كل من قرأ الجزء الأول من تاريخ الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده، تأليف المرحوم السيد محمد رشيد رضا ووصل إلى صفحة ٧٩١ لابد أن يكون اطلع على النبذة الآتية تحت عنوان (إحالة الأستاذ محمد عبده بعض المستفتين على مريده المؤلف) قال - رحمه الله -: (وأذكر من الأحياء المعروفين محمد لطفي جمعة كان كتب إلى الأستاذ الإمام وهو تلميذ في المدرسة الثانوية مكتوبات، وأنه حضر ولقي الأستاذ وأراد البحث معه في المسائل التي كانت تشغل باله وهو طالب ثانوي، وقد وجدت كتابين للطفي جمعة رأيت أن أنشرهما لما فيهما من الدلالة على بحثه في زمن التعليم في مسائل فلسفية وعلاقتها بالدين، ومعرفته بمكانة الأستاذ وفضله وإلهامه والرجوع إليه فيما يهم، ووصفه التعليم في المدارس الثانوية، وقد قابلته ولا أذكر ما دار بيننا بالتفصيل) وبرجوعي إلى الكتابين المذكورين رأيت تاريخهما ٢٤ فبراير سنة ١٩٠٤، وإذن تكون علاقتي بالمفتى الإمام وتلميذه الرشيد ترجع إلى ٣٢ سنة، وفي الخطابين تصوير لخواطري في عهد الدراسة الثانوية، وفيهما بحث في الله والمادة والكون وخواطر في النفس البشرية وخلق آدم وحواء.. إلخ. وإذن وجب علي بوصفي من أسبق الأحياء إلى معرفته أن أفيه حقه من التأبين، وقد وقع حظي على موضوع علاقة المرحوم السيد رشيد بالمستشرقين وهو بحث غريب طريف؛ لأن السيد لم تكن له علاقة حقيقية بأحد من علماء المشرقيات إلا فيما يتعلق ببحثه أحيانًا نادرة في آرائهم، وكان يقر بعضًا منهم على النتائج الباهرة التي وصلوا إليها ولا سيما جولد زيهر في كتابته على السنة المحمدية، وأقول إن دراستي لمؤلفات معظم المستشرقين الذين كتبوا عن الإسلام والتقائي ببعضهم في أوربا ومصر جعلتني أكوِّن عقيدة ثابتة في أن الذين بحثوا في الإسلام منهم أثناء القرون الوسطى أمثال أديسون وباكون كانت تتأجج في صدورهم نيران الحقد أو الكراهية، واستمرت هذه النار في صدور بعض الذين بحثوا منهم في جانب كبير من أعوام العصر الحاضر وهم أهل تعصب وحقد على الإسلام، ثم استجد عهد ادعى فيه بعض المستشرقين التزام الحياد، وفيما كتبوه وقالوا إنهم خالو الغرض وبريئون من سوء النية ولم يعودوا يوجهون إلى الإسلام ونبيه شيئًا من الذي أثبته أسلافهم في كتبهم الخاطئة. وينبغي أن أقول إن المستشرقين الحسني النية أدوا أعظم خدمة للإسلام وألقوا بمؤلفاتهم وجهودهم أضواء جديدة على أصول الدين الإسلامي الذي قلب العالم رأسًا على عقب، وفي مقدمة هؤلاء نولدكه وسنوك هيرجرونيه وهما هولنديان ونيكولسون وإدوارد براون الإنجليزيان وجولد زيهر النمسوي وليون كايمي الإيطالي ورينان ودي سلمى الفرنسيان. أما الآخرون الذين لم يتوفر فيهم النية الحسنة ولا الغيرة الصادقة الواجبة على كل باحث علمي، فقد أتاح الله أقلامهم لنشر فضائل الإسلام على الرغم منهم وفي مقدمة هؤلاء مرغليوث الذي لطخ وجه العلم والتاريخ والأدب بكتابه في حياة النبي لما حشره فيه من الأكاذيب والباطل، ويسرني