عن فتوى شيخ الإسلام بالحكم بغير المذهب الحنفي أو أوامر مهمة في إصلاح القضاء الشرعي [*]
بسم الله الرحمن الرحيم لا يخفى أن محاسن الشريعة المحمدية يسرها وسماحتها ومشيها مع المصالح في كل شئونها، ولذا كان من أوائل أصولها ودعائم قواعدها أن لا ضرر ولا ضرار، واتساع الأمر إذا ضاق، ورفع الحرج والعسر، ونحو ذلك من قوانينها المقرَّرة، ونواميسها المحرَّرة، فاليسر ورفع العسر لازمٌ من لوازمها، وخاصَّة من خصائصها، كما أن من مَزاياها وفرة المآخذ لأحكامها، وتنوع المدارك لفروعها، فقد فتح بفضل ذلك أبواب لمخارج لولاها لضاقت الصدور. وقد رحم الله سبحانه - وله الحمد - هذه الأمة بكثرة مجتهديها وانتشار فقه أئمتها، وتلقي ذلك خلفًا عن سلف حتى سهل الانتفاع بعلومهم وفروع أصولهم، والاستمداد من مدوناتهم وفتاويهم، وحتى أصبح أسلوب التفريع في كتب الفقه والفتاوى خير رائد لتعلم الحكم والقضاء وتوليد الفروع من الأصول، وتعرف الأشباه والنظائر. أقول: كتب الفقه، وأعني بها كتب عامة الأئمة المجتهدين وأصحابهم وأتباعهم رضوان الله عليهم، فهي التي تجلى فيها يسر الدين ورحمته، وكاد أن لا تقع نازلة إلا ويجد المنقِّب لهم كلامًا في أمرها، هذا إذا نظر إلى النوازل من الوجهة الفقهية؛ وأما إذا نظر إليها من الوجهة الأصولية فلا ريب أن آيات الأحكام المنزلة، وأحاديثها المصححة والمحسنة كافية وافية كلها بمنطوقها ومفهومها، عامة لكل ما جَدَّ ويَجِدُّ. من هنا كان الخلاف رحمة، أي اختلاف المآخذ وتنوع وجوه المَدَارك وتعدد مناحي المصالح؛ إذ بذلك صار يتسنى تعرف الأقوى فالأقوى من الأقوال، والأصلح فالأصلح من الأقضية لمراعاة الأحوال، وارتفع الحرج من التحريج على الأفكار، واستبان الأحق بالقبول، ولم يبق إلا تطبيق العلم على العمل. ومن المعلوم أن كثيرًا من مسائل القضاء الشرعية كمسألة فسخ عقد من يغيبون غيبة منقطعة إنما يتمشى القضاء بها على بعض المذاهب دون البعض، فكم من أقضية لا يتيسر القضاء بها الآن على مذهب النائب الشرعي الحنفي لانحصار قضائه في مذهبه الذي أنيب للحكم به؟ وأما على غير مذهبه فيمكن القضاء بها إلا أن أمر تنفيذ القضاء بها موقوف على توسيع الإذن للنائب الحنفي بأن يولي القضاء لمن يقضي بتلك النازلة على مذهبه ممن يراه أهلاً للقضاء والحكم، فإذا قضى هذا نفذ النائب الأصلي قضاءه فينفذ حينئذ. وأما الوقائع لهذه القضية التي سهل العمل بها الآن، وكان مغلقًا دونها أبواب التنفيذ فلا تحصى أيضا، فيعلم الناس أن من الرجال من يغيب عن زوجته غيبة ينقطع بها خبره، أو يكون لا مال له حاضر ينفق عليها منه أو يعسر بنفقتها المعروفة فيفر من وجهها ويتعذر الإنفاق عليها حينئذ لفقد مال له تعاش به أو تراش، فكيف المخرج لهذه البائسة أتبقى؟ على هذه الحالة التي سكرات الموت أهون منها، أم ترجع إلى ما عسى أن يكون لها في الشرع الأنور فرج ومخرج؟ لا جرم أن لها فرجًا ومخرجًا، والدين ليس بالجافي، وإن ضاق بها مذهب فقد يتسع لها مذاهب، وأقوال الأئمة اشتملت على كثير مما فيه سعة ورحمة. أنا لا أحصي مذاكراتي مع قضاة دمشق وسواها لحل هذه المعضلة، وإزاحة هذه المشكلة، بل كثيرًا ما فاتحت بها مبعوثي سورية وغيرها ممن رغبت إليهم في اقتراح توسيع المجلة بأبواب أخر، لا سيما في بابي النكاح والوقف، بل كلمت مرة في ذلك شقيق أحد الصدور العظام لما قدم دمشق، كل ذلك لما يحمله قلبي من همِّ تلك النازلة؛ وما يشغل فكري على المدى من تلمس المَخرج لها. ما اتفق أني تجولت في ضواحي دمشق ومراكز أقضيتها إلا وشكا لي خيار نوابها ومن نزلت بهم هذه المسألة ضيق صدورهم بمصابها، فكم يشكو آل الزوجة غيبة الزوج في بلاد أميركا مثلاً وانقطاع خبره وطول مدة غيبته وإهماله إقامة وكيل عنه ينفق على زوجته، أو فقدان مال له ينفق عليها، وعدم صبرها على ذلك، لا سيما مع قلة ذات يدها وفقر آلها؟ أحضروا لي مرة امرأة بهذه الحالة معلقة، وذكروا أنه صار لزوجها بضع سنين في أمريكا ولا كتاب منه ولا خبر، ولا حوالة بمال، ولا صلة بحال، ولا أهل له ولا وكيل، وأخذوا يبكون على نضوب ماء حسنها، وقرب الزهادة فيها، ووكس مهرها، ووجودها بين أترابها كالمعلقة، لا مزوجة ولا مطلقة، وتجرع مرارة الفراق، وهموم تسيل الدم من المآق، وأنهم كانوا كلما انتجعوا وجهًا لحل عقدتها لا يجدون، وكان يعتذر لهم النواب بأن فسخ هذا النكاح سُدَّت دونه الأبواب، حتى يصدر الأمر من المشيخة الإسلامية بالعمل على فسخه، وإبطاله ونسخه. أما الآن فقل للنواب والقضاة في عامة المراكز والجهات قد صدر الأمر تلو الأمر من مقام المشيخة الجليلة مؤيدًا بالإرادة السنية بالقيام بفسخ هذا النكاح، وإليك ما أذنت به المشيخة الإسلامية الجليلة لعام ١٢٩٣ وأرسلت أمرها بذلك للولايات ليحفظ في سجلات محاكمها الشرعية مُعَرَّبًا عن الأصل بالتركية [١] . عدد (نمرو) ٢٩٩: ورد من قِبَل علماء لواء السليمانية كتاب يستفتون فيه عما إذا كان الحكم العالي الناصّ بأن للقاضي الحنفي أن يأمر وفقًا للمذهب الشافعي بفسخ عقد من يغيبون غيبة منقطعة وتزويج زوجاتهم من غيرهم، والمرسل [٢] سنة ١٢٧٢ جوابًا على ما ورد من متصرفية الموصل لا يزال إلى اليوم مستمرًّا أم لا؟ ويرجون في كتابهم بعد الآن تعيين نواب عالمين بالمذهبين لينظر في الدعاوى الواقعة وتفصل على المذهب الشافعي فيما إذا كان الطرفان شافعيين أو على المذهب الحنفي فيما إذا كان المتخاصمان حنفيين أو أحدهما فقط حنفيًّا بباعث أن كثيرين من أهالي السليمانية وكركوك وقرى سنجار وأربيل شافعيون كما أن ولاية بغداد وأهل المغرب يتمذهبون بالمذهب المالكي، وكذلك معظم أهل نجد حنابلة، وقد حول كتابهم واستفتاؤهم إلى دار الفتوى، وأجيب عنه بأنه لما كان القضاة الكرام في زماننا مأمورين بأن يحكموا على المذهب الحنفي، وأنهم ممتنعون من تنفيذ حكم خلاف مذهبهم، وأن قضاء قاضٍ على خلاف رأيه فيما هو مجتهد فيه لا ينفذ على القول المفتى به - كان جعل النائب مأذونًا له بأن يحكم بأقوال بقية المذاهب مخالفًا للقول المفتى به ومؤديًا لتشويش أمور العباد. غير أن الكتب الفقهية المعتبرة صرحت بأنه يصح شرعًا تفويض ذلك إلى رجل شافعي ليحكم فيها على المذهب الشافعي؛ لذلك وجب في المسائل المختلف فيها كالطلاق والنكاح إذا كان المتداعيان شافعيين أن ينتخب المفتي الشافعي أو من كان أعلم وأفقه علماء البلدة، وكان معروفًا بالعقل وموصوفًا بالدين والاستقامة، ويفوض إليه ويطلب منه الحكم ثم