المقالة الثانية في قياس التمثيل ذكرت فيما سلف أني أريد بقياس التمثيل إلحاق نوع من الكلم بنوع آخر في حكم، وهو ما يعنيه بعض النحاة في قولهم: إن اللغة لا تثبت بالقياس. يأخذ النحاة بقياس التمثيل لإثبات أصل الحكم، وكثيرًا ما يرجعون إليه في تأييد المذهب بعد بنائه على السماع، وهذا أبو حيان الذي هو أشد النحاة وقوفًا عند حد السماع وأسرعهم إلى محاربة من يعول على هذا الفن من القياس - قد ينظر إليه في بعض الأحيان، كما قال: إن الناصب لـ (إذا) فِعل شرطها؛ قياسًا على سائر أدوات الشرط، وقال في سياق الكلام على الجملة المنفية حين تقع حالاً: والمنفية بـ (أن) ، لا أحفظه من كلام العرب، والقياس يقتضي جوابًا نحو: جاء زيد إن يدري كيف الطريق، قياسًا على وقوعه خبرًا في حديث: (فظل إن يدري كم صلى) . ويدور البحث في هذا المطلب على تحقيق المقتضي للقياس ثم شروط صحته. المقتضي للقياس يقيس النحاة بعض أنواع الكلم على بعض إذا انعقد بينهما شبه في المعنى أو في اللفظ أو في العمل أو اشتراكًا في العلة التي يقع في ظنهم أن الحكم قائم عليها. والعلل التي يقول الباحثون في العربية أن العرب راعتها وبنت عليها إحكام ألفاظها ترجع إلى قسمين: (أحدهما) ما يقرب مأخذه ويتلقاه النظر بالقبول كما وجهوا تحريك بعض الحروف الساكنة بالتخلص من التقاء الساكنين وعللوا حذف أحد الحرفين المتماثلين بطلب الخفة. (ثانيهما) ما يكون من قبيل الفرضيات التي لا تستطيع أن تردها على قائلها كما أنك لا تضعها بمحل العلم أو الظن القريب منه، وهذا كما قالوا في وجه بناء (قبل وبعد) إذا قُطِعا عن الإضافة لفظًا (أنها شابهت الحرف في احتياجها إلى معنى المحذوف، فإذا قلت: إن العلة عند ذكر المضاف إليه ثابتة، فلماذا لم يرتبط بها أثرها وهو حكم البناء؟ قالوا: ظهور الإضافة التي هي من خواص الأسماء أبعدها عن شبه الحرف فعادت إلى أصلها الذي هو الإعراب، فإن قلت: ما بالهم بنوا (أي) الموصولة فيما إذا أضافوها في اللفظ وحذفوا صدر صلتها؟ أجابوك بأنهم أنزلوا المضاف إليه منزلة صدر الصلة فصار في حكم المقطوع عن الإضافة، ولا يسعك بعد هذا إلا أن تنفض ثوبك من غبار هذه المجادلة وتنفصل عنها وليس في يدك أثارة من علم، وقد ذكر أبو حيان تعاليلهم لاختصاص ضمير المتكلم بالضم وضمير المخاطب بالفتح وضمير المخاطبة بالكسر، ثم قال: هذه التعاليل لا يحتاج إليها لأنها تعليل وضعيات، والوضعيات لا تعلل. والذي نبني عليه البحث في هذا الباب ما كان من قبيل القسم الأول إذ هو الذي تستقيم معه الأقيسة الصحيحة. شروط صحة القياس إذا تتبعنا ما يتشبث به القادحون في مسائل هذا الضرب من القياس رأيناه يدور على ثلاثة وجوه: (أحدها) بيان الفرق بين المقيس والمقيس عليه. (ثانيها) الاختلاف في حكم المقيس عليه. (ثالثها) مخالفة حكم المقيس عليه للأصول. فالقياس مع الفارق كما أجاز بعضهم تقديم الفعل المنفي بـ (لن) قائلاً: إن (لن أضرب) نفي لـ (سأضرب) فكما جاز: زيدًا