بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين للإمام العلامة الحافظ ابن القيم رحمه الله تعالى
في مشاهد الخلق في المعصية وهي ثلاثة عشر مشهدًا [١] : مشهد الحيوانية وقضاء الشهوة - ومشهد اقتضاء رسوم الطبيعة ولوازم الخلقة - ومشهد الجبر - ومشهد القدر - ومشهد الحكمة - ومشهد التوفيق والخذلان - ومشهد التوحيد - ومشهد الأسماء والصفات - ومشهد الإيمان وتعدد شواهده - ومشهد الرحمة - ومشهد العجز والضعف - ومشهد الذل والافتقار - ومشهد المحبة والعبودية. فالأربعة الأول للمنحرفين، والثمانية البواقي لأهل الاستقامة. وأعلاها المشهد العاشر. وهذا الفصل من أجلِّ فصول الكتاب وأنفعها لكل أحد، وهو حقيق بأن تثنى عليه الخناصر، ولعلك لا تظفر به في كتاب سواه، إلا ما ذكرناه في كتابنا المسمى بسفر الهجرتين في طريق السعادتين. *** فصل فأما (مشهد الحيوانية وقضاء الشهوة) فمشهد الجهال، الذين لا فرق بينهم وبين سائر الحيوان إلا في اعتدال القامة ونطق اللسان، ليس همهم إلا مجرد نيل الشهوة بأي طريق أفضت إليها. فهؤلاء نفوسهم نفوس حيوانية، لم تترق عنها إلى درجة الإنسانية، فضلاً عن درجة الملائكة. فهؤلاء حالهم أخس من أن تذكر، وهم في أحوالهم متفاوتون بحسب تفاوت الحيوانات التي هم على أخلاقها وطباعها. (فمنهم) من نفسه كلبية لو صادف جيفة تشبع ألف كلب لوقع عليها وحماها من سائر الكلاب، ونبح كل كلب يدنو منها، فلا تقربها الكلاب إلا على كره منه وغلبة، ولا يسمح لكلب بشيء منها، وهمه شبع بطنه من أي طعام اتفق: ميتة أو مذكى، خبيث أو طيب، ولا يستحيي من قبيح، إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث، إن أطعمته بصبص بذنبه ودار حولك، وإن منعته هرّك ونبحك. (ومنهم) من نفسه حمارية لم تخلق إلا للكد والعلف، كلما زيد في علفه زيد في كده، أبكم الحيوان وأقله بصيرة. ولهذا مثل الله سبحانه وتعالى به من حمله كتابه فلم يعرفه معرفة ولا فقهًا ولا عملاً. ومثل بالكلب عالم السوء الذي آتاه الله آياته فانسلخ منها وأخلد إلى الأرض واتبع هواه. وفي هذين المثلين أسرار عظيمة ليس هذا موضع ذكرها. (ومنهم) من نفسه سَبُعية غَضَبية، همته العدوان على الناس وقهرهم بما وصلت إليه قدرته، طبيعته تتقاضى ذلك كتقاضي طبيعة السبع لما يصدر منه. (ومنهم) من نفسه فاريَّة، فاسق بطبعه، مفسد لما جاوره، تسبيحه بلسان الحال: سبحان من خلقه للفساد. (ومنهم) من نفسه على نفوس ذوات السموم والحمات، كالحية والعقرب وغيرهما، وهذا الضرب هو الذي يؤذي بعينه فيدخل الرجل القبر، والجَمَل القِدْر، والعين وحدها لم تفعل شيئًا وإنما النفس الخبيثة السمية تكيفت بكيفية غضبية مع شدة حسد وإعجاب، وقابلت المعين على غرة منه وغفلة، وهو أعزل من سلاحه، فلدغته، كالحية التي تنظر إلى موضع مكشوف من بدن الإنسان فتنهشه، فإما عطب وإما أذى. ولهذا لا يتوقف أذى العائن على الرؤية والمشاهدة، بل إذا وصف له الشيء الغائب عنه وصل إليه أذاه. والذنب لجهل المعين وغفلته وغرته عن حمل سلاحه كل وقت. فالعائن لا يؤثر في شاكي السلاح، كالحية إذا قابلت درعًا سابغًا على جميع البدن ليس فيه موضع مكشوف، فحق على من أراد حفظ نفسه وحمايتها أن لا يزال متدرعًا متحصنًا، لابسًا أداة الحرب، مواظبًا على أوراد التعوذات والتحصينات النبوية التي في السنة والتي في القرآن [٢] . وعلى هذا الشبه اعتماد أهل التعبير للرؤيا في رؤية هذه الحيوانات في المنام عند الإنسان وفي داره أو أنها تحاربه. وهو كما اعتمدوه. وقد وقع لنا ولغيرنا من ذلك في المنام وقائع كثيرة. فكان تأويلها مطابقًا لأقوام على طباع تلك الحيوانات. وقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم في قصة أحد بقرًا تنحر، فكان ما أصيب من المؤمنين بنحر الكفار، فإن البقر أنفع الحيوان للأرض وبها صلاحها وفلاحها مع ما فيها من السكينة والمنافع والذِّل (بكسر الذال) فإنها ذلول مذللة منقادة غير أبية، والجواميس كبارهم ورؤساؤهم [٣] ورأى عمر بن الخطاب كأن ديكًا نقره ثلاث نقرات، فكان طعن أبي لؤلؤة له. والديك رجل أعجمي شرير. ومن الناس من طبعه طبع خنزير يمر بالطيبات فلا يلوي عليها، فإذا قام الإنسان عن رَجِيعة قَمَّه. وهكذا كثير من الناس يسمع منك ويرى من المحاسن أضعاف أضعاف المساوي، فلا يحفظها ولا ينقلها ولا تناسبه، فإذا رأى سقطة أو كلمة عوراء وجد بغيته وما يناسبها فجعلها فاكهته ونُقْلَه. (ومنهم) من هو على طبيعة الطاووس ليس له إلا التطوس والتزين بالريش وما وراء ذلك شيء، ومنهم من هو على طبيعة الجمل أحقد الحيوان وأغلظه كبدًا. (ومنهم) من هو على طبيعة الدب أبكم خبيث، وعلى طبيعة القرد [٤] . أحمد طبائع الحيوانات طبائع الخيل التي هي أشرف الحيوانات نفوسًا وأكرمها طبعًا، وكذلك الغنم، وكل من ألف ضربًا من ضروب هذه الحيوانات اكتسب من طبعه وخلقه، فإن تغذى لحمه كان الشبه أقوى. فإن الغاذي شبيه بالمتغذي [٥] . ولهذا حرم الله أكل لحوم السباع وجوارح الطير لما يورث آكله [٦] من شبه نفوسها بها والله أعلم. والمقصود أن أصحاب هذا المشهد ليس لهم شهود سوى ميل نفوسهم وشهواتهم لا يعرفون ما وراء ذلك ألبتة. *** فصل المشهد الثاني: مشهد رسوم الطبيعة ولوازم الخلقة كمشهد زنادقة الفلاسفة والأطباء الذين يشهدون أن ذلك من لوازم الخلقة والطبيعة الإنسانية، وأن تركيب الإنسان من الطبائع الأربع وامتزاجها واختلاطها كما يقتضي بغي بعضها على بعض وخروجه عن الاعتدال بحسب اختلاف هذه الأخلاط، فكذلك تركيبه من البدن والنفس والطبيعة والأخلاط الحيوانية يتقاضاه إثر هذه الخلقة ورسوم تلك الطبيعة، ولا تنقهر إلا بقاهر إما من نفسه وإما من خارج عنه. وأكثر النوع الإنساني ليس له قاهر من نفسه، فاحتياجه إلى قاهر فوقه يدخله تحت سياسة وإيالة ينتظم بها أمره ضرورية [٧] كحاجته إلى مصالحه من الطعام والشراب واللباس. وعند هؤلاء أن العاقل متى كان له وازع - من نفسه - قاهر لم يحتج إلى