يقوم بتنفيذه القاضي الحنفي؛ وأن يجري على هذا الوجه أيضا في المالكي والحنبلي. ولما كان يفهم من مآل مذكرة (؟) أنه يجب على القضاة الشرعيين المعينين في تلك الأنحاء أن يستحصلوا في ذلك إذنًا من قبل مستجمع الشرف وملجأ الخلافة وكان ذلك أوفق للمصلحة، فقد استؤذن من حضرة ظل الله في الأرض أن تجري المعاملات المذكورة بموجب الفتوى المقدمة فصدرت إرادته - التي من شأنها الإصابة - آذنة بذلك، وقد سطرنا لكم هذا الرقيم لتهتموا بعد الآن بأن تعملوا بمنطوقه الجليل عندكم. في ١٠ صفر سنة ١٢٩٣ وفي شباط ١٢٩١ ... ... شيخ الإسلام ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... حسن فهمي وإليك صورة الفتوتيين الجليلتين من جانب المشيخة الإسلامية لهذا العهد تعزيزًا للفتوى المتقدمة، أُرسلتا لقضاء المدينة المنورة غب مراسلته لها بذلك: عدد (نومرو) ٤٧: جواب الرسالة البرقية المؤرخة في ٢٥ نيسان سنة ١٣٢٨: يُفهم من مؤدى التحريرات القديمة المتضمنة فسخ النكاح، والمؤرخة في ١٠ صفر سنة ٩٣ وذات العدد التاسع والتسعين بعد المائتين أن للقاضي الحنفي الحق شرعًا أن يعطي إذنًا للأشخاص المسطرين ضمنها بأن يحكموا وفقًا للمذاهب الأخرى، وقد بودر بإشعار الكيفية إلى جانب فضيلتكم مع نص دار الفتوى في ٩ جمادى الأخرى سنة ١٣٣٠ وفي ٣٠ مارس سنة ١٣٢٨. ... ... ... ... ... ... ... ... ... شيخ الإسلام ... ... ... ... ... ... ... ... عبد الرحمن نسي ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... عدد (نومرو) ٩١: لما كان أشعر بمحررات جوابية مؤرخة في ٩ جمادى الآخرة سنة ١٣٣٠، وذات العدد السابع والأربعين بأن للقاضي الحنفي الحق شرعًا أن يعطى إذنًا للأشخاص المسطرين ضمنها بأن يحكموا وفقًا للمذاهب الأخرى كما يفهم من مؤدى التحريرات القديمة المتضمنة فسخ النكاح والمؤرخة في ١٠ صفر سنة ١٢٩٣، وذات العدد التاسع والتسعين بعد المائتين أرسل لكم ذلك مطويًّا مع رسالة برقية مقدَّمة بإمضاء السيد محمد، تحتوي بعض الجمل في ذلك الباب. في ٢٩ رمضان سنة ١٣٣٠ وفي ٢٩ آغستوس سنة ٣٢٨. ... ... ... ... ... ... ... ... ... شيخ الإسلام ... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد جمال الدين وبعد فإن من يتدبر هذه الفتاوى الجليلة يعلم أنه إذا عمل بها قضاتنا ونوابنا حينما تمس الحاجة إليها فإنها تُزاح بها آصار وغموم، ولا سيما في بعض مسائل الزوجية التي لا يقضى بها على مذهب الحنفية، ويسهل الحكم بها على المذاهب الأخرى. ومن الصور التي يفسخ بها النكاح على غير مذهب الحنفية إعسار الزوج بالنفقة أو انقطاع خبره ولا مال له، ففي الصورتين لها فسخ النكاح ففي (المنهاج وحواشيه) من كتب الشافعية: إن من أعسر بأقل نفقة أو كسوة أو مسكن ولم تصبر فلها الفسخ إن ثبت إعساره عند قاضٍ بإقراره أو بينة وكذا إذا انقطع خبره، ولا مال له حاضر، فلها الفسخ كما في كتاب النفقات. وفي (الإقناع وشرحه) من كتب الحنابلة: أنه متى تعذَّر الإنفاق على الزوجة بأن لم يكن للزوج مال ولا نقد ولا عرض ولا عقار - فلها الفسخ؛ لتعذر الإنفاق عليها من ماله كحال الإعسار. وفي (بداية المجتهد) للإمام ابن رشد من أئمة المالكية ما مثاله: وأما الإعسار