أن أذكر أن بعض المستشرقين أمثال هوبروسيرنجر وكايتاني قد سلكوا في النقد العلمي طرقًا تختلف جد الاختلاف عن طرق البحث عند علماء المسلمين فوصلوا إلى التسليم بصدق محمد وخلوص نيته، وإلى التأكيد بصحة استعداده للوحي فعمدوا إلى تفسير خفاياه ولكنهم عجزوا. أما المتأخرون من المستشرقين، فقد استخلصوا أصول العقيدة الإسلامية وبحثوا أطوار نشوئها وترقيها، وقالوا بأن بعض ما يعتقد المسلمون أنه منزل من الله لم يكن غير نتيجة تطور بطيء أو تفسير لمسائل غامضة لم تكن واضحة في فجر الإسلام، ونزعوا عن صورة النبي جميع ما أضيف إليها من الأساطير، والروايات التي بدلت حقيقتها أو شوهتها. ثم تناولوا بالنقد الدقيق أقوال النبي وأعماله وحركاته وسكناته، ووضعوا حدًّا فاصلاً بين ما أوحي إليه - وهو ثمرة الإلهام - وبين ما وصفوه بالمدارك التي نشأت في عقله على إثر اتصاله بالحياة اليومية، وبعد أن استن السنن واشترع القوانين ووضع القواعد لتسيير الدولة الضخمة التي أنشأها. فعلوا ذلك، وهم يظنون أنهم يفصلون العنصر الإلهي بمعناه الواسع عن العنصر الإنساني فقصروا العنصر الإلهي على أعمال لا تحتمل الشك ولا الجدل في نظرهم ورَدّ العنصر الإنساني إلى أعمال الدولة وفي أثناء حياة المرحوم الإستاذ الإمام كتب جبرييل هانوتو مقالاً في جريدة جورنال عن الإسلام فرد عليه المفتي ردًّا مفحمًا ألزمه الحجة وأرغمه على الاعتذار والتقلب في اعتذاره كالأفعى، ثم نقل الأستاذ فرح أنطون نبذًا من تاريخ ابن رشد من كتاب أرنست رينان ونسب فيها إلى الإسلام أنه ضيق الفطن حيال الفلسفة وأن غيره من الأديان أوسع صدرًا للحكمة، فانبرى الشيخ محمد عبده للرد على رينان بأدلة تاريخية، وبراهين محسوسة حتى أزال أثر ما نسب إلى رينان ومعظمه راجع إلى أخطاء في الترجمة وقع فيها الناقل بحكم العجلة وقلة الخبرة. ومن غرائب المصادفات أن السيد رشيد وفرح كانا من بلد واحد وصلا إلى مصر في يوم واحد. أما الموقعة الكبرى بين المرحوم السيد رشيد رضا المستشرقين فهي رده عليهم في درسهم للسيرة المحمدية وتفسير الوحي، وهو يسلم بأن علماء الإفرنج درسوا تاريخ العرب قبل الإسلام وبعده على طريقتهم في النقد والتحليل، ودرسوا السيرة النبوية المحمدية وفلوها فليًا ونقشوها بالمناقيش وقرءوا القرآن بلغته وقرءوا ما ترجمه به أقوامهم، وكانوا على علم محيط بكتب العهدين القديم والجديد وتاريخ الأديان - ولا سيما الديانتين اليهودية والنصرانية - وبما كتبه المتعصبون للكنيسة من الافتراء على الإسلام والنبي والقرآن، فخرجوا من هذه الدروس كلها بالنتيجة الآتية: إن محمدًا كان سليم الفطرة، كامل العقل، كريم الخلق، صادق الحديث، عفيف النفس، قنوعًا بالقليل من الرزق، غير طموع بالمال ولا جنوح إلى الملك، ولم يعن بما كان يعنى به قومه من الفخر والمباراة في تحبير الخطب وقرض الشعر، وكان يمقت ما كانوا عليه من الشرك وخرافات الوثنية، ويحتقر ما يتنافسون فيه من الشهوات كالخمر والميسر