون منهم أهل الشورى له والوزراء والقواد
والقضاة وغيرهم. وقد بينا ذلك بالتفصيل في المبحث الثالث: (مَن ينصب الإمام
ويعزله؟) ، والمبحث الرابع: (سلطة الأمة ومعنى الجماعة) ، والمبحث
الخامس: (شروط أهل الاختيار للخليفة) من كتابنا (الخلافة أو الإمامة
العظمى) ، ثم عقدنا المبحث التاسع عشر (وطبع ١٧ غلطًا) لأهل الحل والعقد في
هذا الزمان، وما يجب عليهم في أمر الأمة والإمام. وقد صرحنا فيه بأن أهل الحل
والعقد قلما يوجدون في غير الأمم الحرة إلا أفرادًا , يكون لهم هذا الوصف بالقوة لا
بالفعل.
والقول الفصل في النازلة التي هي موضوع الفتوى , والشغل الشاغل لأكثر
المسلمين اليوم هو أن أهل الحل والعقد بالفعل في العالم الإسلامي الآن هم رؤساء
الحكومات الإسلامية المستقلة , وأركان دولتهم وأصحاب الزعامة الذين يوجدون في
بعضها دون بعض، وتوجد الشروط الشرعية في بعضهم دون بعض، وهم على ما
هم إذا بايعوا رجلاً بالخلافة، وعاهدوه على السمع والطاعة، وكان مستجمعًا
للشروط الشرعية المجمع عليها عند أهل السنة والجماعة؛ صار هو الإمام الحق
الذي تجب طاعته على كل مسلم في الحق والمعروف. وإن لم يكن كذلك؛ وجبت
طاعته على البلاد التي بايعه أولو الأمر والحل والعقد فيها دون غيرهم.
في مصر الملك فؤاد ووزراؤه وكبار العلماء , وأعضاء مجلسي النواب
والشيوخ , وفي الأفغان الأمير أمان الله خان وأركان دولته، وفي الترك أعضاء
المجلس الوطني الكبير، وفي جزيرة العرب أمراؤها وأئمتها المعروفون: إمام
اليمن، وسلطان نجد، وملك الحجاز، وأمير تهامة. ولدى كل من هؤلاء زعماء
وعلماء إذا لم يوافقوه على البيعة لا تنفذ الأحكام في بلادهم؛ فهم من أهل الحل والعقد
فيها، إلا ملك الحجاز فهو المستبد المطلق الذي ليس لأحد من مدن بلاده معه
أمر ولا رأي. وأما القبائل فأهل الحل والعقد فيهم شيوخهم , وأكثرهم غير
خاضعين له.
٤- إمام المسلمين الذي تجب معرفته اليوم
وأما السؤال الرابع وهو تعيين الإمام الذي يجب أن يعرفه كل مسلم مؤقتًا إلخ
فنقول في جوابه:
- أولاً - إن السؤال يشعر بأن السائل يعتقد أنه لا بد من وجود إمام للمسلمين
بالفعل في كل وقت تجب عليهم معرفته والاعتراف بإمامته , وإن لم يكن له فيهم
أمر ولا نهي إلى أن يقوموا بنصب الإمام الحق , باختيار المؤتمر الإسلامي العام
الذي يجب اتباعه على جميع المسلمين , وفي هذا مباحث لا تتسع لبسطها هذه
الفتوى. منها: هل يجوز خلو الأرض من إمام يقيم الحق والعدل في جماعة من
المسلمين؟ في الأحاديث الصحيحة أنه لا تزال طائفة من هذه الأمة ظاهرين على
الحق يقاتلون عليه لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله. والظاهر أنهم الإمام
وجماعته، وقيل: إن المعنى أعم مما ذكر. وحديث الصحيحين (لا يزال هذا
الأمر في قريش ما بقي من الناس اثنان) وهذا لفظ مسلم - يدل على ذلك إن عُدَّ
خبرًا. والأظهر أنه إنشاء حكم؛ أي: يجب ذلك.
وفي الصحيحين من حديث حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه - قال: (كان
الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر
مخافة أن يدركني فقلت: يا رسول الله إنا كنا في جاهلية وشر فجاءنا الله بهذا الخير
فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: (نعم) قلت: وهل بعد ذلك الشر من خير؟
قال: (نعم وفيه دخن) قلت: وما دخنه؟ قال: (قوم يهدون بغير هديي تعرف منهم
وتنكر) قلت: فهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: (نعم دُعاة على أبواب جهنم مَن
أجابهم إليها قذفوه فيها) ، قلت: يا رسول الله صِفهم لنا. قال: (هم من جلدتنا،
ويتكلمون بألسنتنا) . قلت: يا رسول الله فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال:
(تلزم جماعة المسلمين وإمامهم) . قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال:
(فاعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت
على ذلك) [١] وهذا محل الشاهد، واللفظ للبخاري في كتاب الفتن من صحيحه،
وهو يدل على جواز خلو الأرض من الإمام والجماعة، إلا أن يقال: إنه ذكر على
سبيل الفرض والاحتمال العقلي.