بالنفقة فقال مالك والشافعي وأحمد وأبو ثور وأبوعبيد وجماعة: يفرق بينهما. وكذلك يعتبر عند الحنابلة الشروط التي تحصل عند العقد، وهي ما يقتضيه العقد أو تنتفع به المرأة فكله لازم للزوج بمعنى ثبوت الخيار لها بعدمه وقد قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب: (مقاطع الحقوق عند الشروط) . وتفاصيل الفروع في المطولات. لهذا كان من الواجب المحتَّم على نواب المراكز والألوية والأقضية أن يحتفظوا بهذه الأوامر الشرعية والفتاوى الجليلة في باب الزوجية؛ وليقيدوها في سجلاتهم وليحافظوا عليها؛ وليحفظوها لمحاكماتهم؛ وليقوموا بها في كل دعوى أقيمت على هذه الحال؛ ولينفذوا حكمها بما أمر به مشايخ الإسلام الأعلام، بتفويض ذلك إلى من يقضي بها ثم ينفذون الحكم في الحال؛ وليرحموا من تنزل بهم هذه النازلة من البائسات؛ وليوفوا بما عهد إليهم من ذلك لا سيما وقد صدرت به الإرادة السنية التي طاعتها في الحق من الواجبات، ومن خالف من القضاة بعد وضوح المحجة، فقد قامت عليه الحجة، والله حسيبه، وعليه حسابه. اهـ. (المنار) إن حل المشيخة الإسلامية لهذا المشكل بهذه الصورة حسن، يحصل به المقصود ويكفي للخروج من الحرج، وبه تفك قيود المحاكم الشرعية في القطر المصري وأكثر أهله شافعية فمالكية، بل يجوز لمن يسمون حنفية تبعا لآبائهم أن يطلبوا الحكم بمذهب الشافعي أو غيره فيها إذا احتاجوا إلى ذلك في مثل الواقعة التي أشار إليها ناشر هذه الأوامر وفي غيرها من الوقائع، والعامي لا مذهب له إلا مذهب مفتيه والحكم يرفع الخلاف. وكان يمكن أن يحل شيخ الإسلام حسن فهمي أفندي وغيره المشكلة بغير ما حلها به؛ ولكنه أراد التفصي من الإذن لقضاة الترك الحنفية بالحكم بمذهب الشافعي أو غيره؛ لجهلهم بهذه المذاهب؛ ولئلا يضطرب أمر القضاء بتوسيع مجال الأحكام فيه، وتتناوح أهواء القضاة إن أذن لهم بالحكم بما يرونه الأصلح من هذه المذاهب في كل واقعة، ولا يمكن جعل الإذن خاصًّا بمسألة أو مسألتين كفسخ النكاح، ولا تحب حكومة الآستانة أن تولي على كل بلاد قضاة من أهل المذهب الذي عليه جميع أهلها أو أكثرهم؛ لأن من سياستها جذب الناس إلى مذهب الدولة، أراد الشيخ التفصي من ذلك وتعليل أمر القضاة بالحكم بالمذهب الحنفي وعدم تنفيذ غيره، فعلله أولاً بقوله: (وإن قضاء قاضٍ على خلاف رأيه فيما هو مجتهد فيه لا ينفذ على القول المفتى به) فكان هذا تعليلا في غير محله؛ لأن القاضي المجتهد غير موجود عندهم، فإن كان موجودًا وجب أن يولَّى على أن يحكم باجتهاده وحينئذ لا ينفذ ما يحكم به على خلاف رأيه، وإن وافق المذهب الحنفي، فالحق أنه لا فرق في القضاة المقلدين الذين ليس لهم رأي في المسائل بين حنفي وشافعي، ومسألة التنفيذ تابعة للسلطة فكل من عيَّنه السلطان القادر على التنفيذ ينفذ حكمه مهما كان المذهب الذي أمره بالحكم به، وليست المسألة تعبدية. وقد كان الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده رحمه الله تعالى طاف على المحاكم الشرعية مفتشًا لها بإذن الحكومة عقب توليه إفتاء الديار المصرية، وكتب تقريرًا ضافيًا في طريقة إصلاحها، اقترح فيه عدم حصر القضاء في الحنفية توسعة على الأمة، واقترح أيضا أن تؤلف لجنة