وأكل المال بالباطل، وبهذا كله وبما ثبت بعد النبوة جزموا بأنه كان صادقًا فيما ادعاه بعد استكمال الأربعين من عمره من رؤية ملك الوحي وإقرائه القرآن وإنبائه بأنه رسول من الله لهداية قومه فسائر الناس. أما المستشرقون الماديون فرأيهم أن الوحي إلهام يفيض من نفس النبي الموحى إليه لا من الخارج، وليس فيه شيء جاء من عالم الغيب الذي وراء عالم المادة والطبيعة الذي يعرفه جميع الناس، فإن هذا شيء لم يثبت عندهم وجوده، وهذا التصوير الظاهر للوحي قد سرت شبهته في كثير من المسلمين المرتابين الذين يقلدون الماديين. وقد أخذ المرحوم السيد رشيد على عاتقه الرد على هؤلاء الماديين في الصفحة ٧٨٨ من المجلد السادس من المنار سنة ١٣٢١، أي منذ أربع وثلاثين سنة، فردَّ على من شبهوا النبي محمدًا بالآنسة الريفية الجميلة جان دارك راعية الغنم بأنها لم تقم بدعوة إلى دين أو مذهب، وأنها كانت مصابة بنوبة عصبية قصيرة الزمن معروفة السبب وهو بغضها لأعداء وطنها الإنجليز وتعيينها قائدة لجيش ملكها وهجومها بعشرة آلاف جندي ضباطهم ملكيون على عسكر الإنجليز الذين كانوا يحاصرون أورليان فدفعتهم عنها حتى رفعوا الحصار في مدة أسبوع وذلك سنة ١٤٢٩، ثم زالت خيالاتها الحماسية فهوجمت في السنة التالية ١٤٣٠ فانكسرت وجرحت وأسرت وحوكمت وأحرقها رجال الكنيسة الذين قدسوها بعد ذلك بخمسمائة سنة بالتمام، فصارت سنة ١٩٣٠ القديسة جان دارك. قال السيد جمال الدين الأفغاني لبعض مجادلي النصرانية: إنكم فصلتم قميصًا من رقاع العهد القديم وألبستموه للمسيح، عليه السلام. وقال رشيد رضا للمستشرقين الماديين: إنكم فصلتم قميصًا آخر مما فهمتم من تاريخ الإسلام لا من نصوصه وحاولتم خلعه على محمد. وألف السيد رشيد كتاب الوحي المحمدي ليرد على موتيه ودرمنجهم وأضرابهما فنفى أسطورة اجتماع النبي ببحيرا الراهب في مدينة بصرى بالشام الذي قيل إنه علَّم النبي. وأثبت بأن محمدًا لما خرج إلى الشام مع عمه كان عمره تسع سنين، وكل ما جاء فيها ضعيف الأسانيد إلا رواية الترمذي. وهذه ليس فيها اسم بحيرا وفيها غلط في المتن، وليس في شيء منها أن النبي سمع من بحيرا شيئًا من عقيدته أو دينه. وتناول مسألة ورقة بن نوفل أحد أقارب خديجة وحاول بعضهم إيهام القراء أن محمدًا أخذ عنه شيئًا من علم أهل الكتاب، والحقيقة أن ورقة كان عند بدء الوحي أعمى ولم ينشب أن مات، وتناول المرحوم هذه النقطة في تفسير آية: {الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ} (الأعراف: ١٥٧) وإسلام سلمان الفارسي وغيره. ولكن نار العقيدة ونورها تشتعل وتضيء في صدر المرحوم عندما يرد على المستشرق الذي قال: إن محمدًا كان يجد في التحنث طمأنينة لنفسه فكان ينقطع كل رمضان طوال الشهر في غار حراء بجبل أبي قبيس. وهذه النجوم في ليالي الصيف في صحراء كثيرة البريق حتى ليحسب الإنسان أنه يسمع بصيص ضوئها وكأنه نغم نار موقدة. ومحمد في ريب من حكمة الناس ويريد أن يعرف الحق الخالص. قال