ذكرنا في العدد الأسبق من سيرة الإمام أثارة من علمه وشدة تمسكه بالسنة، ووقوفه عند حدودها، وتعظيمه بالحق لمن جاء بها، وخذله للبدعة ونفوره منها، وذلك كافٍ للتذكير بفضائله المسلَّمة ومناقبه الكثيرة، ومما يؤثر عنه أنه قال: (من كان فيه ثلاث خصال فقد استكمل الإيمان: من أمر بالمعروف وائتمر، ونهى عن المنكر وانتهى، وحافظ على حدود الله تعالى) . وحسبك هذا الأثر وحده حجة على الذين يحتفلون بمولده وكنسة ضريحه، فإن صورة هذا الاحتفال بدعة مصبوغة بصبغة الدين، ومواظبة أكابر العلماء عليها يوقع في قلوب العامة أنها مشروعة، جاعلين إياها من زيارة القبور المأذون بها من الشارع، ولكن زيارة القبور التي رخص فيها الشارع لأجل تذكر الموت لم تكن بهذه الكيفية من تعظيم القبر وجميع ما يحتف به حتى الكناسة والنسيج الذي يوضع عليه من نحو ستر وعمامة، والوقوف حوله بغاية الذلة والخضوع، بل والصلاة في جانبه، فقد نطق التاريخ بأن مثل هذا وجد أولاً عند الوثنين، وسرى لبعض أهل الكتاب بالامتزاج بهم، وقد كان النبي صلى الله تعالى عليه وسلم يلعن الذين اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، حتى في مرض موته، كما في الصحاح، وكان يقول في مرض موته أيضًا: (لا تتخذوا قبري عيدًا) أخرجه في الموطأ. ويتوهم من لم يقف على نبأ الأولين والقوم الذين أشارت الأخبار إلى اتخاذهم قبور أنبيائهم مساجد وأوثانًا ونطق القرآن بأنهم اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا - أنهم كانوا يسمونهم آلهة ويعبدون أشخاصهم أحياء - وقبورهم أمواتًا -عبادة حقيقية، وليس كذلك، بل كانوا يعظمونهم تعظيمًا لم يأذن به الله، فيجعلونهم وسطاء بينهم وبينه في قضاء حاجهم الدنيوية، ووسيلة لعرض أعمالهم على رحمن البرية، ويحتفلون الاحتفالات الدينية عند قبورهم كالصلاة والدعاء، ويزعمون أن الله أعطاهم قوى يتصرفون بها في الكون بإذنه بما لا يصل إليه سعي غيرهم، ويطبقون أفعالهم واعتقاداتهم على نصوص الدين بالاستنباط والتأويل [١] . وكتبهم الدينية وكتب التاريخ شاهدة بذلك. أي معنى لإنكار العلماء باسم الدين على موحد لم يرضَ أن يضع العمامة التي توضع على ضريج الإمام على رأسه مثلهم، وعلى قوله: إن أكل هذا البرتقال خير لي من وضعها على رأسي؛ لأنه ينفعني وهي ليست من أسباب النفع مثله؟ أليس هو من إنكار المعروف؟ لو ورد مثل هذا عن الشارع لوجب أن نعده من الأمور التعبدية التي لا يقاس عليها، ولذلك قال سيدنا عمر في الحجر الأسود: إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع [٢] ولولا أنني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبِّلك لما قبَّلتك. وقطع هذا الخليفة الذي أعز الله به الإسلام الشجرة التي حصلت تحتها بيعة الرضوان، واجتمع عندها النبي وخيرة أصحابه، وما قطعها رضي الله عنه إلا لأنه رأى بعض الناس يعظمها، فحذر أن يعتقد فيها سببية النفع أو وسيلة الزلفى إلى الله تعالى، وتلك الوثنية بعينها، لم لا ينكرون المعاصي والمكروهات التي تقع هناك وهي كثيرة جدًّا. كان كاتب هذه السطور يومًا ما في قبة الإمام، وكان ثَم جماعة من أكابر علماء الأزهر وأشهرهم، فأذن المؤذن العصر مستدبرًا القبلة، فقلت لهم: لم لم يستقبل هذا المؤذن القبلة كما هو السنة؟ فقال أحدهم: (إنه يستقبل ضريح الإمام) !! أو ليس هذا من الإقرار على المنكر؟ وكذلك لا ينكرون على من يستقبل قبر الإمام في صلاته، والإمام يتبرأ من ذلك لأنه من المحظورات والمنكرات في الدين، ومذهبه في ذلك معروف. هذا قليل من كثير، والتعظيم الصحيح للإمام هو إحياء علمه واقتفاء أثره في الاجتهاد في العلم والعمل والفضائل وذكره بالخير - كالدعاء له - فإن حسن الذكر هو الشرف الباقي، وبمثل هذا كان يعظمه الإمام أحمد بن حنبل بعد موته، فقد جاء في الإحياء عنه أنه قال: ما صليت منذ أربعين سنة إلا وأنا أدعو للشافعي، قال الغزالي: (فانظر إلى إنصاف الداعي وإلى درجة المدعو له، وقس به الأقران والأمثال من العلماء في هذه الأعصار، وما يجري بينهم من المشاحنة والبغضاء لتعلم تقصيرهم في دعوى الاقتداء بهؤلاء، ولكثرة دعائه له قال له ابنه: أي رجل كان الشافعي حتى تدعو له كل هذا الدعاء؟ فقال أحمد: يا بني كان الشافعي - رحمه الله تعالى - كالشمس للدنيا، وكالعافية للناس. فانظر هل لهذين من خلف، وكان أحمد يقول: ما يمس أحد بيده محبرة إلا وللشافعي رحمه الله في عنقه منّة) وأورد في الإحياء شواهد على الإمام تدل على تبحره في علم القرآن وأخلاق الدين محتجًّا على الفقهاء الذين يزعمون اتباعه وهم أخلياء منها، وذكر أيضًا بعض الوقائع التي تدل على خشيته من الله تعالى وزهده في الدنيا، ثم قال: (ولا يحصل ذلك إلا من معرفة الله تعالى، فإنما يخشى الله من عباده العلماء، ولم يستفد الشافعي هذا الخوف من علم كتاب السلم والإجارة وسائر كتب الفقه، بل من علوم الآخرة المستخرجة من القرآن الكريم والأخبار، إذ حِكم الأولين والآخرين مودعة فيهما) . أقول: فليعتبر المخذولون الذين يقولون: إن الدين كله في هذه الكتب الفقهية، فينبغي صرف الهمة إليها ونبذ الكتاب والسنة ظهريًّا، إلا ما يكون من التغني بالقرآن والتبرك بقراءة نحو البخاري أو الشفاء، ولم تنحرف أمة عن هدي الدين أكثر من هذا الانحراف. وقال الإمام أبو ثور: ما رأيت ولا رأى الراءون مثل الشافعي. وقال أبو زرعة الرازي: ما أعلم أحدًا أعظم منّة على أهل الإسلام من الشافعي. ومحاولة استقصاء كلام الأئمة والعلماء في الثناء عليه محاولة محال، ولكن لم ينقل عن واحد من أولئك الأخيار الذين كانوا يجلونه كل هذا الإجلال أنه أخذ شيئًا من كناسة ضريحه، أو تبرك بثياب توضع عليه. فبمن نقتدي إذا اختلف الأدلاء، وإذا تفرقت السبل، فأيها يسلك الجهلاء؟ لا جرم أن النجاة في سلوك سبيل الأولين والاقتداء بالسلف الصالحين، فلا تغتري أيتها العامة بالعمائم المكورة، والأردان المكبرة، والأذيال المجررة، فالحق لا يموت بانتشار البدع في العالمين، والله ولي المتقين. أما مذهب الإمام في الفقه فهو أقصد المذاهب. ذلك أن الفقه إنما نفقت سوقه وزخرت بحاره في الحجازيين والعراقيين، فأهل الحجاز وأشهر أئمتهم مالك بن أنس كانوا أصحاب رواية كثيرة، ولذلك مهروا في فقه الحديث، وأهل العراق وأشهر أئمتهم أبو حنيفة النعمان وصاحباه برعوا في فقه القياس، والإمام الشافعي برع في الفقهين معًا كما حققه ابن خلدون حكيم المؤرخين. وحسبك أنه واضع علم الأصول الذي لم يصل الفقه إلى درجة الكمال إلا به. مناظرات الإمام: كان له مناظرات مع أئمة عصره يُعلم منها علو مداركه ودقة نظره في القياس نذكر منها هنا ملخص المناظرة الشهيرة بينه وبين الإمام محمد بن الحسن صاحب أبى حنيفة رضي الله تعالى عنهم. قال محمد: ما تقول في رجل غصب من رجل ساحة فبنى عليها بناءً أنفق فيه ألف دينار، ثم جاء صاحب الساحة فأثبت بشاهدين عدلين أن هذا اغتصبه هذه الساحة وبنى عليها هذا البناء، ما كنت تحكم؟ قال الإمام: أقول لصاحب الساحة: تحب أن تأخذ قيمتها، فإن رضي حكمت له بالقيمة، وإن أبى إلا ساحته قلعتها ورددتها عليه. فقال محمد: فما تقول في رجل اغتصب من رجل خيط إبريسم فخاط به بطنه، فجاء صاحب الخيط فأثبت بشهادة عدلين أن هذا اغتصبه هذا الخيط، أكنت تنزع الخيط من بطنه؟ . فقال الإمام: لا. فقال محمد: الله أكبر، تركت قولك. فقال الإمام: لا تعجل، أخبرني لو لم يغتصب الساحة من أحد وأراد أن يقلع هذا البناء منها أيباح له ذلك أم يحرم؟ فقال: بل يباح. فقال الإمام: أفرأيت لو كان الخيط خيط نفسه فأراد أن ينزعه من بطنه أيباح له ذلك أم يحرم؟ فقال محمد: بل يحرم. فقال الإمام: فكيف تقيس مباحًا على محرم؟ فقال محمد: أرأيت لو غصب رجل لوحًا وأدخله في سفينة ولجَّج في البحر، أكنت تنزع اللوح من السفينة؟ فقال الإمام: لا، بل آمره أن يقرب سفينته إلى أقرب المراسي إليه ثم أنتزع اللوح وأدفعه إلى صاحبه. فقال محمد: أليس قد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا ضرر ولا ضرار) ؟ فقال الإمام: هو أضر بنفسه ولم يضر به أحد. ثم قال الإمام له: ما تقول في رجل اغتصب من رجل جارية فأولدها عشرة كلهم قد قرءوا القرآن وخطبوا على المنابر وحكموا بين المسلمين، فأثبت صاحب الجارية بشاهدين عدلين أن هذا اغتصبها منه، ناشدتك الله بماذا كنت تحكم؟ قال: كنت أحكم بأن أولاده أرقاء لصاحب الجارية. قال الإمام: فأيهما أشد عليه ضررًا أن يجعل أولاده أرقاء أو يقلع البناء من الساحة. (ومثله أن يقلع اللوح من السفينة) . اهـ. (حكم منثورة تؤثر عنه) منها: وددت أني إذا ناظرت أحدًا أن يظهر الله الحق عليه يديه. ومنها: طلب العلم أفضل من صلاة نافلة. ومنها: أظلم الظالمين لنفسه من تواضع لمن لا يكرمه، ورغب في مودة من لا ينفعه وقبل مدح من لا يعرفه. الوقت سيف وأفضل العصمة أن لا تضيع دقائقه، جمال العلماء كرم النفس وزينة العلم