من العلماء لاستخراج كتاب في أحكام المعاملات الشرعية ينطبق على مصالح الناس في هذا العصر، ولا سيما الأحكام التي هي من خصائص المحاكم الشرعية؛ ونحن لإيضاح المقام الذي نتكلم فيه نذكر عبارته، ثم ما أيدناها به في مقدمتنا لذلك التقرير عند طبعه، أما عبارته فهذا نصها: الأحكام (ما عليه العمل من أقوال العلماء في الأحكام الشرعية مذكور في الكتب مخلوطًا بالخلاف والبحث وطرق الترجيح، ومن رفعت إليه واقعة شرعية قد يصعب عليه الحكم فيها إلا بعد مراجعته بعض المؤلفات الطويلة، وربما احتاج إلى مراجعة عدة منها في أبواب مختلفة، وكثير من القضاة لا طاقة لهم باستخراج الأحكام من هذه المطولات، وفي الحق أن ذلك غير ميسور إلا لقليل ممن يصح توليته القضاء، اللهم إلا بعد إصلاح طريقة تعليم الفقه في الجامع الأزهر وإعادتها إلى ما كان عليه السلف الصالح، وذلك أمر بعيد المنال الآن. نعم يجب أن يكون القاضي مقتدرًا على البحث والمراجعة في المشكلات أما في كل حكم فذلك من العسر بمكان، وقد كثر الخطأ في أحكام الأوقاف والطلاق والمهور والوصايا ونحو ذلك لهذا السبب. ثم إنه توجد شئون للمسلمين تقضي الضرورة بالنظر فيها وبيان الأحكام التي ترفع الضرر وتقرر العدل ولا تخالف الشرع، بل هي من قوامه كأحكام الغائب والمفقود الذي ترك مالا، وهل يمكن إقامة وصي يخاصم له ويحفظ ماله ويدفع الخصوم عنه، وتنفذ الأحكام عليه بالنيابة عنه؟ وهي من المسائل الخلافية في المذاهب والوقائع فيها كثيرة، ورجال المحاكم فيها مضطربون، وكالزوجة يتركها زوجها بلا منفق، أو يغيب عنها الغيبة الطويلة وتنقطع أخباره أو يكون غير معروف المقر ولا أمل في الوصول إليه لو حكم عليه بالنفقة، أو كان من المحكوم عليه بالأشغال الشاقة أو السجن لمدد طويلة وتخشى على نفسها الفتنة، أو لا تجد ما تنفق منه ولا من تستدين منه على حساب الزوج، ومثلها التي يكون زوجها حاضرًا ولكنه لا ينفق عليها وهي مضطرة لما تنفق منه، وكذلك التي يضارها زوجها في العشرة، فجميع ذلك مما عمت به البلوى وكثرت فيه الشكوى من جميع أنحاء البلاد، وكثير من النساء يُبحن أنفسهن افتتانًا أو اضطرارًا للقوت؛ لأنهن لم يجدن السبيل إلى دفع الضرورة، أو المخلص من الفتنة في المحاكم الشرعية على حالتها التي هي عليها الآن، أليس من الواجب أن نفزع إلى الشريعة الإسلامية المطهرة؛ لنجد فيها الوسيلة إلى وقاية الأعراض والأنفس، مع أن المحافظة عليهما من أهم مقاصد الدين الإسلامي والشريعة السمحة، ولا نعدم في نصوصها وسيلة إلى أهم ما جاءت له. كل ذلك يجب أن يوضع بين يدي لجنة من العلماء ليستخرجوا من الأحكام الشرعية ما فيه شفاء لعلل الأمة في جميع أبواب المعاملات خصوصًا ما لا يمكن النظر فيه لغير المحاكم الشرعية من الأحوال الشخصية والأوقاف ويكون ما يستخرجونه كتابًا شاملاً لكل ما تمس إليه الحاجة في تلك الأبواب ويضم إلى ما يستخلص في أبواب المرافعات الشرعية، ويصدر الأمر بأن يكون عمل القضاة عليه، فإذا أغمض عليهم أمر راجعوا فيه من يكون في وظيفة إفتاء الحقانية أو الديار المصرية، وعليه أن ينظر فيه بنفسه أو مع لجنة العلماء على حسب الحاجة. اهـ. (المنار) ليعلم القارئ أن هذا الاقتراح لم يُقبل ولم