جولد زيهر في كتاب (السنة المحمدية) المكتوب باللغة الألمانية والمترجم إلى معظم لغات أوروبا: ليس الإسلام سبب انحطاط الشعوب المتمسكة به، ولكن سبب انحطاطها ضعف عقولهم وأخلاقهم وخطأهم في فهم أحكام دينهم، فقد أخطأ المسلم في فهم معنى التوكل والقدر فوكَّل الأمور إلى الحوادث، وأخطأ علماؤهم في فهم ما جاء من أنهم خير أمة أخرجت للناس فظنوا الخير مقرونًا باسم الإسلام ولفظه لا بروحه ومعناه، وفي هذا مخالفة صريحة لأوامر الدين وأمثلة السنة المحمدية المفادة من أقوال النبي وأعماله. وكذلك أخطأ المسلم في فهم معنى الطاعة لأولي الأمر والانقياد لهم فسلم جميع أموره للحكام وتركهم يتصرفون في أموره، وظن أن الحكومة يمكنها القيام بجميع شؤونه بدون معاونته أو اشتراكه. وهذه العيوب وغيرها راجعة إلى طبائع الشعوب التي تدين بالإسلام وما ورثته من الأجيال الوثنية السابقة، وقد مرت بها اليهودية أو المسيحية وتركت بعض آثار فيها. وبالجملة فالأمة المنتسبة للإسلام وتكون منحطة أو مغلوبة ليست أمة مسلمة إلا لفظًا، وهي في الغالب وثنية تلبس ثوب الإسلام؛ لأن بحوثنا المستفيضة أثبتت لنا أن الإسلام يرفع شأن المنتسبين إليه ولا يمكن أن يخفضهم، بل تخفضهم أخلاقهم وعقولهم. كل مطلع على آداب الإفرنج يعلم أن علماء المشرقيات عنوا بغرس دوحة يانعة للعلوم العربية فلما أينعت استثمرها النابهون منهم أمثال: ديجوجيه، وجرِيمِه، ونولدكِه، وساسي، ورينان، وكايتاني، ونيكلسون وبراون وجلودزيهر ووينهاوزن وقد شادوا للعلوم الشرقية والآداب العربية مجدًا لا يدانيه في مجال التأليف إلا جلال مباحثهم، هؤلاء كلهم علماء انطوت مواهبهم العقلية على حذق النقاد ودقتهم، وقد أطاف كل منهم سجية تطيعه حول جميع الأمور من عال ودون حتى كشف لنفسه منها مبدأ. واتفق نولدكه، وليون كايتاني، ودى جوجيه، وويلهاوزن، وجولدزيهز ونيكلسون على صحة سيرة رسول الله التي ألفها ابن إسحق ورواها ابن هشام، ولم يكن هذا التصديق اعتباطًا إنما نتيجة بحث واستنباط واستقراء، وقد ظهر لهم أن ابن إسحق المتوفى في منتصف القرن الثاني كان ثبتًا في الحديث والمغازي، ودرس على أعظم العلماء المعروفين في زمنه، وألف سيرته واتبع فيها طريقة الأسانيد. وقد رأينا كتابًا خاصًّا بأخبار الرجال الذين روى عنهم ابن إسحق مطبوعًا في هولندا سنة ١٨٩٠، أما السيرة ذاتها فقد طبعت في أوربا سنة ١٨٦٠ وترجمت إلى بعض اللغات الأوروبية، وابن هشام الذي روى عن ابن إسحق كان مشهورًا بعلم النسب والنحو وتوفي في مصر في أوائل القرن الثالث. إن فريقًا مهمًّا من المستشرقين يستعملون علمهم وأدبهم لأغراض سياسية في الممالك الإسلامية والشرقية، فهم يتقنون اللغات ويندسون بين ظهرانيهم ويقفون على أخلاقهم وعاداتهم ونظمهم وأسرار دولهم، فمن هؤلاء: هيرجرونجيه الذي أقام في مكة وفي جاوة مسلمًا، وجورج سيل أقام في مصر ومكة مسلمًا، وشارل بيرتون حج وألف في كُتاب العرب وشعائر الإسلام كتابًا، ولين مؤلف