أمر غيره ونهيه وضبطه [٨] . فمشهد هؤلاء من حركات النفس الاختيارية الموجبة للجنايات، كمشهدهم من حركات الطبيعة الاضطرارية الموجبة للتغيرات [٩] وليس لهم مشهد وراء ذلك. *** فصل المشهد الثالث: مشهد أصحاب الجبر وهم الذين يشهدون أنهم مجبورون على أفعالهم، وأنها واقعة بغير قدرتهم، بل لا يشهدون أنها أفعالهم ألبتة. ويقولون: إن أحدهم غير فاعل في الحقيقة ولا قادر، وإن الفاعل فيه غيره والمحرك له سواه، وإنه آلة محضة، وحركاته بمنزلة هبوب الرياح وحركات الأشجار، وهؤلاء إذا أنكرت عليهم أفعالهم احتجوا بالقدر وحملوا ذنوبهم عليه، وقد يغلون في ذلك حتى يروا أفعالهم كلها طاعات خيرها وشرها، لموافقته للمشيئة والقدر. ويقولون: كما أن موافقة الأمر طاعة، فموافقة المشيئة طاعة. كما حكى الله تعالى عن المشركين إخوانهم أنهم جعلوا مشيئة الله تعالى لأفعالهم دليلاً على أمره بها ورضاه. وهؤلاء شر من القدرية النفاة، وأشد عداوة لله، ومناقضة لكتبه ورسله ودينه، حتى إن من هؤلاء من يعتذر عن إبليس ويتوجع له ويقيم عذره بجهده، وينسب ربه تعالى إلى ظلمه بلسان الحال والمقال، ويقول: ما ذنبه وقد صان وجهه عن السجود لغير خالقه؟ وقد وافق حكمه ومشيئته فيه وإرادته منه؟ ثم كيف يمكنه السجود وهو الذي منعه منه وحال بينه وبينه؟ وهل كان في ترك السجود لغير الله إلا محسنًا؟ ولكن: إذا كان المحب قليل حظ ... فما حسناته إلا ذنوب وهؤلاء أعداء الله حقًّا، وأولياء إبليس وأحباؤه وإخوانه. وإذا ناح منهم نائح على إبليس رأيت من البكاء والحنين أمرًا عجيبًا، ورأيت من تظلم الأقدار، واتهام الجبار، ما يبدو على فلتات ألسنتهم وصفحات وجوههم، وتسمع من أحدهم من التظلم والتوجع ما تسمعه من الخصم المغلوب العاجز عن خصمه. فهؤلاء هم الذين قال فيهم شيخ الإسلام ابن تيمية في تائيته: ويدعى خصوم الله يوم معادهم ... إلى النار طرًّا فرقة القدرية *** فصل المشهد الرابع: مشهد القدرية النفاة ويشهدون أن هذه الجنايات والذنوب هم الذين أحدثوها، وأنها واقعة بمشيئتهم دون مشيئة الله تعالى، وأن الله لم يقدر ذلك عليهم ولم يكتبه ولا شاءه ولا خلق أفعالهم، وأنه لأي قدر أن يهدي أحدًا ولا يضله إلا بمجرد البيان، إلا أنّه يلهمه الهدى والضلال، والفجور والتقوى، فيجعل ذلك في قلبه، ويشهدون أنه يكون في ملك الله ما لا يشاؤه، وأنه يشاء ما لا يكون، وأن العباد خالقون لأفعالهم بدون مشيئة الله. فالمعاصي والذنوب خلقهم وموجب مشيئتهم، لا أنها خلق الله ولا تتعلق بمشيئته. وهم لذلك مبخوسو الحظ جدًّا من الاستعانة بالله والتوكل عليه والاعتصام به، وسؤاله أن يهديهم، وأن يثبت قلوبهم وأن لا يزيغها، وأن يوفقهم لمرضاته ويجنبهم معصيته؛ إذ هذا كله واقع بهم وعين أفعالهم لا يدخل تحت مشيئة الرب. والشيطان قد رضي منهم بهذا القدر، فلا يؤزّهم إلى المعاصي ذلك الأزّ، ولا يزعجهم إليها ذلك الإزعاج. وله في ذلك غرضان مهمان: (أحدهما) أن يقرر في قلوبهم صحة هذا المشهد وهذه العقيدة، وأنكم تاركون الذنوب [١٠] والكبائر التي يقع فيها أهل السنة. فدل على أن الأمر مفوض إليكم، واقع بكم، وأنكم العاصمون لأنفسكم المانعون لها من المعصية. (الغرض الثاني) أنه يصطاد على أيديهم الجهال، فإذا رأوهم أهل عبادة وزهادة وتورع عن المعاصي وتعظيم لها قالوا: هؤلاء هم أهل الحق. والبدعة آثر عنده وأحب إليه من المعصية، فإذا ظفر بها منهم، واصطاد الجهال على أيديهم، كيف يأمرهم بالمعصية؟ بل ينهاهم عنها ويقبحها في أعينهم وقلوبهم، ولا يكشف هذه الحقائق إلا أرباب البصائر. *** فصل المشهد الخامس وهو أحد مشاهد أهل الاستقامة: مشهد الحكمة وهو مشهد حكمة الله في تقديره على عبده ما يبغضه سبحانه ويكرهه، ويلوم ويعاقب عليه، وأنه لو شاء لعصمه منه، ولحال بينه وبينه، وأنه سبحانه لا يعصى قسرًا، وأنه لا يكون في العالم شيء إلا بمشيئته {أَلاَ لَهُ الخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ العَالَمِينَ} (الأعراف: ٥٤) . وهؤلاء يشهدون أن الله سبحانه لم يخلق شيئًا عبثًا ولا سدًى، وأنه له الحكمة البالغة في كل ما قدره وقضاه من خير وشر، وطاعة ومعصية، وحكمة باهرة تعجز العقول عن الإحاطة بكنهها، وتكلّ الألسن عن التعبير عنها، فمصدر قضائه وقدره لما يبغضه ويسخطه اسمه الحكيم الذي بهرت حكمته الألباب، وقد قال تعالى لملائكته لما قالوا: {َتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} (البقرة: ٣٠) ؛ فأجابهم سبحانه بقوله: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} (البقرة: ٣٠) ، فللَّه سبحانه في ظهور المعاصي والذنوب والجرائم وترتب آثارها من الآيات والحكم، وأنواع التعرفات إلى خلقه، وتنويع آياته، ودلائل ربوبيته ووحدانيته، وإلهيته وحكمته وعزته، وتمام ملكه وكمال قدرته، وإحاطة علمه، ما يشهده أولو البصائر عيانًا ببصائر قلوبهم {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ} (آل عمران: ١٩١) ؛ إن هي إلا حكمتك الباهرة وآياتك الظاهرة. ولله في كل تحريكة ... وتسكينة أبدًا شاهد وفي كل شيء له آية ... تدل على أنه واحد فكم من آية في الأرض بينة دالة على الله وعلى صدق رسله وعلى أن لقاءه حق، كان سببها معاصي بني آدم وذنوبهم، كآيته في إغراق قوم نوح، وعلوّ الماء على رؤوس الجبال، حتى أغرق جميع أهل الأرض، ونجى أولياءه وأهل معرفته وتوحيده. فكم في ذلك من آية وعبرة، ودلالة باقية على ممر الدهور؟ وكذلك إهلاك قوم عاد وثمود. وكم له من آية في فرعون وقومه من حين بعث موسى إليهم؟ بل قبل مبعثه إلى حين إغراقهم، لولا معاصيهم وكفرهم لم تظهر تلك الآيات والعجائب. وفي التوراة أن الله تعالى قال لموسى: اذهب إلى فرعون فإني سأقسِّي قلبه وأمنعه عن [١١] الإيمان لأظهر آياتي وعجائبي بمصر. وكذلك فعل سبحانه فأظهر من آياته وعجائبه بسبب ذنوب فرعون وقومه ما أظهر. وكذلك إظهاره سبحانه ما أظهر من جعل النار بردًا وسلامًا على إبراهيم، بسبب ذنوب قومه ومعاصيهم، وإلقائهم في النار، حتى صارت تلك آية، وحتى نال إبراهيم ما نال من كمال الخلة. وكذلك ما حصل للرسل من الكرامة والمنزلة والزلفى عند الله والوجاهة عنده بسبب صبرهم على أذى قومهم وعلى محاربتهم لهم ومعاداتهم. وكذلك اتخاذ الله تعالى الشهداء والأولياء والأصفياء من بني آدم، بسبب صبرهم على أذى بني آدم من أهل المعاصي والظلم ومجاهدتهم في الله، وتحملهم لأجله من أعدائه ما هو بعينه وعلمه، واستحقاقهم بذلك رفعة الدرجات. إلى غير ذلك من المصالح والحكم التي وجدت بسبب ظهور المعاصي والجرائم، وكان من سببها تقدير ما يبغضه الله ويسخطه، وكان ذلك محض الحكمة، لما يترتب عليه مما هو أحب إليه وآثر عنده من فوته بتقدير عدم المعصية. فحصول هذا المحبوب العظيم، أحب إليه من فوات ذلك المبغوض المسخوط، فإن فواته وعدمه وإن كان محبوبًا له؛ لكن حصول هذا المحبوب الذي لم يكن يحصل بدون وجود ذلك المبغوض أحب إليه، فوات هذا المحبوب أكره إليه من فوات ذلك المكروه المسخوط، وكمال حكمته تقتضي حصول أحب الأمرين إليه بفوات أدنى المحبوبين، وأن لا يعطل هذا الأحب بتعطيل ذلك المكروه. وفرض الذهن وجود هذا بدون هذا، كفرضه وجود المسببات بدون أسبابها، والملزومات بدون لوازمها، مما تمنعه حكمة الله وكمال قدرته وربوبيته. ويكفي من هذا مثال واحد وهو أنه لولا المعصية من أبي البشر بأكله من الشجرة لما ترتب على ذلك ما ترتب من وجود هذه المحبوبات العظام للرب تعالى، من امتحان خلقه وتكليفهم، وإرسال رسله، وإنزال كتبه، وإظهار آياته وعجائبه، وتنويعها وتصريفها، وإكرام أوليائه، وإهانة أعدائه، وظهور عدله وفضله، وعزته وانتقامه، وعفوه ومغفرته، وصفحه وحلمه، وظهور من يعبده ويحبه ويقوم بمراضيه بين أعدائه في دار الابتلاء والامتحان. فلو قدر أن آدم لم يأكل من الشجرة ولم يخرج من الجنة هو وأولاده؛ لم يكن شيء من تلك، ولا ظهر من القوة إلى الفعل ما كان كامنًا في قلب إبليس يعلمه الله ولا تعلمه الملائكة، ولم يتميز خبيث الخلق من طيبه، ولم تتم المملكة حيث لم يكن هناك إكرام وثواب، وعقوبة وإهانة، ودار سعادة وفضل، ودار شقاوة وعدل. وكم في تسليط أوليائه على أعدائه، وتسليط أعدائه على أوليائه، والجمع بينهما في دار واحدة، وابتلاء بعضهم ببعض، من حكمة بالغة، ونعمة سابغة؟ وكم في طيها من حصول محبوب للرب، وحمد لله من أهل سماواته وأرضه، وخضوع له وتذلل، وتعبد وخشية وافتقار إليه، وانكسار بين يديه؟ أن لا يجعلهم من أعدائه، إذ هم يشاهدونهم ويشاهدون خذلان الله لهم، وإعراضه عنهم، ومقته لهم، وما أعد لهم من العذاب. وكل ذلك بمشيئته وإرادته، وتصرفه في مملكته، فأولياؤه من خشية خذلانه خاضعون مشفقون، على أشد وجل وأعظم مخافة، وأتم انكسار. فإذا رأت الملائكة إبليس وما جرى له، وهاروت وماروت، وضعت رؤوسها بين يدي الرب خضوعًا لعظمته، واستكانة لعزته، وخشية من إبعاده وطرده، وتذللاً لهيبته، وافتقارًا إلى عصمته ورحمته، وعلمت بذلك منته عليهم، وإحسانه إليهم، وتخصيصه لهم بفضله وكرامته. وكذلك أولياؤه المتقون، إذا شاهدوا أحوال أعدائه ومقته لهم، وغضبه عليهم، وخذلانه لهم، ازدادوا له خضوعًا وذلاًّ، وافتقارًا وانكسارًا، وبه استعانةً، وإليه إنابةً، وعليه توكلاً، وفيه رغبةً، ومنه رهبةً، وعلموا أنهم لا ملجأ لهم منه إلا إليه، وأنهم لا يعيذهم من بأسه إلا هو، ولا ينجيهم من سخطه إلا مرضاته، فالفضل بيده أولاً وآخرًا. وهذه قطرة من بحر حكمته المحيطة بخلقه. والبصير يطالع ببصيرته ما وراءه فيطلعه على عجائب من حكمته لا تبلغها العبارة، ولا تنالها الصفة. وأما حظ العبد في نفسه وما يخصه من شهود هذه الحكمة فبحسب استعداده وقوة بصيرته، وكمال علمه ومعرفته بالله وأسمائه وصفاته، ومعرفته بحقوق العبودية والربوبية، وكل مؤمن له من ذلك شِرْبٌ معلوم، ومقام لا يتعداه ولا يتخطاه [١٢] . *** فصل المشهد السادس: مشهد التوحيد وهو أن يشهد انفراد الرب تبارك وتعالى بالخلق والحكم، وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وأنه لا تتحرك ذرة إلا بإذنه، وأن الخلق مقهورون تحت قبضته، وأنه ما من قلب إلا وهو بين أصابعه، إن شاء أن يقيمه أقامه، وإن شاء أن يزيغه أزاغه. فالقلوب بيده وهو مقلبها ومصرفها كيف شاء وكيف أراد، وأنه هو الذي آتى نفوس المؤمنين تقواها، وهو الذي هداها وزكاها، وألهم نفوس الفجار فجورها وأشقاها (من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له) يهدي من يشاء بفضله ورحمته، ويضل من يشاء بعدله وحكمته. هذا فضله وعطاؤه، وما فضل الكريم بممنون [١٣] وهذا عدله وقضاؤه {لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} (الأنبياء: ٢٣) . قال ابن عباس: الإيمان بالقدر نظام التوحيد، فمن كذب بالقدر نقض تكذيبه توحيده، ومن آمن بالقدر صدق إيمانه توحيده. وفي هذا المشهد يتحقق للعبد مقام: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (الفاتحة: ٥) ، علمًا وحالاً، فيثبت قدم العبد في توحيده [١٤] الربوبية، ثم يرقى منه صاعدًا إلى توحيد الإلهية، فإنه إذا تيقن أن الضر والنفع، والعطاء والمنع، والهدى والضلال، والسعادة والشقاء، كل ذلك بيد الله لا بيد غيره، وأنه الذي يقلب القلوب ويصرفها كيف يشاء، وأنه لا موفق إلا من وفقه وأعانه، ولا مخذول إلا من خذله وأهانه وتخلى عنه، وإن أصح القلوب وأسلمها وأقومها، وأرقها وأصفاها، وأشدها وألينها، من اتخذه وحده إلهًا ومعبودًا، فكان أحب إليه من كل ما سواه، وأخوف عنده من كل ما سواه، وأرجى له من كل ما سواه، فتتقدم محبته في قلبه جميع المحاب، فتنساق المحاب تبعًا لها كما ينساق الجيش تبعًا للسلطان، ويتقدم خوفه في قلبه جميع المخوفات، فتنساق المخاوف كلها تبعًا لخوفه، ويتقدم رجاؤه في قلبه جميع الرجاء، فينساق كل رجاء تبعًا لرجائه. فهذا علامة توحيد الإلهية في هذا القلب، والباب الذي دخل إليه منه توحيد الربوبية، أي باب