تعمل به الحكومة المصرية على شدة الحاجة إليه، لا لإقامة العدل فقط بل لحفظ الدين أيضًا، وكان من سبب ذلك جمود قاضي مصر الذي يجيء من الآستانة وتعصبه، وجمود سائر القضاة والعلماء وعدم اهتمامهم، ولو أنهم اجتمعوا وألفوا الكتاب الذي اقترحه الأستاذ الإمام وطالبوا الحكومة بتنفيذه لفعلت. فهذا الجمود والإهمال من العلماء قد كان أكبر أسباب اقتباس الحكومتين العثمانية والمصرية للقوانين الأوربية، واتسع التشريع الأوربي بمصر أكثر من الآستانة؛ لأن نفوذ العلماء فيها أضعف، وعنايتهم بشئون الحكومة أقل. ومما جُعل عقبة في طريق تنفيذ اقتراح المفتي زعمهم أن الحكم لا يجوز أو لا ينفذ إلا بمذهب السلطان مع أن السلطان أمر قضاة البلاد العثمانية بإنابة من يحكم بغير مذهبه عند الحاجة وتنفيذ ما يحكمون به، وإنني عند طبع التقرير سنة ١٣١٧ ونشره كتبت له مقدمة بحثت فيها في هذه المسألة بحثًا فقهيًّا أزلت فيها الشبهة، ومهدت السبيل للعمل بالحنيفية السمحة، فقلت في بيان الأمر الثالث من الأمور الإصلاحية التي اشتمل عليها التقرير وأعدت نشرها هنا آنفا ما نصه: الأمر الثالث: أن تؤلف لجنة من العلماء لاستخراج كتاب في أحكام المعاملات الشرعية ينطبق على مصالح الناس في هذا العصر لا سيما في الأحكام التي هي من خصائص المحاكم الشرعية، يكون سهل العبارة لا خلاف فيه كما عملت الدولة العلية في مجلة الأحكام العدلية. ولا يكون هذا الكتاب وافيًا بالغرض واقيًا للمصالح إلا إذا أُخذت الأحكام من جميع المذاهب الإسلامية المعتبرة ليكون اختلافهم رحمة للأمة، ولا يلزم من هذا التلفيق الذي يقول الجمهور ببطلانه كما لا يخفى [٣] . وقد أشير في صفحتي ٣٨ و ٤٠ من التقرير إلى عدم التقيد بالمذهب الحنفي، وتوهم بعض الناس أن هذا يمس حقوق مولانا الخليفة، وأن الأحكام بغير مذهب الحنفية لا تصح ولا تنفذ لهذا، ونجيب عنه بأمور: (١) جاء في كتاب الأحكام السلطانية ما نصه: فلو شرط المولَّى وهو حنفي أو شافعي على من ولاّه القضاء أن لا يحكم إلا بمذهب الشافعي أو أبي حنيفة - فهذا على ضربين: أحدهما أن يشترط ذلك عمومًا في جميع الأحكام، فهذا شرط باطل سواء كان موافقًا لمذهب المولي أو مخالفًا له، وأما صحة الولاية فإن لم يجعله شرطًا فيها، وأخرجه مخرج الأمر أو مخرج النهي، وقال: قد قلدتك القضاء فاحكم بمذهب الشافعي رحمه الله، على وجه الأمر، أو: لا تحكم بمذهب أبي حنيفة على وجه النهي - كانت الولاية صحيحة والشرط فاسدًا سواء تضمن أمرًا أو نهيًا، ويجوز أن يحكم بما أداه إليه اجتهاده سواء وافق شرطه أو خالفه، ويكون اشتراط المولِّي لذلك قدحًا فيه إن علم أنه اشترط ما لا يجوز ولا يكون قدحًا إن جهل، لكن لا يصح مع الجهل أن يكون موليًا لا واليًا، فإن أخرج ذلك مخرج الشرط في عقد الولاية فقال: قد قلدتك القضاء على أن لا تحكم فيه إلا بمذهب الشافعي أو بقول أبي حنيفة - كانت الولاية باطلة؛ لأنه عقدها على شرط فاسد، وقال أهل العراق: تصح الولاية ويبطل الشرط. اهـ المراد منه. (٢) لا يعدل عن مذهب الحنفية إلا في الأحكام التي لا تنطبق على مصلحة الناس في هذا العصر، إذا حكم فيها بمذهبهم، وهذه حالة ضرورة أو حاجة تنزل منزلة الضرورة، وبهذا الاعتبار