كتاب (المصريون المحدثون) . وكانت الحاجة إلى هؤلاء الناس ماسة وأعمالهم لأوطانهم مثمرة عندما كان أهل هذه البلاد الشرقية والإسلامية متمسكين بآدابهم حريصين على حياتهم القومية. أما الآن فقد أصبح كل شيء معروفًا ومعلومًا ومباحًا، بل أصبح المسلم في هذه الأيام حجة لغيره من أهل الأديان والملل الأخرى وفتنة له يضل بها عما أقام الحق من أعلامه، فإذا قيل إن الإسلام خير الأديان بل هو دين الله جاء في أكمل صورة ببعثة خاتم النبيين وأيدنا هذا القول بألف دليل، رأينا علة واحدة تهدم كل ما بني من الأدلة وهي (لو كان الإسلام دينًا صحيحًا ما وجدنا أهله المستمسكين به في زعمهم على ما نرى من فساد الأخلاق وسقوط الهمم وضلال العقول) حتى أصبحنا فتنة لغيرنا. فلما كانت سنة ٦١٠ كانت الحال النفسية التي يعانيها محمد على أشدها فأبهظت عاتقه العقيدة بأن أمرًا جوهريًّا ينقصه وينقص قومه. ونسي النهار والليل والحلم واليقظة وقضى ستة أشهر في هذه الحالة ثم جاءه الملك! ! (وقد حنق المرحوم السيد رشيد على هذا التصوير لبداية الرسالة فقال: إن هذا المستشرق أرخى لخياله العنان ونزع من جواده اللجام، ونخسه بالمهماز فعدا به سبحًا، وجمح به جمحًا، وقدحت حوافره له قدحًا وأثارت له نقعًا، وأذن لشاعريته أن تصف محمدًا عند الغار بما تحدثه في نفسه مشاهد نجوم الليل، وكل ما كتبه أوجلَّه غير صحيح) وتصل حمية المرحوم وحماسته عندما يكتب: (فمن أين علم هذا الأفرنسي أن محمدًا نسي الليل والنهار، والحلم واليقظة، وأنه كان يقضي الساعات الطوال جاثيًا في الغار أو مستلقيًا في الشمس، وأنه قضى ستة أشهر في هذا الحال، قد افترى في الأخبار ليستنبط منها أنه صار - صلوات الله عليه - مغلوبًا على عقله، غائبًا عن حسه، وإننا ننقل هنا أصح الأخبار في خبر تحنثه في الغار الليالي ذوات العدد من شهر رمضان في تلك السنة لا فيما قبلها لتفنيد مفترياته وللاستغناء بها عما نقله من الخلط في صفة الوحي) . وخلاصة رأي الشيخ رشيد في الوحي، وهو أهم مسألة عالجها في حياته حتى جعلها آخر ما ألف ونشر، قال: إن استعداد محمد للنبوة والرسالة عبارة عن جعل الله روحه الكريمة كمرآة صقيلة حيل بينها وبين كل ما في العالم من التقاليد الدينية والآداب الوراثية والعادات المكتسبة إلى أن تجلى فيها الوحي الإلهي بأكمل معانيه، وأبلغ مبانيه لتجديد دين الله المطلق، الذي كان يرسل به رسله إلى أقوامهم خاصة بما يناسب حالهم واستعدادهم، وجعل بعثة خاتم النبيين به للبشر عامة دائمة لا يحتاجون بعدها إلى وحي آخر، فكان في فطرته السليمة وروحه الشريفة، وما نزل عليها من المعارف العالية، وما أشرق فيها من نور الله الذي تلوته عليك من آخر سورة الشورى هو مضرب المثل في قوله - تعالى - في سورة النور: {اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ} (النور: ٣٥) . فزيت مصباح المعارف المحمدية يوقد من زيتونة لا شرقية ولا غربية، ولا يهودية ولا نصرانية، بل هي الهبة العلوية.