الكمال المزعوم - المذاهب العلمية السائدة - تقليد أعمى ولأمر ما وقف تقدم الإسلام، وانحصر النور الإلهي الكريم بين أقوام لا يقدرونه، ونام المسلمون في النور واستيقظ غيرهم في الظلام، ولم يكن بد لغير المسلمين من التفكير في قواعد تصح عليها أمورهم بعد أن اتضح قصور الأديان الباطلة وعدم غنائها في هذه الشئون، وبعد أن عجزت أيدي المسلمين عن التلويح بالضياء الهادي ليسترشد على شعاعه المدلجون الشاردون، وابتدأ التفكير الإنساني يخبط في تفهم الحقائق العليا ومدارج ارتقاء النفس، فخلق المجال خلقًا للفلسفة العملية، وصحيح أنه إلى غير مواطن النبوات الأولى ينحدر تاريخ الفلسفة وينبت جذع الشجرة التي تطل الآن علينا فروعها. وحقًّا أنه إلى غير مواطن النبوات الأولى يمتد جذر الشجرة الفارعة، شجرة الفلسفة الحرة التي تظلل فروعها اليوم أكثر بقاع العالم، وسواء أكانت هذه الأغصان لعوسجة غليظة مؤذية أم لدوحة مورقة فينانة، فإن ما ينبغي أن نطمئن إليه هو قلة احتمال البشر قديمًا بتطبيق شيء مما وصلت إليه الفلسفة البعيدة عن روح الأديان تطبيقًا عامًّا شاملاً، بينما نجد اليوم - كأثر حقيقي لوقوف الإسلام في حدود أوطانه - أن بعض الآثار الفلسفية قد وجدت من الأشياع من يخلصون لها ويجاهدون لتحقيقها، ويؤسسون لها الحكومات القوية، وينادون بوجوب سيادتها في أنحاء العالمين، تلك المبادئ - وأكثرها نبت في أودية أوربا المقفرة إلا من أشواك الوثنية المسيحية - لها شأن عجيب؛ ذلك أنها ظهرت في بيئات أشد ما تكون حاجة إلى الحرية والانطلاق، وأبعد ما تكون تأثرًا بما عدا ذلك، فهي تسعى وراء ما تشعر بأن فيه طمأنينتها وسعادتها، وقلما يعنيها بعدئذ أن يوصف ما تظفر به بأنه حق أو باطل، منكر أو مألوف، إيمان أو إلحاد، وليس من شك في أن النضال الدموي المروع الذي سوَّد وجه أوربا عصورًا، له أثر بعيد في هذه الحالة. وفي هوجاء هذه الفتن الخبيثة، وفي مهب أعاصيرها التي لا تكاد إلى اليوم تهدأ لها ثائرة أو تؤمَن لها غائلة، قامت الماسونية والشيوعية والاشتراكية والديمقراطية.... . وغير ذلك، ومن ثم نادى أقوام - ممن ذاقوا مرارة الخصام بين المذاهب المختلفة - بوجوب الإخاء بين جميع المذاهب، أو لو كان إخاء بين الحق والباطل؟ هذا شيء لا يفكر فيه الماسون، وصاح أقوام ممن عضتهم البأساء والضراء بوجوب تقسيم كل شيء على الأمة، أو لو كان في ذلك الفوضى والإباحية؟ هذا شيء يستسيغه الشيوعيون. وكذلك أسس الفاشيون نظام النقابات أو دولة العمال، ووضع الديمقراطيون قواعد الحريات العامة للناس؛ كما يقولون. ولكن هل هناك غاية يخدع بريقها المسلم في ثنايا هذا الغموض والإيهام؟ كلا، إنما هو تهريج عالمي تمخض عنه حجاج العقل الإنساني أثناء شروده وجحوده، ولا ريب أن توفير حاجات الجسد مما تنادي به الضرورة، وتكثير أسباب المتع مما تتطلع إليه الرفاهية، ثم إشباع مطامع بعض النفوس الجياشة بحب التزعم، ثم ذلك التعاون في أي أشكاله بين شتى العناصر لنيل خير حياة دنيوية ممكنة، لا ريب أن كل هذا هو لباب المذاهب المتكبرة السائدة هناك، والتي تحاول أن تغزو ميادين الشرق المريض، بل إنها وجدت فعلاً طريقها إلى بعض النفوس المنحلة في هذه الديار، ولا عجب أن تلقى بعض النجاح المؤقت إذا كانت قد دعمتها الدراسات المجردة للفلسفة النفسية والخلقية، هذه الفلسفة التي ادعاها علماء تحرورا من قيود الأديان هزيلها وخطيرها، واستقامت آراءهم على أسس من تفكيرهم الخاص و (عقولهم الباطنة) أو