تكون من مذهبهم؛ لأن الحكم الذي تمس إليه الحاجة أو يضطر إليه يصير متفقًا عليه. (٣) إن مذهب الحنفية واسع متشعب جدًّا بمعنى أن فيه كثيرًا من الأقوال في كل مسألة حتى قال كثير من فقهائه: إنه لا يوجد قول لمجتهد في مسألة إلا وهو موجود في مذهبنا لأحد أئمتنا أو مشايخنا ولو ضعيفًا، ومن المقرر عندهم أيضًا أن القول الضعيف يقوى بأمر الإمام بالعمل به، وقد ألفت لجنة من العلماء مجلة الأحكام العدلية، وأخذوا فيها ببعض الأحكام التي لا تصح في مذهب الإمام أبي حنيفة رحمه الله تعالى، ولكنها صحت في مذهب غيره وقالوا: إنها وافقت أقوالاً ضعيفة لعلماء الحنفية تقوَّت بأمر السلطان ووجب الحكم بها. وإذا ألف علماء الأزهر الكتاب الذي اقترحه فضيلة مفتي الديار المصرية في هذا التقرير ولم يجدوا الوجهين اللذين قبل هذا كافيين لجواز الحكم بموجبه فيمكن طلب صدور الأمر به من السلطان أو نائبه إذا كان له هذا الحق ولا يمكن أن مولانا السلطان عبد الحميد أو سمو عزيز مصر الحالي يتوقفان في أمرٍ رأى أكابر علماء الأزهر أن فيه مصالح المسلمين وحفظ حقوقهم. اهـ. وأقول الآن: إنه كان يمكنني بيان حل آخر لهذا الإشكال يصح شرعًا لا سياسة، فتركته اتقاء فتن السياسة، وأما الحل الذي جرت عليه المشيخة الإسلامية، وأذن به السلطان، فتنفيذه في مصر أسهل من تنفيذه في سائر البلاد العثمانية؛ لكثرة علماء الشافعية والمالكية هنا، فإلى متى هذا التواني والإهمال الذي ينفر الناس من الشرع؛ لظنهم أنه هو علة التضييق عليهم ويسيء ظنهم بالحكومة والمسيطرين عليها؟ لو ألف علماء الأزهر اللجنة التي اقترحها الأستاذ الإمام ووضعت الكتاب الذي أشار به، وطلبت الحكومة المصرية من شيخ الإسلام في الآستانة الفتوى بالعمل، ثم أذن السلطان الذي يعبر عنه بالإرادة السلطانية - لكان هذا أرجى ما يرجى للإجابة ولتجرئة الميالين إلى الإصلاح من علماء باب المشيخة في الآستانة وغيرهم على تعميم ذلك. جرت بيني وبين شيخ الإسلام موسى كاظم أفندي مذاكرة في داره عندما كنت في الآستانة سنة ١٣١٨ تناسب ما نحن فيه، فقد أخبرني أنهم يشتغلون بوضع كتاب في الجنايات وغيرها لأجل محاكم اليمن (وكان اليمانيون صرحوا بأنهم لا يقبلون إلا الحكم بالشرع دون القوانين) قال شيخ الإسلام: لكن لا بد من إنشاء محكمة تجارية، وأحسب أنه قال في الحديدة وفي صنعاء، لأن هنالك بعض اليهود وهم لا يرضون بحكم الشرع؛ لأنه لا يجيز شهادتهم. فقلت له: إذا التزمتم مذهب الحنفية فيما تضعونه من الأحكام المدنية والشخصية والجزائية فإن كثيرًا من المسلمين لا يسهل عليهم قبولها مختارين، وأما إذا اقتبستم من جميع كتب الشرع ولم تلتزموا كتب مذهب واحد فإنه يسهل عليكم وضع كتاب موافق لمصلحة الناس لا يشكو منه مسلم ولا غير مسلم، وشهادة غير المسلم تجدون لها حلاًّ مرضيًا في بعض الكتب المعتبرة، وأنا زعيم بأنه ما من مشكلة إلا ويوجد لها حل كحل العقال بهذا الشرط، فقال الشيخ: وأنا أعتقد هذا ولكن من يستطيع إقناع مشايخ الفتوى خانة به، إلخ، ولنا أن نقول: إن من لم تقنعه الأقوال والأحاديث تقنعه الأحوال والحوادث رغم أنفه. العبرة في هذه الحادثة: لولا مطالبة الجمهور من أهل السليمانية والموصل لحكومة الآستانة