سأضرب، زيدًا لن أضرب، وما كان من المنكرين لهذا القياس سوى أن تعرضوا للتفريق بين (السين ولن) بأن حرف النفي يقتضي الصدارة في الجملة التي يدخلها، وذلك معنى يمتاز به دون حرف التنفيس. والقياس على المختلف فيه، كما ألحق الكوفيون فعل التعجب بأفعل التفضيل في جواز بنائه من لوني البياض والسواد، وقد رده البصريون بأنه قياس على مختلف فيه؛ إذ هم لا يوافقون على صوغ اسم التفضيل من الألوان وكأنهم نَحَوا في هذا المبحث منحى القياس الفقهي، وقد ذهب فريق من الأصوليين إلى صحة القياس على المختلف فيه؛ لأنه وإن لم يكن دليلاً مُسلَّمًا عند المخالف يصلح أن يكون مستندًا لمن يتقرر عنده حكم الأصل بحجة راجحة. والقياس على ما خالف القياس - كما قال الكسائي - لا يقتصر في الظروف الواردة أسماء أفعال نحو (عليك وإليك) على ما ورد في الرواية، بل يجوز أن يقاس عليها غيرها مما لم يرد به سماع، وطعن البصريون في هذا المذهب بأن تلك الظروف وقعت موقع الأسماء على خلاف أصلها، وما جاء على خلاف الأصول لا يصح القياس عليه بحال، وأجاز ابن مالك جمع (حم) بالواو والنون، مع اعترافه بأنه لم يُسمع، فقال أبو حيان: إن إجازته لذلك إنما هو بالقياس على (أب) وينبغي أن يمتنع لأن جمع (أب) وارد على وجه الشذوذ، فلا يصح القياس عليه. والتحقيق أن الأصول التي يجيء الحكم على خلافها تتفاوت في القوة والضعف، فالأصل الذي يمنع من الزيادة - وهو أن الألفاظ إنما وضعت لإفادة المعاني - أقوى من الأصل الذي يمنع من تقديم المعمول على العامل، ولهذا كانت مخالفة العرب لقانون تقديم العامل أكثر من مخالفتهم لقانون المنع من الزيادة، فيترجح امتناع زيادة (كان) في صدر الكلام أو آخره قياسًا على زيادتها في الوسط، وليس من البعيد جواز تقديم الخبر في باب (زال) الناسخة؛ قياسًا على تقديم المعمول الثابت على خلاف القياس. *** المقالة الثالثة في المباحث المشتركة القياس في الاتصال خصت العرب بعض الأدوات بالدخول على أنواع من الكلم لا تتجاوزها، مثل الأسماء تختص بحروف الجر والنداء، والمضارع يختص بنحو (لم وكي) وأبقت بعضها دائرًا بين نوعين نحو (هل وهمزة الاستفهام) يوصلان بالأسماء والأفعال، و (أن ولو) الشرطيتين يدخلان على الأفعال الماضية والمستقبلة، فإذا وردت كلمة من أمثال هذه الأدوات مقرونة بنوع خاص من الكلم فليس لنا أن نخرج به عن دائرة السماع، ومثال هذا (لما) الحينية إنما جاءت موصولة بالفعل الماضي فلا يسوغ لنا أن نلصق بها فعلاً مضارعًا كما صنع ابن أبي حجة في قوله: والنبت يضبطها بشكل معرب ... لما يزيد الطير في التلحين وإذا دارت الكلمة في كلام العرب بصورة المضاف ولم تأت في الرواية موصولة بـ (ال) المعرفة قط، فليس لنا أن نقطعها عن الإضافة ونصلها بأداة التعريف مثل لفظ (كل وبعض وغير) . فإن قال قائل: إن هذا الحجر يقتضي أن لا تدخل ال على اسم إلا إذا سمع اتصالها به في الفصيح من كلام العرب، ومن المتعذر أن يتتبع واضع القاعدة جميع الأسماء