الورع والحلم، فقر العلماء اختيار وفقر الجهلاء اضطرار. أقول: يعني أن العلماء يفضلون الاشتغال بما هم فيه من العلم على الاشتغال بالكسب الذي يخرج الإنسان من مأزق الفقر إلى باحة الغنى، ففقرهم اختياري بخلاف الجهلاء، فإنهم لا يدعون سبيلاً علموه للغنى إلا اتخذوه، ففقرهم اضطرار. ومنها: المراء في العلم يقسي القلب ويورث الضغائن. أقول: وما وسع خرق الخلاف بين علماء المسلمين حتى فرقوا دينهم بددًا، وذهبوا في مذاهبهم طرائق قددًا، إلا المراء وعدم إرادة الحق بالجدال. ومن مناقبه رضي الله عنه أنه قال: ما كذبت قط ولا حلفت بالله صادقًا ولا كاذبًا، وما تركت غسل الجمعة في برد ولا سفر ولا حضر، ولا شبعت منذ ١٦ سنة إلا شبعة واحدة طرحتها من ساعتي. وكان يقول: من لم تُعزُّه التقوى فلا عز له. ومن حكمه: من غلبته شدة الشهوة للدنيا لزمته العبودية لأهلها. ومنها: من أحب أن يفتح الله عليه بنور القلب فعليه بالخلوة وقلة الأكل وترك مخالطة السفهاء وبغض أهل العلم الذين لا يريدون بعلمهم إلا الدنيا. أقول: لأن هؤلاء يميلون مع الهوى ويشترون الضلالة بالهدى، يقول أحدهم {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ} (البقرة: ٢٠٠) بخلاف الذين يقولون: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * أُوْلَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} (البقرة: ٢٠١-٢٠٢) فالذي يريد بعلمه سعادة الدارين تنير صحبته القلب. ومنها: لو اجتهد أحدكم كل الجهد على أن يرضي الناس كلهم فلا سبيل له، فليخلص العبد عمله بينه وبين الله تعالى. ومنها: لا يعرف الرياء إلا المخلصون. ومنها: سياسة الناس أشد من سياسة الدواب. أقول: لأن الدواب لا تنازعك الرأي وأفرادها على طبيعة واحدة. قال الشاعر: وليس يزجركم ما توعظون به ... والبهم يزجرها الراعي فتزجر ومنها: العاقل من عقل نفسه عن كل مذموم. ومنها: لو علمت أن الماء البارد ينقص مروءتي ما شربته. أقول: بهذه الشهامة والعزة تسود الأمم وتبلغ المعالي، فليعتبر الذين يعدون الذل والمهانة من الدين. ومنها: ليس بأخيك من احتجت إلى مداراته (وما أجلها كلمة وأروعها حكمة) . ومنها: من علامة الصادق في أُخوة أخيه: (أن يقبل علله ويسد خلله ويغفر زلله) . ومنها: من علامة الصديق أن يكون لصديق صديقه صديقًا. ومنها: ليس سرور يعدل صحبة الإخوان، ولا غم يعدل فراقهم. ومنها: لا تقصر في حق أخيك اعتمادًا على مروءته، ولا تبذل وجهك إلى من يهون عليه ردك. ومنها: من وعظ أخاه سرًّا فقد نصحه، ومن وعظه علانية فقد فضحه وشانه. ومنها: لا تشاور من ليس في بيته دقيق. ومنها: من نمَّ لك نمَّ عليك، ومن إذا أرضيته قال فيك ما ليس فيك (أي مدحًا) كذلك إذا أغضبته قال فيك ما ليس فيك (أي ذمًّا) فليعتبر الذين يغترون بتملق المنافقين. ومنها: من سامى بنفسه فوق ما يساوي رده الله إلى قيمته. ومنها: من كتم سره ملك أمره. ومنها: الانبساط إلى الناس مجلبة