توحيد الإلهية توحيد الربوبية [١٥] فإن أول ما يتعلق القلب [١٦] بتوحيد الربوبية ثم يرتقي إلى توحيد الإلهية، كما يدعو سبحانه عباده في كتابه بهذا النوع من التوحيد إلى النوع الآخر، ويحتج عليهم به، ويقررهم به، ثم يخبر أنهم ينقضونه بشركهم به في الإلهية. وفي هذا المشهد يتحقق له مقام (إياك نعبد) قال الله تعالى: {وَلَئِن سَألْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} (العنكبوت: ٦١) ؛ أي فمن أين يصرفون عن شهادة أن لا إله إلا الله، وعن عبادته وحده، وهم يشهدون أنه لا رب غيره ولا خالق سواه [١٧] وكذلك قوله تعالى: {سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ} (المؤمنون: ٨٥) ؛ فتعلمون أنه إذا كان وحده مالك الأرض ومن فيها، وخالقهم وربهم ومليكهم، فهو وحده إلههم ومعبودهم، فكما لا رب لهم غيره، فهكذا لا إله لهم سواه {قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ * قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلاَ يُجَارُ عَلَيْهِ} (المؤمنون: ٨٦-٨٨) ... الآيات. وهكذا قوله في سورة النمل: {قُلِ الحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ * أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ} (النمل: ٥٩-٦٠) ، إلى آخر الآيات، يحتج عليهم بأن من فعل هذا وحده، فهو الإله وحده، فإن كان معه رب فعل هذا فينبغي أن تعبدوه، وإن لم يكن معه رب فعل هذا فكيف تجعلون معه إلهًا آخر؟ ولهذا كان الصحيح من القولين في تقدير الآية: (أإله مع الله فعل هذا؟) حتى يتم الدليل، فلا بد من الجواب بلا. فإذا لم يكن معه إله فعل كفعله فكيف تعبدون آلهة أخرى سواه؟ فعلم أن إلهية ما سواه باطلة، كما أن ربوبية ما سواه باطلة بإقراركم وشهادتكم. ومن قال: المعنى: هل مع الله إله آخر؟ من غير أن يكون المعنى (فعل) فقوله ضعيف لوجهين: (أحدهما) أنهم كانوا يقولون: مع الله إلهة أخرى، ولا ينكرون ذلك (الثاني) أنه لا يتم الدليل، ولا يحصل إفحامهم وإقامة الحجة عليهم إلا بهذا التقدير؛ أي فإذا كنتم تقولون: إنه ليس معه إله آخر فعل مثل فعله، فكيف تجعلون معه إلهًا آخر لا يخلق شيئًا وهو إعجاز؟ وهذا كقوله: {أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الوَاحِدُ القَهَّارُ} (الرعد: ١٦) . وقوله: {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ} (لقمان: ١١) . وقوله: {أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ} (النحل: ١٧) . وقوله: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ} (النحل: ٢٠) ، وقوله: {وَاتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ} (الفرقان: ٣) ، وهو كثير في القرآن وبه تتم الحجة كما تبين. والمقصود أن العبد يحصل له هذا المشهد من مطالعة الجنايات والذنوب وجريانها عليه وعلى الخليقة بتقدير العزيز الحكيم، وأنه لا عاصم من غضبه وأسباب سخطه إلا هو، ولا سبيل إلى طاعته إلا بمعونته، ولا وصول إلى مرضاته إلا بتوفيقه، فموارد الأمور كلها منه ومصادرها إليه، وأزِمَّة التوفيق جميعها بيديه، فلا مستعان للعباد إلا به، ولا متكل إلا عليه [١٨] كما قال شعيب خطيب الأنبياء: {وَمَا تَوْفِيقِي إلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} (هود: ٨٨) . *** فصل المشهد السابع: مشهد التوفيق والخذلان وهو من تمام هذا المشهد وفروعه، ولكن أفرد بالذكر لحاجة العبد إلى شهوده وانتفاعه به. وقد أجمع العارفون بالله أن التوفيق هو أن لا يكلك الله إلى نفسك [١٩] ، والخذلان هو أن يخلي بينك وبين نفسك. فالعبيد متقلبون بين توفيقه وخذلانه، بل العبد في الساعة الواحدة ينال نصيبه من هذا وهذا، فيطيعه ويرضيه ويذكره ويشكره بتوفيقه له، ثم يعصيه ويخالفه ويسخطه ويغفل عنه بخذلانه له. فهو دائر بين توفيقه وخذلانه، فإن وفقه فبفضله ورحمته، وإن خذله فبعدله وحكمته، وهو المحمود على هذا وهذا، له أتم حمد وأكمله، ولم يمنع العبد شيئًا هو له، وإنما منعه ما هو مجرد فضله وعطائه، وهو أعلم حيث يضعه وأين يجعله. فمتى شهد العبد هذا المشهد وأعطاه حقه، علم ضرورته وحاجته إلى التوفيق كل نفس وكل لحظة وطرفة عين، وإن إيمانه وتوحيده بيده تعالى [٢٠] لو تخلى عنه طرفة عين لثُلَّ عرش توحيده، ولخرت سماء إيمانه على الأرض، وإن الممسك له من يمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه. فهجّيرَى قلبه [٢١] ودأب لسانه: (يا مقلّب القلوب ثبت قلبي على دينك، يا مصرّف القلوب صرّف قلبي إلى طاعتك) ودعواه: (يا حيّ يا قيوم يا بديع السموات والأرض يا ذا الجلال والإكرام، لا إله إلا أنت برحمتك أستغيث، أصلح لي شأني كله، ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين ولا إلى أحد من خلقك) ، ففي هذا المشهد يشهد توفيق الله وخذلانه، كما يشهد ربوبيته وخلقه، فيسأله توفيقه مسألة المضطر، ويعوذ به من خذلانه عياذ الملهوف، ويُلقي نفسه بين يديه، طريحًا ببابه، مستسلمًا له، ناكس الرأس بين يديه، خاضعًا ذليلاً مستكينًا، لا يملك لنفسه ضرًّا ولا نفعًا، ولا موتًا ولا حياةً ولا نشورًا. والتوفيق إرادة الله من نفسه أن يفعل بعبده ما يصلح به العبد، بأن يجعله قادرًا على فعل ما يرضيه، مريدًا له، محبًّا له، مؤثرًا له على غيره، ويبغض إليه ما يسخطه ويكرهه إليه. وهذا مجرد فعله، والعبد محل له، قال تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إلَيْكُمُ الكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ* فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (الحجرات: ٧-٨) . فهو سبحانه عليم بمن يصلح لهذا الفضل ومن لا يصلح له، حكيم يضعه في مواضعه وعند أهله، لا يمنعه أهله، ولا يضعه عند غير أهله. وذكر هذا عقيب قوله: {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الأَمْرِ لَعَنِتُّمْ} (الحجرات: ٧) ، ثم جاء به [٢٢] بحرف الاستدراك