العربية ليتحقق هل نطقوا بها مقرونة بـ (ال) أم لا، فالجواب أنَّا لا ندَّعي أن هذه الكلمات لم يستثنها النحاة إلا بعد أن أتوا على جميع المفردات مفردًا مفردًا، وإنما جاء استثناؤها من جهة أنها دائرة على ألسنة الفصحاء بكثرة حتى لا تكاد تمر بقصيدة أو خطبة أو محاورة دون أن يعترضك شيء منها، فعدم استعمالها موصولة بأداة التعريف مع إيرادهم لها في جل مخاطباتهم - دليل على أنهم التزموا قطعها عن هذه الأداة، ولا يسوغ لنا إلحاق الكلمة بأشباهها متى شهد الاستعمال بعدم إجرائها على القاعدة. وعلى هذا التحرير يجري القول في الأسماء التي قصروها على حالة كالألفاظ التي قال صاحب (إصلاح المنطق) وغيره أنها لا تستعمل إلا في سياق النفي، وهي (أحد وعريب وديار) وأخواتها، وينتظم في هذا الصدد الأسماء المختصة بالإضافة إلى المضمرات كـ (وحد) ولبي ودوالي وسعدي) . وصفوة المقال أن الكلمة إذا وردت مقرونة بلفظ معين أو نوع خاص فلا بد من النظر في حال استعمالها فإن كثر دورانها في أقوال الفصحاء وغيرهم، ولم يعدلوا عن وصلها بذلك اللفظ المعين أو النوع الخاص - وقفنا عند استعمالهم ولا يسعنا الخروج عن حالتها في الرواية، وإذا لم تكن شائعة في فنون المخاطبات، فإنه يسوغ لنا أن نتصرف فيها فنقرنها بغير ذلك اللفظ ونتعدى بها مكان الرواية حيث لم يقم الدليل وهو كثرة تقلبها في ألسنتهم على قصد اختصاصها بهذا الاقتران. ومن أمثلة هذا أنه ورد اتصال هاء التنبيه بالضمير المخبر عنه باسم إشارة، فرأى ابن هشام أن الأمثلة الواردة بهذا الأسلوب قد بلغت في الكثرة إلى أن يؤخذ منها التزامهم في خبر الضمير أن يكون اسم إشارة فأوجب في خبر الضمير المقرون بحرف التنبيه أن يكون اسم إشارة اتباعًا للاستعمال. ويدخل في هذا القبيل قولهم: (ليس غير) قال ابن هشام: إن (غير) المبنية على الضم إنما تستعمل متصلة بـ (ليس) وقولهم: (لا غير) لحن، ومن عَدَّ هذا الاستعمال في جملة الصحيح، فقد ظفر في كلام العرب بما يشهد بصحته وهو قول الشاعر: جوابًا به تنجو اعتمد فوربنا ... لعن عمل أسلفت لا غير تسأل وإذا وردت الكلمة متصلة بنوع من الأسماء ورودًا لا يحيط به استقصاء، صح أن يكون اتصالها بذلك النوع مقيسًا، كتاء التأنيث تتصل باسم الفاعل واسم المفعول والصفة المشبهة والمنسوب على وجه القياس، ولم يبلغ اتصالها بالأسماء الجامدة هذا المبلغ فوقفوا فيها عند حد السماع كـ (ظبي) وظبية وامرئ وامرأة) فلا تقول (إنسانة) في مؤنث إنسان، إلا إذا نُقل إليك لفظه في شاهد صحيح، كما سمع (القة) للمؤنث من القرود، ولا يقال في مذكرها (الق) حيث لم يعثروا على نقل يشهد بصحة استعماله. ولهذا الأصل أنكر الصفدي قولهم للظبية (غزالة) مع ورود (غزال) للمذكر؛ لأنه لم يثبت عنده برواية، وما خالفه الدماميني في ذلك إلا بعد وقوفه على شواهد من كلام العرب تقتضي صحة استعمالها. القياس في الترتيب إذا كانت إحدى الكلمتين تابعة للأخرى من جهة المعنى فالتناسب الطبيعي يقتضي