بما ذكر في فتوى شيخ الإسلام من الحكم بمذهب الشافعي الذين ينتمون إليه لما خرجت تلك الفتوى والإرادة السلطانية بالحكم بها، وكنت سمعت من والدي رحمه الله تعالى أن السلطان ولَّى على أهل السليمانية قاضيًا شافعيًّا لأنهم كتبوا إليه أنهم لا يقبلون قاضيًا يحكم بغير مذهبهم الذي يدينون الله به، ولا أدري أكان ذلك على ظاهره كما بلغه أم هو تكبير لصدور الإرادة بفتوى شيخ الإسلام حسن فهمي أفندي كما هو شأن الناس في تكبير الأخبار عند ما ينقلونها من قطر إلى قطر. وكيفما كانت الحال فالعبرة التي يجب أن يفهمها عامة المسلمين من هذه الواقعة هي أن الجمهور إذا عرف كيف يطالب الحكومة بالإصلاح فإنها لا تجد لها مندوحة من إجابته إلى طلبه، وأن استمرار الحكام والعلماء على شيء وإصرارهم على الجمود عليه باسم الشرع أو السياسة، ليس برهانًا قاطعًا على كونه حتمًا لا مرد له ولا مصرف عنه، وأنه يمكن تقويم العامة للخاصة كما يمكن العكس، ولكن آفة العامة الجهل، فهي لا تدري ماذا يجب أن تطلب من إصلاح أمرها، وآفة الخاصة فساد الأخلاق فهو الذي يحول بينها وبين العمل بما تعلم من إصلاح أمر الأمة. إلى الله نشكو مرض عامتنا وخاصتنا جميعًا، وعلاج هذا المرض - أو الأمراض - يتكلم فيه الناس، فيخلطون الخطأ بالصواب ويعز من يعرفه معرفة تفصيلية تامة ويعرف كيفية تنفيذه، وهذا العارف العزيز يعز عليه أن يفرغ معرفته في قلب غيره؛ لأن مسائل العلوم الاجتماعية يدعيها جميع الناس، وقلَّ أن يعرف حقيقتها منهم أحد. يقولون: التعليم، ويقولون: التربية، ويقولون: الجرائد والمجلات، ويقولون: الأحزاب والجمعيات، وأكثرهم لا يعرف حق ذلك من باطله، فنحن نرى فسادًا كبيرًا دخل على الأمة من قِبل هذه الأشياء، فالعبرة بروح التربية والتعليم والصحف والأحزاب والجمعيات، لا بصورها وأشكالها، وهذه الروح لا تكون صالحة مُصلحة إلا إذا كان القائمون بهذه الأشياء صالحين مصلحين، فهل من السهل أن تعرف الأمة مَن عساه يوجد فيها من هؤلاء الرجال فتكل أمر الإصلاح إليهم؟ أنَّى ذلك وعوامها جاهلون، وخواصها يخافون من كل مصلح على جاههم الذي يستغلون به جهل العامة، فينفرون وينفرون منه، وينهون عنه وينئون عنه. ليس هذا الموضع بالذي يسع الإطناب في هذا البحث - والمغرور بجهله المركب الذي يَحسبه علمًا لا يفيده إيجاز ولا إطناب - وإنما نريد أن نذكر المستعد للفهم والاعتبار بأن دون ما يشتهون من حكومة لهم تحكم بينهم بشريعتهم عقبات أمنعها على المقتحم جمود المتدينين، وأهونها جحود المتفرنجين؛ لأن هؤلاء لا يزالون هم الأقلين، وإذا دام هذا الجمود فسيكونون الأكثرين، ويعم سلطان ما ينسخ به الشرع من القوانين، ويتبع ذلك انحلال عقدة الدين، فأما الوسيلة لحياة الإسلام وحفظ شرعه فهي واحدة لا تعدد فيها، ولا يمكن الجمع بين الدين الحق والمدنية الصحيحة بدونها، ألا وهي المبادرة إلى تربية طائفة عظيمة من خيار نابتة المسلمين؛ ليكونوا دعاة ومرشدين، ينهضون بهذه الأمة، ويخرجون بها من هذه الغمة، وهذا هو الذي تحاوله جماعة الدعوة والإرشاد، فعلى من كان على رأيها أن يتعاهدها بالإسعاد والإمداد {فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} (غافر: ٤٤) .