أما الشر الأول في هذا الحديث فهو الفتن التي تجمعت في خلافة عثمان
واشتدت في خلافة علي , وأما الخير الذي بعده فهو الرجوع إلى السنة والجماعة ,
ونبذ البدع في خلافة عمر بن عبد العزيز ومن بعده من الأمويين والعباسيين ما كان
المسلمون على إمام واحد. والدخن الذي في هذا العهد ما دخل على بعض الخلفاء من
الفسق وعلى بعضهم البدع الاجتهادية، فكان منهم ما يعرفه الشرع وما ينكره. وأما
الدعاة على أبواب جهنم، فهم الذين فرقوا الكلمة وتعمدوا صدع وحدة الأمة والإمامة
بتعدد السلطة، اتباعًا لعصبيات المذاهب والأجناس، فكان منهم القرامطة وغيرهم
من الباطنية (الزنادقة) الذين يدعون إلى الإيمان بالأئمة المعصومين، ويؤولون
النصوص القطعية حتى في أركان الإسلام وأصول الدين، ومنهم المبتدعة فيما
دون الكفر، ووصفه صلى الله عليه وسلم إياهم بقوله: ( ... من جلدتنا ويتكلمون
بألسنتنا) قيل: معناه من العرب. وقيل: من بني آدم. ويؤيده جمع الألسنة،
وليس للعرب إلا لسان واحد، وهو صريح أو كالصريح في عصبية الأجناس
اللغوية التي سنها الفرس وتبعهم فيها الترك وغيرهم.
- وثانيًا - مذهب أهل السنة والجماعة في الإمامة أنها من أمور الإسلام
العملية لا الاعتقادية , فليس الواجب على كل مسلم في كل زمن أن يعتقد بوجود
إمام وأن يعرفه بالعيان أو بالوصف والاسم , حتى يخرج من الإثم؛ لأنه اعتقاد
مطلوب لذاته , وإنما يجب على المسلمين في جملتهم أن ينصبوا لهم إمامًا يكون
رئيسًا لأولي الأمر وأهل الحل والعقد في إقامة أمور دينهم , ونظام حكومتهم وحفظ
بيضتهم. فإن تعدد الحكام في المسلمين، ووجد الإمام الحق والجماعة أولو الأمر
وجب على المسلم أن يعتزل سائر الفرق وحكوماتها، ويلزم الإمام والجماعة ولو
بالهجرة إليهم. فإن تعددوا وجب الوفاء للأول وقتل من يبايع بعده، كما أمر النبي
صلى الله عليه وسلم وقيدوه بما إذا لم يندفع إلا بالقتل. وفي صحيح مسلم من
حديث أبي هريرة مرفوعًا: (كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء كلما هلك نبيُّ
خلفه نبي، وإنه لا نبي بعدي، وستكون خلفاء فتكثر) قالوا: فما تأمرنا؟ قال: (فوا ببيعة الأول فالأول) الحديث , وإن لم يوجد فيهم الإمام الحق والجماعة الذين
يقيمون الحق والعدل بشرع الله , وجب على الفرد اعتزالهم جميعهم إن استطاع، وإلا
أطاع المتغلب على بلاده في غير معصية الله. وعلى مجموع الأمة أن يسعوا
لإيجاده وإلا كانوا آثمين , والمطالب بذلك أهل الحل والعقد منهم، فإن فقدوا وجب
على سواد الأمة السعي لإيجادهم، ويحصل ذلك بوضع نظام كنظام الأحزاب
والجمعيات في هذا العصر؛ يختارون بها زعماء من أمثل أهل العلم والرأي
والاستقامة , ويعضدونهم بشروط يحصل بها المقصود.
- وثالثًا - إذا كان غرض السائل أن يعلم هل يوجد إمام للمسلمين في أي
بقعة من بقاع الأرض؟ ليطمئن قلبه بأن الأمة الإسلامية كلها غير آثمة كلها، وإن
لم يعترف غير أهل بلاده بإمامته - فقد علم أن في اليمن إمامًا، وقد ذكرنا في كتاب
الخلافة أن في نجد إمامًا حنبليًّا، وفي تهامة إمامًا شافعيًّا، وكل من الثلاثة مبايع
قبل حسين الذي في مكة، ولكنه هو أبرع وأحذق منهم في بث الدعاية لنفسه ,
ومقامه في مكة المكرمة يساعده على ذلك، فهو يجتهد في تكثير أفراد مبايعيه من
الحجاج وغيرهم , وينشر ذلك في جريدته (القبلة) وربما يعبر فيها عن مبايعة
فرد أو أفراد من عامة السوقة في بلدة بمبايعة البلدة أو القطر التي هي فيه،
وهذا ضرب من ضروب اللذة والجاه , وهو ما أنشأ جريدة (القبلة) إلا لأجل إطراء
نفسه فيها ووصفه بملك العرب ومنقذهم وإمام المسلمين وخليفتهم. وأكثر ما
ينشر فيها من ذلك فهو الذي يكتبه أو يأمر بكتابته، فخلافته للمسلمين كملكه
للعرب سيظلان حيث هما من الحجاز وجريدة (القبلة) , إلى أن يقوم العرب
مع الرأي الإسلامي العام، بما يجب عليهم لمهد الإسلام، وبلد الله الحرام، وعسى أن
يكون قريبًا.