فقال: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إلَيْكُمُ الإِيمَانَ} (الحجرات: ٧) ؛ يقول سبحانه: لم تكن محبتكم للإيمان وإرادته وتزيينه في قلوبكم منكم، ولكن الله هو الذي جعله في قلوبكم كذلك فآثرتموه ورضيتموه؛ فلذلك لا تقدموا بين يدي رسولي ولا تقولوا حتى يقول ولا تفعلوا حتى يأمر. فالذي حبب إليكم الإيمان أعلم بمصالح عباده منكم، وأنتم فلولا توفيقه لكم [٢٣] لما أذعنت نفوسكم للإيمان، فلم يكن الإيمان بمشورتكم وتوفيق أنفسكم، ولا تقدمتم به إليها، فنفوسكم تقصر وتعجز عن ذلك ولا تبلغه، فلو أطاعكم رسولي في كثير مما تريدون لشق عليكم ذلك، ولهلكتم وفسدت مصالحكم وأنتم لا تشعرون، ولا تظنوا أن نفوسكم تريد بكم الرشد والصلاح، كما أردتم الإيمان، فلولا أني حببته إليكم وزينته في قلوبكم، وكرهت إليكم ضده، لما وقع منكم ولا سمحت به أنفسكم. وقد ضرب للتوفيق والخذلان مثلُ مَلِك أَرسل إلى أهل بلد من بلاده رسولا؛ وكتب معه [٢٤] كتابًا يعلمهم أن العدو مصبحهم عن قريب، ومجتاحهم ومخرب البلد ومهلك من فيها، وأرسل إليهم أموالاً ومراكبَ وزادًا وعدةً وأدلةً، وقال: ارتحلوا إليّ مع هؤلاء الأدلة، وقد أرسلت إليكم جميع ما تحتاجون إليه. ثم قال لجماعة من مماليكه: اذهبوا إلى فلان فخذوا بيده واحملوه [٢٥] ولا تذروه يقعد، واذهبوا إلى فلان كذلك وإلى فلان، وذروا من عداهم فإنهم لا يصلحون أن يساكنوني في بلدي. فذهب خواص مماليكه إلى من أمروا بحملهم فلم يتركوهم يقرون، بل حملوهم حملاً وساقوهم سوقًا إلى الملك، فاجتاح العدو من بقي في المدينة وقتلهم، وأسر من أسر. فهل يعد الملك ظالمًا لهؤلاء أم عادلاً فيهم؟ نعم؛ خَصّ أولئك بإحسانه وعنايته وحرمها من عداهم؛ إذ لا يجب عليه التسوية بينهم في فضله وإكرامه، بل ذلك فضله يؤتيه من يشاء. وقد فسرت القدرية الجبرية التوفيق بأنه خلق الطاعة، والخذلان (بأنه) خلق المعصية. ولكن بنوا ذلك على أصولهم الفاسدة من إنكار الأسباب والحكم، وردوا الأمر إلى محض المشيئة من غير سبب ولا حكمة. وقابلهم القدرية النفاة، ففسروا التوفيق بالبيان العام، والهدي العام، والتمكن من الطاعة والإقبال عليها وتهيئة أسبابها. وهذا حاصل لكل كافر ومشرك بلغته الحجة وتمكن من الإيمان. فالتوفيق عندهم أمر مشترك بين الكفار والمؤمنين، إذ الأقدار والتمكين والدلالة والبيان قد عمّ به الفريقين [٢٦] ولم يفرد المؤمنين عندهم بتوفيق وقع به الإيمان منهم، والكفار بخذلان امتنع به الإيمان منهم، ولو فعل ذلك لكان عندهم محاباة وظلمًا. والتزموا لهذا الأصل لوازم قامت بها عليهم سوق الشناعة بين العقلاء ولم يجدوا بدًّا من التزامها، فظهر فساد مذهبهم، وتناقض أقوالهم [٢٧] لمن أحاط به علمًا وتصوره حق تصوره، وعلم أنه من أبطل مذهب (؟) في العالم وأرداه. وهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم. فلم يرضوا بطريق هؤلاء ولا طريق هؤلاء، وشهدوا انحراف الطريقين عن الصراط المستقيم، فأثبتوا القضاء والقدر وعموم مشيئة الله للكائنات وأثبتوا الأسباب والحكم والغايات والمصالح، ونزهوا الله عز وجل أن يكون في ملكه ما لا يشاء، أو أن يقدر خلقه على ما لا يدخل تحت قدرته ولا مشيئته، أو أن يكون شيء من أفعالهم واقعًا بغير اختياره وبدون مشيئته. ومن قال ذلك فلم يعرف ربه، ولم يثبت له كمال الربوبية. ونزهوه مع ذلك عن العبث وفعل القبيح وأن يخلق شيئًا سدًى، وأن تخلو أفعاله عن حِكَم بالغة لأجلها أوجدها، وأسباب بها سبّبها، وغايات جعلت طرقًا ووسائل إليها. وأن له في كل ما خلقه وقضاه حكمة بالغة. وتلك الحكمة صفة له قائمة به ليست مخلوقة كما تقول القدرية النفاة للقدر والحكمة في الحقيقة. فأهل الصراط المستقيم بريئون من الطائفتين، إلا من حق تتضمنه مقالاتهم، فإنهم يوافقونهم عليه ويجمعون حق كل منهما إلى حق الأخرى، ولا يبطلون ما معهم من الحق لِمَا قالوه من الباطل، فهم شهداء الله على الطوائف أمناء عليهم، حكام بينهم، حاكمون عليهم، ولا يحكم عليهم أحد منهم، يكشفون أحوال الطوائف، ولا يكشفهم إلا من كشف له عن معرفة ما جاء به الرسول [٢٨] وعرف الفرق بينه وبين غيره ولم يلتبس عليه، وهؤلاء أفراد العالم ونخبته وخلاصته، ليسوا من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعًا، ولا من الذين تقطعوا أمرهم بينهم زبرًا، بل ممن هو على بينة من ربه وبصيرة في إيمانه، ومعرفة بما عند الناس، والله الموفق. *** فصل المشهد الثامن: مشهد الأسماء والصفات وهو من أجلّ المشاهد، وهو أعلى مما قبله وأوسع. والمطلع [٢٩] على هذا المشهد معرفة تعلق الوجود خلقًا وأمرًا بالأسماء الحسنى، والصفات العلى، وارتباطه بها، وإن كان العالم بما فيه من بعض آثارها ومقتضياتها. وهذا من أجل المعارف وأشرفها، وكل اسم من أسمائه سبحانه له صفة خاصة، فإن أسماءه أوصاف مدح وكمال، وكل صفة لها مقتضٍ وفِعل: إما لازم وإما متعدٍّ، ولذلك الفعل تعلق بمفعول هو من لوازمه، وهذا في خلقه وأمره وثوابه وعقابه، كل ذلك آثار الأسماء الحسنى وموجباتها. ومن المحال تعطيل أسمائه عن أوصافها ومعانيها، وتعطيل الأوصاف عما تقتضيه وتستدعيه من الأفعال، وتعطيل الأفعال عن المفعولات، كما أنه يستحيل تعطيل مفعوله عن أفعاله، وأفعاله عن صفاته، وصفاته عن أسمائه، وتعطيل أسمائه وأوصافه عن ذاته. وإذا كانت أوصافه صفات كمال، وأفعاله حكمًا ومصالحَ، وأسماؤه حسنى، ففرض تعطيلها عن موجباتها مستحيل في حقه. ولهذا ينكر سبحانه على من عطله عن أمره ونهيه وثوابه وعقابه، وأنه نسبه إلى ما لا يليق به، ويتنزه عنه [٣٠] وأن ذلك حكم سيئ ممن حكم به عليه، وإن من نسبه إلى ذلك فما قدره حق قدره، ولا عظمه حق تعظيمه، كما قال تعالى في حق منكري النبوة وإرسال الرسل وإنزال الكتب: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ} (الأنعام: ٩١) ، وقال تعالى في حق منكري المعاد والثواب والعقاب: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ وَالسَّمَوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} (الزمر: ٦٧) . وقال في حق من جوز عليه التسوية بين المختلفين كالأبرار والفجار، والمؤمنين والكفار: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} (الجاثية: ٢١) . فأخبر أن هذا حكم سيئ لا يليق به، تأباه أسماؤه وصفاته، وقال سبحانه: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ المَلِكُ الحَقُّ لاَ إِلَهَ إلا َّ هُوَ رَبُّ العَرْشِ الكَرِيمِ} (المؤمنون: ١١٥-١١٦) ، عن هذا الظن والحسبان، الذي تأباه أسماؤه وصفاته. ونظائر هذا في القرآن كثير، ينفي عن نفسه خلاف موجب أسمائه وصفاته، إذ ذلك [٣١] مستلزم تعطيلها عن كمالها ومقتضياتها، فاسمه الحميد المجيد يمنع ترك الإنسان سدًى مهملاً معطلاً، لا يؤمر ولا ينهى ولا يثاب ولا يعاقب، وكذلك اسمه الحكيم، يأبى ذلك، وكذلك اسمه الملك، واسمه الحي يمنع أن يكون معطلاً من الفعل بل حقيقة الحياة الفعل، فكل حيّ فعّال، وكونه سبحانه خالقًا قيومًا من موجبات حياته ومقتضياتها، واسمه السميع البصير يوجب مسموعًا ومرئيًّا، واسمه الخالق يقتضي مخلوقًا. وكذلك الرزاق. واسمه الملك يقتضي مملكةً وتصرفًا وتدبيرًا وإعطاءً ومنعًا وإحسانًا وعدلاً وثوابًا وعقابًا. واسم البر المحسن المعطي المنان ونحوها تقتضي آثارها وموجباتها. إذا عرف هذا فمن أسمائه سبحانه الغفار التواب العفو [٣٢] فلا بد لهذه الأسماء من متعلقات، ولا بد من جناية تغفر، وتوبة تقبل، وجرائم يعفى عنها. ولا بد لاسمه الحكيم من متعلق يظهر فيه حكمه [٣٣] إذ اقتضاء هذه الأسماء لآثارها كاقتضاء اسم الخالق الرازق المعطي المانع للمخلوق والمرزوق والمعطى والممنوع، وهذه الأسماء كلها حسنى، والرب تعالى يحب ذاته وأوصافه وأسماءه. فهو عفو يحب العفو، ويحب المغفرة ويحب التوبة، ويفرح بتوبة عبده حين يتوب إليه أعمّ فرح يخطر بالبال. وكان تقدير ما يغفره ويعفو عن فاعله ويحلم عنه ويتوب عليه ويسامحه من موجب أسمائه وصفاته، وحصول ما يحبه ويرضاه من ذلك، وما يحمد به نفسه ويحمده به أهل سماواته وأهل أرضه، ما هو من موجبات كماله ومقتضى حمده. وهو سبحانه الحميد المجيد، وحمده ومجده يقتضيان آثارهما ومن آثارهما مغفرة الزلات، وإقالة العثرات، والعفو عن السيئات، والمسامحة على الجنايات، هذا [٣٤] مع كمال القدرة على استيفاء الحق، والعلم منه سبحانه بالجناية ومقدار عقوبتها، فحلمه بعد علمه، وعفوه بعد قدرته، ومغفرته عن كمال عزته وحكمته، كما قال المسيح - صلى الله عليه وسلم - {إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ} (المائدة: ١١٨) . أي فمغفرتك عن كمال قدرتك وحكمتك، لست كمن يغفر عجزًا، ويسامح جهلاً بقدر الحق، بل أنت عليم بحقك، قادر على استيفائه، حكيم في الأخذ به. فمن تأمل سريان آثار الأسماء والصفات في العالم وفي الأمر تبين له أن مصدر قضاء هذه الجنايات من العبيد، وتقديرها هو من كمال الأسماء والصفات والأفعال، وغاياتها أيضًا مقتضى حمده ومدده، كما هو مقتضى ربوبيته وإلهيته، فله في كل ما قضاه وقدره الحكمة البالغة، والآيات الباهرة، والتعرفات إلى عباده بأسمائه وصفاته، واستدعاء محبتهم له وذكرهم له وشكرهم له، وتعبدهم له بأسمائه الحسنى، إذ كل اسم فله تعبد مختص به علمًا ومعرفةً وحالاً، وأكمل الناس عبودية المتعبد بجميع الأسماء والصفات التي يطلع عليها البشر، فلا يحجبه عبودية اسم عن عبودية اسم آخر، كمن يحجبه التعبد باسمه القدير، عن التعبد باسمه الحكيم الرحيم، أو يحجبه عبودية اسمه المعطي من عبودية اسمه المانع، أو عبودية اسمه الرحيم والعفو والغفور عن اسمه المنتقم، أو التعبد بأسماء التودد والبر واللطف والإحسان عن أسماء العدل والجبروت والعظمة والكبرياء ونحو ذلك. وهذه طريقة الكمّل من السائرين إلى الله، وهي طريقة مشتقة من قلب القرآن. قال الله تعالى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} (الأعراف: ١٨٠) ، والدعاء بها يتناول دعاء المسألة ودعاء الثناء ودعاء التعبد. وهو سبحانه يدعو عباده إلى أن يعرفوه بأسمائه وصفاته، ويثنوا عليه بها، ويأخذوا بحظهم من عبوديتها، وهو سبحانه يحب موجب أسمائه وصفاته. فهو عليم يحب كل عليم، وجوَادٌ يحب كل جواد، وتْرٌ يحب الوتر، جميل يحب الجمال، عفو يحب العفو وأهله، حيي يحب الحياء وأهله، بر يحب الأبرار، شكور يحب الشاكرين، صبور يحب الصابرين، حليم يحب أهل الحلم، فلمحبته سبحانه للتوبة والمغفرة والعفو والصفح خلق من يغفر له ويتوب عليه ويعفو عنه، وقدر عليه ما يقتضي وقوع المكروه والمبغوض له، ليترتب عليه المحبوب له المرضي له، فتوسطه كتوسط الأسباب المكروهة المفضية إلى المحبوب. فربما كان مكروه النفوس إلى ... محبوبها سببًا ما مثله سبب والأسباب مع مسبباتها أربعة أنواع: محبوب يفضي إلى محبوب، ومكروه يفضي إلى محبوب. وهذان النوعان عليهما مدار أقضيته وأقداره سبحانه بالنسبة إلى ما يحبه ويكرهه. والثالث مكروه يفضي إلى مكروه. والرابع محبوب يفضي إلى مكروه. وهذان النوعان ممتنعان في حقه سبحانه، إذ الغايات المطلوبة من قضائه وقدره - الذي خلق ما خلق وقضى ما قضى لأجل حصولها - لا تكون إلا محبوبة للرب مرضية له، والأسباب الموصلة إليها منقسمة إلى محبوب له ومكروه له. فالطاعات والتوحيد أسباب محبوبة له موصلة إلى الإحسان والثواب المحبوب له أيضًا، والشرك والمعاصي أسباب مسخوطة له، موصلة إلى العدل المحبوب له، وإن كان الفضل أحب إليه من العدل؛ فاجتماع العدل والفضل أحب إليه من انفراد أحدهما، لما فيهما من كمال الملك والحمد، وتنوع الثناء وكمال القدرة. فإن قيل: كان يمكن حصول هذا المحبوب من غير توسط المكروه. قيل هذا سؤال باطل لأن وجود الملزوم بدون لازمه ممتنع، والذي يقدر الذهن وجوده شيء آخر غير هذا المطلوب المحبوب للرب، وحكم الذهن عليه بأنه محبوب للرب حكم بلا علم، بل قد يكون مبغوضًا للرب تعالى لمنافاته حكمته، فإذا حكم الذهن عليه بأنه محبوب له كان نسبة له إلى ما لا يليق به ويتعالى عنه. فليعط اللبيب هذا الموضع حقه من التأمل فإنه مزلة أقدام، ومضلة إفهام، ولو أمسك عن الكلام من لا يعلم لقل الخلاف. وهذا المشهد أجل من أن يحيط به كِتاب، أو يستوعبه خطاب، وإنما أشرنا منه إلى أدنى إشارة تطلع على ما وراءها، والله الموفق [٣٥] . *** فصل المشهد التاسع: مشهد زيادة الإيمان وتعدد شواهده وهذا من ألطف المشاهد وأخصها بأهل المعرفة. ولعل سامعه يبادر إلى إنكاره ويقول: كيف يشهد زيادة الإيمان من الذنوب والمعاصي؟ ولا سيما ذنوب [٣٦] العبد ومعاصيه، وهل ذلك إلا منقص للإيمان؟ فإنه بإجماع السلف يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية. فاعلم أن هذا حاصل من التفات العارف إلى الذنوب والمعاصي منه ومن غيره، وإلى ترتب آثارها عليها. وترتب هذه الآثار عليها علم من أعلام النبوة، وبرهان من براهين صدق الرسل وصحة ما جاءوا به. فإن الرسل صلوات الله وسلامه عليهم أمروا العباد بما فيه صلاح ظواهرهم وبواطنهم في معاشهم ومعادهم، ونهوهم عما فيه فساد ظواهرها وبوطنهم في المعاش والمعاد، وأخبروهم عن الله عز وجل أنه يحب كذا وكذا [٣٧] وأنه يبغض كيت وكيت، ويعاقب عليه بكيت وكيت، وأنه إذا أطيع بما أمر به شكر عليه بالإمداد، والزيادة والنعم في القلوب والأبدان والأموال، ووجد العبد زيادته وقوته في حاله كلها، وإنه إذا خولف أمره ونهيه ترتب عليه من النقص والفساد والضعف والذل والنهاية والحقارة وضيق العيش وتنكد الحياة ما ترتب، كما قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (النحل: ٩٧) ، وقال: {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُم مَّتَاعاً حَسَناً إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ} (هود: ٣) . وقال تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ أَعْمَى} (طه: ١٢٤) ؛ وفسرت المعيشة الضنك بعذاب القبر؛ والصحيح أنها في الدنيا وفي البرزخ، فإن من أعرض عن ذكره الذي أنزله فله من ضيق الصدر ونكد العيش وكثرة الخوف وشدة الحرص والتعب على الدنيا والتحسر على فواتها قبل حصولها وبعد حصولها، والآلام التي في خلال ذلك - ما لا يشعر به القلب - لسكرته وانغماسه في السكر، فهو لا يصحو ساعة إلا أحس وشعر بهذا الألم فبادر إلى إزالته بسكر ثانٍ، فهو هكذا مدة حياته. وأي عيشة أضيق من هذه لو كان للقلب شعور فقلوب أهل البدع والمعرضين عن القرآن وأهل الغفلة عن الله وأهل المعاصي في جحيم قبل الجحيم الكبرى، وقلوب الأبرار في نعيم قبل النعيم الأكبر، {إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} (الانفطار: ١٣-١٤) ، هذا في دورهم الثلاث ليس مختصًّا بالدار الآخرة، وإن كان تمامه وكماله وظهوره إنما هو في الدار الآخرة [٣٨] وفي البرزخ دون ذلك، كما قال تعالى: {وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَاباً دُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} (الطور: ٤٧) ، وقال تعالى: {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ رَدِفَ لَكُم بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ} (النمل: ٧١-٧٢) ، وفي هذه الدار دون ما في البرزخ، ولكن يمنع من [٣٩] الإحساس به الاستغراق في سكرة الشهوات، وطرح ذلك عن القلب وعدم التفكير فيه. والعبد قد يصيبه ألم حسي فيطرحه عن قلبه ويقطع التفاته عنه، ويجعل إقباله على غيره لئلا يشعر به جملةً، فلو زال عن ذلك الالتفات لصاح من شدة الألم فما الظن بعذاب القلوب وآلامها؟ ! وقد جعل الله سبحانه للحسنات والطاعات آثارًا محبوبة لذيذة طيبة لذاتها فوق لذة المعصية بأضعاف مضاعفة لا نسبة لها إليها، وجعل للسيئات والمعاصي آلامًا وآثارًا مكروهةً، وحرازات تربي على لذة تناولها بأضعاف مضاعفة. قال ابن عباس: إن للحسنة نورًا في القلب، وضياءً في الوجه، وقوةً في البدن، وزيادةً في الرزق، ومحبةً في قلوب الخلق. وإن للسيئة سوادًا في الوجه وظلمةً في القلب ووهنًا في البدن، ونقصًا في الرزق، وبغضةً في قلوب الخلق. وهذا يعرفه صاحب البصيرة ويشهده من نفسه ومن غيره، فما حصل للعبد حال مكروهة قط إلا بذنب، وما يعفو الله عنه أكثر. قال الله تعالى: {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ} (الشورى: ٣٠) ، وقال لخيار خلقه وأصحاب نبيه: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ} (النساء: ٧٩) ، والمراد بالحسنة والسيئة هنا النعم والمصائب التي تصيب العبد من الله. ولهذا قال (ما أصابك) ولم يقل: ما أصبت. فكل نقص وبلاء وشر في الدنيا والآخرة فسببه الذنوب ومخالفة أوامر الرب، فليس في العالم شر قط إلا الذنوب وموجباتها. وآثار الحسنات والسيئات في القلوب والأبدان، والأموال أمر مشهود في العالم، لا ينكره ذو عقل سليم، بل يعرفه المؤمن والكافر، والبر والفاجر، وشهود العبد هذا في نفسه وفي غيره وتأمله ومطالعته مما يقوي إيمانه بما جاءت به الرسل، وبالثواب والعقاب، فإن هذا عدل مشهود محسوس في هذا العالم، ومثوبات وعقوبات عاجلة دالة على ما هو أعظم منها لمن كانت له بصيرة، كما قال بعض الناس: إذا صدر مني ذنب ولم أبادره ولم أتدراكه بالتوبة انتظرت أثره السيئ، فإذا أصابني أو فوقه أو دونه كما حسبت، يكون هجيراي: (أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله) ويكون ذلك من شواهد الإيمان وأدلته، فإن الصادق مني أخبرك إنك إذا فعلت كذا وكذا ترتب عليه من المكروه كذا وكذا، فجعلت كلما فعلت شيئًا من ذلك حصل ما قال من المكروه لم تزدد إلا علمًا بصدقه وبصيرةً فيه، وليس هذا لكل أحد، بل أكثر الناس يرين الذنوب على قلبه فلا يشهد شيئًا من ذلك ولا يشعر به ألبتة. وإنما يكون هذا لقلب فيه نور الإيمان، وأهوية الذنوب والمعاصي تعصف فيه، فهو يشاهد هذا وهذا، ويرى حال مصباح إيمانه مع قوة تلك الأهوية والرياح، فيرى نفسه كراكب البحر عند هيجان الرياح وتقلب