للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


موعظة للمسلمين بآيات الكتاب المبين

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ الحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلاَ يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ
الغَرُورُ} (فاطر: ٥) ، {مَن كَانَ يُرِيدُ العِزَّةَ فَلِلَّهِ العِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكَلِمُ
الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ
هُوَ يَبُورُ} (فاطر: ١٠) {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا
لاَ يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا
الصَّلاةَ وَمَن تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ المَصِيرُ * وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى
وَالْبَصِيرُ * وَلاَ الظُّلُمَاتُ وَلاَ النُّورُ * وَلاَ الظِّلُّ وَلاَ الحَرُورُ * وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَاءُ
وَلاَ الأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَن يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي القُبُورِ} (فاطر:
١٨-٢٢) ، {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا
وَمِنَ الجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ * وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ
وَالأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ *
إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِراًّ وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ
تِجَارَةً لَّن تَبُورَ * لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ} (فاطر:
٢٧-٣٠) .
لك الحمد اللهم أن أنزلت هذه الآيات البينات بلسان عربي مبين على عبدك
ورسولك محمد خاتم النبيين، وإمام المصلحين، فأنرت بها وبأمثالها تلك الظلمات،
وأحييت بها أولئك الأموات، فأقاموا ما أنزلت من الكتاب والميزان [١] وأدبوا
بالحديد من أباهما من أهل الطغيان، حتى تزلزلت في الممالك تلك التقاليد، وألقت
اليهم الأمم بالمقاليد فكانوا وهم الأميون أئمة أهل الكتاب والحكمة، وسادة أهل
السلطان والقوة؛ فصل وسلم اللهم على ذلك النبي المرشد الحكيم {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا
وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ
رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} (الحشر: ١٠) .
ثم خلف من بعد هذا السلف الصالح خلف كفروا بنعمة آياتك فاستبدلوا بها
مذاهب وتقاليد هم بها عاملون {فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ
فَرِحُونَ} (المؤمنون: ٥٣) وغرتهم الحياة الدنيا فطغوا بالميزان , وغرهم بالله
الغرور فانحرفوا عن صراط القرآن، وطلبوا العزة بالكلم الخبيث دون العمل
الصالح والسعي الحثيث؛ فكانت عزتهم ذلاًّ وكثرهم قلاً، ومكروا السيئات فقادوا
العلماء والفقهاء بسلاسل سياسة السلاطين والأمراء، وأوهموا الوازرين والخاطئين
بأن سيحمل أثقالهم عنهم نفر من صلحاء الميتين؛ ففسدت الأعمال والنيات، واتكل
الأحياء على شفاعة الأموات، وتبع ذلك تفرق الكلمة بالباطل، وعدم الاجتماع على
نصرة الحق؛ فخلا الجو للأمراء الظالمين والرؤساء الغارِّين، وفسد بذلك على الأمة
أمر الدنيا والدين.
طغوا في الكتاب ففضلوا الأعمى على البصير، وطغوا في الميزان، فاختاروا الظلمات على النور؛ وأخرجوا الأمة من الظل إلى الحرور , وفقدوا حياة العمل والتعاون فاستمدوا المعونة من أصحاب القبور.
جهلوا آيات الله في الأكوان , وحكمه في اختلاف الأوضاع والألوان،
ورغبوا عن معرفته تعالى بآياته في الآفاق وفي أنفسهم كما أرشدهم القرآن،
وحاولوا معرفته بنظريات فلسفة اليونان فتماروا بالبيان، وقلدوا في الدليل
والبرهان؛ فكانوا بلا علم ولا عرفان، ولا خشية ولا إذعان؛ وإنما هي دعاوي يلوكها اللسان، وأماني يسولها الشيطان.
وجملة القول أنهم أضاعوا مقاصد القرآن كلها، وإن شئت قلت: أضاعوا
دين الإسلام كله فإن الإسلام هو القرآن وما جاء في بيانه من سنة النبي - عليه
الصلاة والسلام - قال تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (النحل: ٤٤) ، وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا كان شيء من أمر دينكم
فإليَّ؛ وإذا كان شيء من أمر دنياكم فأنتم أعلم به) رواه أحمد ومسلم وابن ماجه
عن أنس، والأخير عن عائشة، وقال أيضًا: (أنتم أعلم بأمر دنياكم) رواه مسلم
عن أنس وعائشة.
وقد حرم علينا الخلف الطالح الاهتداء بالقرآن والسنة في أمر ديننا، ولم
يعطونا حرية للعمل في أمر دنيانا، وزعموا أن الدين هو حكم بذلك التحريم،
وبسلب هذه الحرية. فإذا احتجت عليهم بالكتاب والسنة على أن طريقتهم هي
المخالفة للدين؛ قالوا: إنما نحن وإياك من المقلدين. وإذا استدلت عليهم بالعقل؛
قالوا: إنما أنت من الملحدين، ولا يرضيهم إلا اتباع آرائهم وآراء بعض المؤلفين
الميتين. على هذا جرى علماء الرسوم مع الحكام والسلاطين فهدموا ذلك البناء المتين
وما زالوا هادمين، وكذلك أهلك الله من أهلك من الأمم باستبداد الرؤساء المترفين.
ليت هذه الأمة التي نكبت بهؤلاء الرؤساء في دينها ودنياها تعلم ما هي قوتهم
التي يستعينون بها عليها. ليتها تعلم أنها هي قوتهم التي بها يعتزون، وأنها هي
معاولهم التي بها يهدمون، وإنها هي قوتهم التي بها يحتجون، ذلك بأنهم إذا قالوا:
إن وضع كتب الشريعة بصفة سهلة كوضع كتب القوانين بدعة منكرة، قالت العامة: بدعة منكرة. وإن أدى هذا القول إلى استبدال القانون الفرنسي بالشريعة. وإذا
قالوا: إن العلوم الطبيعية والرياضية كفر أو طريق إلى الكفر قالت العامة: هي
كفر وأي كفر، وإن حرمت الأمة بذلك من مجاراة الأمم الحية، وصارت تحت
أقدام الأمم التي يسمونها كافرة فاجرة، فيا ليت هذه الأمة تعلم من أضاع شريعتها
ودينها ومن أفسد عليها أمر دنياها، ويا ليتها تعلم أنهم ما قدروا عليها لولاها.
طال زمن الهدم في هذه الأمة لاتفاق رؤساء الدين مع رؤساء الدنيا عليه،
ولكن قد تباينت الرغائب في هذا العصر لا سيما في البلاد الهندية والعثمانية
والمصرية؛ فقد دخلت في الأمم بعض العلوم العصرية، والأعمال المدنية؛
فانقسمت الأمم إلى قسمين عظيمين: قسم يريد المحافظة على التقاليد والعادات
القديمة باسم الدين، وسلاحه موافقة العامة، وقسم يريد الانسلاخ منها، وأكثر أهله
من الخاصة. وأهم ما استفاد هذا القسم من التعليم الجديد حرية الفكر؛ لذلك تولد من
بين هذين الزوجين قسم ثالث يريد التوفيق بينهما وإقناع الجميع بأن الإسلام دين
الفطرة والمدنية ودين العلم والعقل، والمنار إنما أنشئ لهذه الدعوة وتأييد هذا
الحزب وتنميته، والرجاء بالله أن يكون هذا الحزب هو الفائز والعاقبة له {فَأَمَّا
الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ} (الرعد: ١٧) .