لقرناء السوء، والانقباض عنهم مجلبة للعداوة، فكن بين المنقبض والمنبسط. ومنها: ما أكرمت أحدًا فوق قدره إلا نقص من مقداري بقدر ما زدت في إكرامه. ومنها: مداراة الأحمق غاية لا تدرك. ومنها: من ولي القضاء ولم يفتقر فهو لص. ومنها: من خدم عدم. (أشعار مأثورة عنه) الشعر ديوان الأدب ومنهل الحكم، وقلما يجيده العلماء لمزاحمة الملكات العلمية لملكته، ولذلك ولكونه صار آلة للاستجداء ترفعوا عنه، وللإمام شعر جيد لا سيما في الحِكم، ومع ذلك قد قال: ولولا الشعر بالعلماء يزري ... لكنت اليوم أشعر من لبيد لما شخص الإمام إلى (سر من رأى) دخلها وعليه أطمار رثة، وكان طال سفره فطال شعره فتقدم إلى مزين فانتهره لما نظر إلى زيه وقال له: امض إلى غيري، فاشتد على الإمام أمره، فالتفت إلى غلام كان معه وقال: إيش معك من النفقة؟ فقال: عشرة دنانير، فقال: ادفعها إلى المزين، فدفعها إليه وولَّى الإمام وهو يقول: علي ثياب لو تباع جميعها ... بفلس لكان الفلس منهن أكثرا وفيهن نفس لو تقاس بمثلها ... نفوس الورى كانت أجل وأخطرا وما ضر نصل السيف أحلاق غمده ... إذا كان عضبًا حيث انفذته سرى فإن تكن الأيام أزرت ببزتي ... فكم من حسام في غلاف مكسرا وهذه الأبيات تنبئ عن رفعة وشمم وعزة نفس وعلو همة وكرم وسخاء، وناهيك بها فهي أمهات الفضائل، وغرر السجايا العقائل، وما أجدر أئمة الدين بها، والله تعالى يقول {وَلِلَّهِ العِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} (المنافقون: ٨) وفي الحديث الشريف (علو الهمة من الإيمان) . وروى العلامة السبكي في طبقاته الكبرى بسنده إلى أبي حيان النيسابوري قال: بلغني أن عباسًا الأزرق دخل على الشافعي يومًا فقال: يا أبا عبد الله، قد عملت أبياتًا إن أنت أجزت لي بمثلها لا يؤمَن أن لا أقول شعرًا أبدا، فقال له الشافعي: إيه، فأنشأ يقول: ما همتي إلا مقارعة العدا ... خلق الزمان وهمتي لم تخلق والناس أعينهم إلى سلب الفتى ... لا يسألون عن الحجا والأولق لو كان بالحيل الغِنى لوجدتني ... بنجوم أقطار السماء تعلقي فقال الشافعي: هلا قلت كما أقول استرسالاً: إن الذي رزق اليسار فلم يصب ... حمدًا ولا أجرًا لغير موفق فالجد يدني كل أمر شاسع ... والجد يفتح كل باب مغلق وإذا سمعت بأن محظوظًا حوى ... عودًا فأثمر في يديه فصدق وإذا سمعت بأن محرومًا أتى ... ماء ليشربه فغاض فحقق وأحق خلق الله بالهم امرؤ ... ذو همة يبلى بعيش ضيق ومن الدليل على القضاء وكونه ... بؤس اللبيب وطيب عيش الأحمق وقد أورد هذه الأبيات ابن خلكان في ترجمة الإمام وعد منها قول عباس الأزرق: لو كان بالحيل الغنى.. البيت وزاد بعده بيتًا آخر وهو: لكن من رزق الحجا حرم الغنى ... ضدان مفترقان أي تفرق ونقص منها قوله: (وأحق خلق الله بالهم امرؤ) .. البيت. ومن حكمه المنظومة في الشعر، كما ينظم في السلك نضيد الدر، قوله: كلما أدبني الدهر ... أراني نقص عقلي وإذا ما ازددت علمًا ... زادني