السفينة وتكفئها، ولا سيّما إذا انكسرت به وبقي على لوح تلعب به الرياح، فهكذا المؤمن يشاهد نفسه عند ارتكاب الذنوب، إذا أريد به الخير، وإن أريد به غير ذلك فقلبه في وادٍ آخر. ومتى انفتح هذا الباب للبعد انتفع بمطالعة تاريخ العالم وأحوال الأمم، ومجريات الخلق، بل انتفع بمجريات أهل زمانه وما يشاهده من أحوال الناس، وفهم حينئذ معنى قوله تعالى: {أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} (الرعد : ٣٣) ، وقوله: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إلا َّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا العِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إلا َّ هُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ} (آل عمران: ١٨) ، فكل ما تراه في الوجود من شر وألم وعقوبة وجدب ونقص في نفسك وفي غيرك فهو من قيام الرب تعالى بالقسط، وهو عدل الله وقسطه، وإن أجراه على يدِ ظالم فالمُسَلِّط له أعدل العادلين، كما قال تعالى لمن أفسد في الأرض: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَا أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ} (الإسراء: ٥) ... الآية، فالذنوب مثل السموم مضرة بالذات، فإن تداركها من سقي بالأدوية المقاومة لها ...، وإلا قهرت القوة الإيمانية وكان الهلاك، كما قال بعض السلف: المعاصي بريد الكفر، كما أن الحمى بريد الموت فشهود العبد نقص حاله إذا عصى ربه، وتغير القلوب عليه وجفولها منه، وانسداد الأبواب في وجهه، وتوعر المسالك عليه وهو أنه على أهل بيته وأولاده وزوجته وإخوانه [٤٠] وتطلبه ذلك حتى يعلم من أين أتى، ووقوعه على السبب الموجب لذلك مما يقوي إيمانه. فإن أقلع وباشر الأسباب التي تفضي به إلى ضد هذه الحال، ورأى العز بعد الذل، والغنى بعد الفقر، والسرور بعد الحزن، والأمن بعد الخوف، والقوة في قلبه - بعد ضعفه ووهنه - ازداد إيمانًا مع إيمانه، فتقوى شواهد الإيمان في قلبه، وبراهينه وأدلته في حال معصيته وطاعته، فهذا من الذين {لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ} (الزمر: ٣٥) ، وصاحب هذا المشهد متى تبصر فيه وأعطاه حقه صار من أطباء القلوب العالمين بدائها ودوائها، فنفعه الله في نفسه ونفع به من شاء من خلقه، والله أعلم. *** فصل المشهد العاشر: مشهد الرحمة فإن العبد إذا وقع في الذنب خرج من قلبه تلك الغلظة والقسوة، والكيفية الغضبية التي كانت عنده لمن صدر منه ذنب، حتى لو قدر عليه لأهلكه، وربما دعا الله عليه أن يهلكه ويأخذه غضبًا منه لله وحرصًا على أن لا يعصى، فلا يجد في قلبه رحمة للمذنبين الخاطئين ولا يراهم إلا بعين الاحتقار والازدراء، ولا يذكرهم إلا بلسان الطعن فيهم والعيب لهم والذم، فإذا جرت عليه المقادير وخلي ونفسه استغاث بالله والتجأ إليه، وتململ بين يديه تململ السليم، ودعاه دعاء المضطر، فتبدلت تلك الغلظة على المذنبين رقة، وتلك القساوة على الخاطئين رحمة ولينًا، مع قيامه بحدود الله، وتبدل دعاؤه عليهم دعاءًا لهم، وجعل لهم وظيفة من عمره؛ يسأل الله فيه أن يغفر لهم، فما أنفعه له من مشهد، وما أعظم جدواه عليه! والله أعلم. *** فصل فيورثه ذلك (المشهد الحادي عشر) وهو مشهد العجز والضعف، وأنه أعجز شيء عن حفظ نفسه وأضعفه، وأنه لا قوة له ولا قدرة ولا حول إلا بربه، فيشهد قلبه كريشة ملقاة بأرض فلاة تقلبها الرياح يمينًا وشمالاً، ويشهد نفسه كراكب سفينة في البحر تهيج بها الرياح، وتتلاعب بها الأمواج، ترفعها تارة وتخفضها تارة أخرى، تجري عليه أحكام القدر وهو كالآلة طريحًا بين يدي وليه ملقى ببابه، واضعًا خده على ثرى أعتابه، لا يملك لنفسه ضرًّا ولا نفعًا ولا موتًا ولا حياةً ولا نشورًا، ليس له من نفسه إلا الجهل والظلم وآثارهما ومقتضياتهما، فالهلاك أدنى إليه من شراك نعله، كشاة ملقاة بين الذئاب والسباع لا يردهم عنها إلا الراعي، فلو تخلى عنها طرفة عين لتقاسموها أعضاءً. هكذا حال العبد ملقى بين الله وبين أعدائه من شياطين الإنس والجن، فإن حماه منهم وكفهم عنه لم يجدوا إليه سبيلاً، إن تخلى عنه ووكله إلى نفسه طرفة عين لم ينقسم عليهم بل هو نصيب من ظفر به منهم. وفي هذا المشهد يعرف نفسه حقًّا، ويعرف ربه، وهذا أحد التأويلات للكلام المشهور (من عرف نفسه عرف ربه) وليس هذا حديثًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنما هو أثر إسرائيلي بغير هذا اللفظ أيضًا (يا إنسان اعرف نفسك تعرف ربك) وفيه ثلاث تأويلات: (أحدها) أن من عرف نفسه بالضعف؛ عرف ربه بالقوة، ومن عرفها بالعجز؛ عرف ربه بالقدرة، ومن عرفها بالذل؛ عرف ربه بالعز، ومن عرفها بالجهل؛ عرف ربه بالعلم، فإن الله سبحانه استأثر بالكمال المطلق والحمد والثناء والمجد والغنى، والعبد فقير ناقص محتاج، وكلما ازدادت معرفة العبد بنقصه وعيبه وفقره وذله وضعفه، ازدادت معرفته لربه بأوصاف كماله. (التأويل الثاني) أن من نظر إلى نفسه وما فيها من الصفات الممدوحة من القوة والإرادة والكلام والمشيئة والحياة، عرف أن من أعطاه ذلك وخلقه فيه أولى به، فمعطي الكمال أحق بالكمال، فكيف يكون العبد حيًّا متكلمًا سميعًا بصيرًا مريدًا عالمًا، يفعل باختياره، ومن خلقه وأوجده لا يكون أولى بذلك منه؟ . فهذا من أعظم المحال، بل من جعل العبد متكلمًا أولى أن يكون هو متكلمًا، ومن جعله حيًّا عليمًا سميعًا بصيرًا فاعلاً قادرًا، أولى أن يكون كذلك. فالتأويل الأول من باب الضد وهذا من باب الأولوية. (والتأويل الثالث) أن هذا من باب النفي. أي كما أنك لا تعرف نفسك التي هي أقرب الأشياء إليك، فلا تعرف حقيقتها ولا ماهيتها ولا كيفيتها، فكيف تعرف ربك وكيفية صفاته؟ . والمقصود أن في هذا المشهد يعرف العبد أنه عاجز ضعيف، فيزول عنه رعونات الدعاوى والإضافات إلى نفسه، ويعلم أنه ليس له من الأمر شيء وليس بيده شيء؛ إن هو إلا محض الفقر والعجز والضعف. (للبحث بقية) ((يتبع بمقال تالٍ))