أن تذكر عقبها في التلفظ، ومن ثم قرروا في أصولهم أن المتبوع يتقدم على التابع، والمستثنى منه يتقدم على المستثنى، والمميز يتقدم على التمييز، وصاحب الحال يتقدم على نفس الحال. فمن أباح تقديم الكلمة التابعة فإنما تقبل دعواه متى كانت مصحوبة بدليل، فالكوفيون مثلاً أجازوا تقديم المعطوف على المعطوف عليه، والكسائي والمبرد سوَّغا تقديم التمييز على عامله، والفرَّاء والأخفش ذهبا إلى صحة تقديم الحال على عاملها الظرف أو الجار والمجرور، وابن برهان وابن كيسان أباحا تقديم الحال على صاحبها المجرور بحرف، وما أجازوا هذه القضايا التي يحكم الأصل بمنعها إلا باستنادهم إلى شواهد رأوها كافية في تقرير ما ذهبوا إليه. ومن فروع هذا الأصل أن لا يتقدم الضمير على معاده ويستثنى من ذلك مواضع، بعضها عقدوا عليه الاتفاق كضمير الشأن، ومنها ما اختلفوا فيه كالضمير العائد على المفعول به. والأصل في محل الاختلاف بيد من لا يجيز عوده على المتأخر عنه في نظم العبارة إلى أن يقيم المخالف شاهده الصحيح. أجاز الأخفش وأبو الفتح عود الضمير المتصل بفاعل مقدم إلى مفعول تأخر وأقاما على ذلك شواهد، مثل قول حسان: ولو أن مجدًا أخلد الدهر صاحبًا ... من الناس أبقى مجده الدهر مطعمًا ومنعه الجمهور في حال السعة وحملوا تلك الشواهد على الشذوذ أو الضرورة ومنزعهم في عدم قبول هذه الشواهد أنها جاءت على خلاف الأصل، وما يرد على خلاف الأصل لا يجعل مقيسًا إلا حيث تكثر شواهده حتى تدل على قصد العرب لاطراده. ومما يتناوله الأصل المومأ إليه أن المستثنى أُخرج من المستثنى منه ثم نسب الحكم إلى بقية الأفراد فكان المستثنى في الظاهر مخرجًا من الحكم أيضًا ومرتبة المخرج متأخرة عن مرتبة المخرج منه، فكان موقع المستثنى بعد اللفظ بالحكم والمستثنى منه، ولكن كثر في الاستعمال تقدمه على المستثنى منه نحو: جاءني إلا زيدًا القوم، أو على الحكم فقط، نحو: القوم إلا زيدًا إخوتك، فبقيت مسألة تقدمه عليهما معًا على أصل المنع، وقد جوّزها الكوفيون قياسًا، والحق أن مخالفة الأصل بكل واحد من أمريه على انفراده لا تدل على جواز مخالفته بالأمرين كليهما في تركيب واحد. يتفاوت ارتباط بعض الكلم ببعض من جهة المعنى في القوة والضعف، وهذا التفاوت له مدخل في باب القياس، ألا ترى ابن جني كيف أجاز تقديم المفعول معه على مصاحبه، ومنع تقديم المعطوف على المعطوف عليه؟ والأمثلة الشاذة الواردة في تقديم المفعول معه ليست بأكثر من الأمثلة الواردة في تقديم المعطوف، ولكنه يرى أن تبعية المعطوف للمعطوف عليه أشد من تبعية المفعول معه لمصاحبه. القياس في الفصل الأصل في الألفاظ المربوط بعضها ببعض من جهة المعنى أن لا يُلقى بينها بفاصل، وقد خالفوا هذا الأصل في مواضع شتى حتى عُد بعضها في فنون البلاغة، كالفصل بين مفعولي رأيت في مثل قول الشاعر: ويمتحن الدنيا امتحان مجرب ... يرى كل ما فيها وحاشاك فانيا أو بين النعت والمنعوت كما قال تعالى: {وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} (الواقعة: ٧٦) ويجب النظر في قوة الارتباط وضعفه في هذا المقام أيضًا، فيكفي من الشواهد الواردة في الفصل بين ما ضعف ارتباطهما ما لا يكفي في الفصل بين ما كان الارتباط بينهما قويًّا، ولهذا تلقوا ما سمعوه من الفصل بين التابع والمتبوع بالقياس واختلفوا فيما ورد من الفصل بين المضاف والمضاف إليه، فأجاز بعضهم الفصل بينهما بالقسم والظرف والمفعول على وجه القياس ومنعه آخرون بدعوى أن الفصل الوارد في السماع محمول على الشذوذ أو الضرورة، ولا منشأ لهذا الاختلاف. وعدم اكتفائهم بما وصل إليهم من الشواهد فيما أحسب إلا اعتقادهم بأن كلمتي المضاف والمضاف إليه قد بلغتا في شدة ارتباطهما إلى أن صارا بمنزلة الكلمة الواحدة، وربما اكتفوا بمقدار هذه الشواهد في الفصل بين التابع والمتبوع؛ لأن الارتباط بينهما لا ينتهي إلى هذه الدرجة ويدلك على رعايتهم لشدة الارتباط أنهم أطبقوا على منع الفصل بين الموصول الحرفي وصلته متى كان الموصول عاملاً مثل (إن) واختلفوا حيث يكون الموصول غير عامل مثل (ما) فأجاز كثير منهم الفصل بينها وبين صلتها؛ وذلك لأن الموصول العامل أشد اتصالاً بصلته من غير العامل؛ إذ الأول طالب للصلة من جهة المعنى والعمل، وأما الثاني فطلبه لها من جهة واحدة وهي الموصولية. القياس في الحذف من الجلي أن حذف أحد أجزاء الجملة يغير أسلوبها ويحدث فيها هيئة جديدة والمحافظة على الأسلوب العربي تقتضي أن لا يلفظ الإنسان بعبارة إلا أن تجيء مطابقة للهجة العربية، وهذا الأصل هو الذي يتمسك به من لا يجيز حذف لفظة حيث لم يثبت عنده بدليل يعتد به كما منع الجمهور حذف الفاء، والبصريون حذف الموصول، وابن ملكون حذف أحد مفعولي (ظننت) ولو مع قيام القرينة على المحذوف. قد يقال: إن العرب أكثروا من حذف ما تقوم عليه القرينة كالمضاف والمضاف إليه والمبتدأ والخبر والمفعول به والمعطوف والمعطوف عليه والحال والتمييز وفعل الشرط وجوابه، وباستقراء هذه المواضع يتقرر أصل يمكن اطراده وهو صحة الحذف لدليل، والجواب: أن ورود السماع بالحذف في باب كالنعت أو المنعوت إنما يسوِّغ القياس في ذلك الباب خاصة؛ إذ قصارى ما تدل عليه شواهده أن الحذف هنالك لا يخالف الأسلوب، وأجازه الكسائي لحذف الفاعل، والكوفيون لحذف الموصول، والجمهور لحذف أحد مفعولي (ظننت) إنما اعتمدوا فيها على شواهد مبسوطة في كتب الفروع. وإذا وضعت ألفاظ للدلالة على غرض وانتظمت في منهج وسُمع في أحدها حذف بعض متعلقاته، فهل يجري الحذف في متعلقات ما يشاركه في المعنى على طريقة قياس التمثيل؟ ومثال هذا أنه ثبت حذف صدر الصلة مع (أي) الموصولة في نحو قولك: (زارني أيهم أكتب) فوقف أكثر النحاة عند هذا الموضع واستضعفوا حذفه مع غير (أي) من الموصولات، ولم يستضعفه ابن مالك. فالقائل بمنع القياس ناظر إلى أن حذف متعلق الكلمة وهو صدر الصلة جرى على غير أصل فلا نتجاوز فيه حد السماع حتى نلحق به ما يشارك تلك الكلمة في مساقها ونحذف متعلقه، والقائل بجواز الإلحاق ناظر إلى أن اتحاد الكلمتين في المعنى يجعلهما في حال الكلمة الواحدة، فما يثبت لإحداهما من الأحكام يصح إعطاؤه للأخرى حيث إن الأسلوب معهما متماثل. وإذا ورد السماع بحذف حرف في موضع من التركيب على سبيل الاطراد، فهل يقاس عليه ما يرادفه من الحروف فيسوغ حذفه ولو لم ترد به الرواية؟ هذا من مواقع اختلافهم أيضًا، ومن أمثلته أنهم أجازوا حذف (لا النافية) في جواب القسم، كما ورد في قوله تعالى: {تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ} (يوسف: ٨٥) وقول الشاعر: آليت حب العراق الدهر أطعمه ... والحب يأكله في القرية السوس واختلفوا في حذف (ما النافية) في نحو هذا التركيب، ومن أبى حذفها قد يتمسك بأن (لا) وضعت للدلالة على السلب، وحذفها يوهم إرادة الإثبات الذي هو ضد مدلولها، فكان ذكرها على ما يقتضيه وضعها ضربة لازب، ولكنهم حذفوها في جواب القسم لكثرة استعمالها، ولا يصح إلحاق لفظ (ما) بها وإن كانت مرادفة لها في المعنى؛ لأنها لا تشاركها في الوجه الذي اقتضى العدول بها عن القياس وهو كثرة الاستعمال. ولا ترى طائفة - منهم الكافيجي - الوقوف في الأساليب على ما ورد عن العرب فأجازوا لك أن تقول: في الدرس علي والمسجد خالد، ونحو: كان تاليًا الخطبة بكر والقصيدة محمود، وهذا ما يعبر عنه النحاة بمسألة العطف على معمولي عاملين مختلفين، ثم قال الشيخ الكافيجي عقب هذا: إن جزئيات الكلام إذا أفادت المعنى المقصود منها على وجه الاستقامة لا يحتاج إلى النقل والسماع، وإلا لزم توقف تراكيب العلماء في تصانيفهم على ذلك. وهذه العبارة مطلقة العنان ولا بد من رد جماحها فنقول: إن أراد الكافيجي بقوله: (أفادت المعنى على وجه الاستقامة) أنها أوصلت المعنى إلى ذهن المخاطب كاملاً، فهذا لا يكفي في صحة الكلام عند علماء العربية قطعًا، فإن من التراكيب ما يؤدي المعنى وافيًا ويكون المتكلم قد خالف فيه بعض القواعد المجمع عليها، وإن قَصد (بوجه الاستقامة) المطابقة لصحة الأسلوب عربية، فهذا هو محل النزاع بينه وبين من لا يجيز أمثال ذينك التركيبين، حيث إن المانع يراهما غير مطابقين للأسلوب الصحيح، فلا محيص للكافيجي وغيره من إقامة دليل على الصحة، أو سَمع يوثق به أو قياس تمثيل لا يتطرق إليه قادح. القياس في موقع الإعراب إذا وردت الكلمة بمكان من الإعراب لم يسمع استعمالها في غيره، فأصولهم تقتضي أنها إنما تطرد فيما سُمعت ولا يقاس عليه غيره من المواقع، ومن هذا تخصيصهم (فل ولومان ونومان) بالنداء، و (قط عوض) بالظرفية أو الجر بـ (من) . ومن فروع هذا قول ابن الحاجب وسعد الدين التفتازاني أن لفظة (كل) إذا أضيفت إلى الضمير لم تُستعمل في كلامهم إلا توكيدًا، فيمتنع إيرادها مفعولاً به أو فاعلاً، ومن أجاز إيرادها مفعولاً به كابن هشام اعتمد على ما وقع في يده من الشواهد التي منها قول الشاعر: فيصدر عنها كلها وهو ناهل ... ومما يجري على هذا الأصل قولهم: إن (كافة وقاطبة وطرًّا) لا تخرج عن الحالية. وعن ابن هشام في (أوهام الزمخشري) تخريج قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً} (الإسراء: ١٠٥) على أن (كافة) نعت لمصدر محذوف، والتقدير: رسالة كافة، ومن نازع في اختصاصها بالحالية يستشهد بمثل قول عمر بن الخطاب: لقد جعلت لآل بني كاهلة على كافة بيت مال المسلمين لكل عام مائتي مثقال ذهبًا. وحاول الشهاب الخفاجي هدم هذا الأصل فقال في شرح الدرة: إن (كافة) ورد عن العرب بمعنى (جميع) لكنهم استعملوه منكرًا منصوبًا وفي الناس خاصةً، ومقتضى الوضع أنه لا يلزمه ما ذكر فيستعمل كما استعمل (جميع) معرفًا ومنكرًا بوجوه الإعراب، وفي الناس وغيرهم؛ لأنّا لو اقتصرنا في الألفاظ على ما استعملته العرب العاربة والمستعربة حجَّرنا الواسع وعسرُ التكلم بالعربية على مَن بعدهم، وهذا الرأي لا يؤخذ به على الإطلاق ويستضاء به في كل حال؛ فإنه لا يطابق ما قاله أساتيذ العربية من أن معرفة الوضع غير كافية ما لم ينضم إليه العلم بحال الاستعمال، قال ابن خلدون في المقدمة: ليس معرفة الوضع الأول بكافٍ في التركيب حتى يشهد له استعمال العرب لذلك، وأكثر ما يحتاج إلى ذلك الأديب في فني نظمه ونثره حذرًا من أن يكثر لحنه في الموضوعات اللغوية في مفرداتها وتراكيبها وهو شر من اللحن في الإعراب وأفحش. ولو اقتدينا بالشهاب وسرنا على أثر مقالته التي لم يرسم لها حدًّا لعَمَدْنا إلى مثل (قط وقبل وعند) وأخرجناها عن الظرفية إلى الابتداء أو الفاعلية، ولا أحسبه يرضى للغة هذه الفوضى فيفصم نظامها وهو يريد توسيع نطاقها. والتحقيق في هذا المطلب أن ما يصلح أن نجريه على القاعدة في الإعراب نوعان: أحدهما: ما يدور على ألسنة الفصحاء وغيرهم ويجري في خطاباتهم بحالة خاصة من الإعراب مثل (عند وقبل وبعد وقاطبة وطرًّا) وهذا هو الذي نقف فيه عند السماع، فإن كثرة دورانه في مجاري كلامهم نظمًا ونثرًا وتقلبه في أساليبهم بحالة مخصوصة يشعر بقصدهم إلى تخصيصه بتلك الحالة الإعرابية، وما كان ينبغي لنا في هذا القسم إلا أن نتحرى الطريقة المألوفة في استعماله. ثانيهما: ما لا يتردد في أغلب خطاباتهم وإنما يرد نادرًا أو كثيرًا ولكن لم يصل إلى مبلغ يدل على قصدهم إلى قصره على الحالة التي جاءت بها الرواية، وهذا هو الذي يسوغ لنا أن نخرج عن حالته الواردة ونستعمله في المواضع التي يساعد عليها الوضع، فلو لم نسمع لفظ الضرغام أو اللوذعي أو الفيصل مثلاً إلا فاعلاً أو مفعولاً كان لنا إيراده في تراكيب من عندنا مضافًا إليه أو مبتدأ أو خبرًا. فيتضح بهذا التفصيل مذهب الجمهور ووجه مأخذه، ويمكنك أن تقضي به على مقالة الشهاب حيث أباح خروج (كافة) عن الحالية بمجرد النظر إلى حال الوضع، فإن هذه الكلمة من القسم الأول قطعًا، فيجب على القائل بصحة استعمالها فاعلاً أو مفعولاً مثلاً إقامة شاهد على ذلك ولا يكفيه التمسك بأنها قابلة لهذه المواقع بحسب وضعها. (يتبع) ((يتبع بمقال تالٍ))