علمًا بجهلي ومنها: ومنزلة الفقيه من السفيه ... كمنزلة السفيه من الفقيه فهذا زاهد في قرب هذا ... وهذا فيه أزهد منه فيه ومنها: هذا البيت المفرد: رام نفعًا فضَر من غير قصد ... ومن البر ما يكون عقوقا ومنها، وهو ينبئ عن كرمه، وشرف شيمه: يا لهف نفسي على مال أجود به ... على المقلين من أهل المروءات إن اعتذاري إلى من جاء يسألني ... ما ليس عندي من إحدى المصيبات ومنها في الصداقة: صديق ليس ينفع يوم بأس ... قريب من عدو في القياس وما يُبغى الصديق بكل عصر ... ولا الإخوان إلا للتآسي عمدت الدهر ملتمسًا بجهدي ... أخا ثقة فأعياه التماسي تنكرت البلاد علي حتى ... كأن أناسها ليسوا بناس ومنها في الاعتماد على النفس من دون الناس: إذا المشكلات تصدينني ... كشفت حقائقها بالنظر ولست بإمعة في الرجا ... ل أسائل هذا وذا ما الخبر ولكنني مدره الأصغر ... ين فتاح خير وفراج شر ومنها في المال ورفعة شأن أهله في نظر الناس وإن كانوا أخساء: وأنطقت الدراهم بعد صمت ... أناسًا بعد أن كانوا سكوتا فما عطفوا على أحد بفضل ... ولا عرفوا لمكرمة بيوتا ومنها في العلم وصونه عن غير أهله: أأنثر درًّا بين سارحة النعم ... وأنظم منثورًا لراعية الغنم فإن يسر الله الكريم بفضله ... وألفيت أهلاً للعلوم وللحكم بثثت مفيدًا واستفدت وداده ... وإلا فمخزون لديّ ومكتتم فمن منحَ الجهال علمًا أضاعه ... ومن منع المستوجبين فقد ظلم وتزوج الإمام جارية من قريش فكان يلاطفها ويداعبها ويقول: ومن البَلِيّة أن تحب ... فلا يحبك من تحبه فتجيبه هي: ويصد عنك بوجهه ... وتلح أنت فلا تغبه وروى السبكي بسنده إلى البويطي صاحب الإمام قال: قلت للشافعي: قد قلت في الزهد، فهل لك في الغزل شيء؟ فأنشدني: يا كاحل العين بعد النوم بالسهر ... ما كان كحلك بالمبعوث للبصر لو أن عيني إليك الدهر ناظرة ... جاءت وفاتي ولم أشبع من النظر سقيًا لدهر مضى ما كان أطيبه ... لولا التفرق والتغبص بالسفر إن الرسول الذي يأتي بلا عدة ... مثل السحاب الذي يأتي بلا مطر وبسنده إلى صاحبه الربيع بن سليمان قال: كنت عند الشافعي إذ جاءه رجل برقعة، فقرأها ووقع فيها، فمضى الرجل وتبعته إلى باب المسجد فقلت: والله لا تفوتني فتيا الشافعي، فأخذت الرقعة من يده فوجدت فيها: سل المفتي المكي هل في تزاور ... وضمة مشتاق الفؤاد جُناح وقد وقَّع عليها الشافعي بهذا البيت: فقلت: معاذ الله أن يُذهب التقى ... تلاصق أكباد بهن جراح قال الربيع: فأنكرت على الشافعي أن يفتي لحدث بمثل هذا، فقلت: يا أبا عبد الله، تفتي بمثل هذا لمثل هذا الشاب؟ فقال لي: يا أبا محمد، هذا رجل هاشمي قد أعرس في هذا الشهر (رمضان) وهو حديث السن، فسأل هل عليه جُناح أن يقبِّل أو يضم من غير وطء. فأفتيته بهذا. قال الربيع: فتبعت الشاب فسألته عن حالته فذكر لي أنه مثلما قال الشافعي، فرأيته أحسن فيه، وفَّقنا الله للاقتداء بهذا الإمام الجليل في علمه وعمله وخُلُقه وأدبه.