الباطلة. وسنناقش الآن - في إيجاز - أهم المسائل التي قررت في علم النفس كمنهج للسلوك البشرى الفاضل، ثم نقفي على إثر ذلك بتحليل كامل للمقاييس الخلقية الموضوعة؛ إذ إن سر الحياة التي تسود اليوم كثيرًا من الطبقات الدعية في كل شيء إنما يرتد إلى هذه المناهج المصنوعة، وسوف تقر أعين المؤمنين إلى أن الإٍسلام وحده منهج الحق الواضح، وأنه بحسب المسلم الاعتصام بدينه ليستوى على صراط تندق دونه أعناق الشياطين {صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ أَلاَ إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ} (الشورى: ٥٣) . يرى علماء النفس أنه لكيما يستقيم سلوك الإنسان على نهج واضح ينبغي أن تكتمل عواطفه ثم تدور كلها في فلك، محوره (احترام الذات) تخضع فيه استعداداته الموروثة والمكتسبة إلى كل ما يسمو بكرامته كإنسان كامل، وعبارة الإنسانية الكاملة وضعها أناس ينظرون للحياة خلال عدسة سفسطائية تسخر من الحقائق، وما دمنا قد وصلنا إلى اعتبار الرأي الشخصي وتقريره أساسًا حرًّا لاكتساب الإنسانية الكاملة، فقد تنكبنا الحق وفقدنا معه الخير المنشود؛ ذلك أن من الناس من يقوِّم ذاته على أساس اعتناقها مبدءًا ديكتاتوريًّا، ومنهم من يقومها على أساس اعتناقها مبدءًا ديمقراطيًّا وكلا الرجلين قد حشد استعداداته الموروثة والمكتسبة لخدمة مذهبة وركزها عند غاية واحدة، وارتضى أن يموت دونها، فهل معنى هذا أن كليهما ظفر بالكمال الإنساني المزعوم، مع ما في نظريتهما إلى الدنيا من تناقض يؤكد بينهما الخصام، بل ينشب بينهما القتال. على أن لنا نحن المسلمين ما نلاحظه على هذه القضية النفسية التي تريد أن تخلق من أنانية الفرد مذهبًا عامًّا؛ فإن المسلم الذي محق ذاته في ذات الله ووزن نفسه بنصيبها من دينه يجب أن ينمي عواطفه كلها، ثم يسيرها في نظام يبتدئ وينتهي عند تمجيد الله، أما ما يقرر لنفسه هو من احترام وتزكية فهو فضل الله يضفيه على من شاء، والمسلم الذي يستشعر في قرارة نفسه كل معاني العبودية لمولاه العلي لا يأذن أبدًا لهذه النفس أن ينسب إليها مجدًا ويُشار إليها بأي ضرب من ضروب الكبر المفتعل، ونحن نحارب بهذا أناسًا معينين، فيهم الكافر وفيهم المؤمن المدخول العقيدة. أولئك قوم زعموا أن السمو بالنفس الإنسانية مستطاع في غير جوار الله، مستطاع في ظلال هذه العواطف المكتملة، فذهبوا يتلمسون الكمال المنشود في مبادئ يتوارث الناس احترامها وإكبار أصحابها، حتى إذا اصطبغت نفوسهم بما وهموه من فضل ومجد راحوا يقررون لها حقوقًا من التوقير والإعظام، وكان لزامًا على الناس أن يتقدموا إليهم بها، ثم يستقر هذا الضلال المبين، فإذا المفتونون أبعد ما يكونون عن الله، وإذا هم - على ما بهم من ثقة واعتداد - لا يقيم لهم الدين أي وزن، ولا ينزلهم أبدًا إلا في أمكنتهم من الرغام. لهؤلاء وأضرابهم نوع من السلطان المادي والمعنوي في هذه البلاد، وهم - كأقرانهم من الصابئة الغربية - ممثلو الحملة على الأديان ورسالتها الكريمة في الحياة، وإذا كان ضجيج القوم قد تعالى هنا وهناك وترددت أصواتهم في أنحاء كثيرة، فما تعدو هذه الصيحات في قيمتها نقيق الضفادع، وربما أطفأت أنفاسهم اللاهثة شموع الكنائس، ولكنهم - ولو استحالوا عواصف - لن يطفئوا للإسلام مشعلاً {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الكَافِرُونَ} (الصف: ٨) . ولا عجب، فالأمور التي توضع ألغامًا في بنيان المسيحية المتداعي لا يمكن مطلقًا أن تشعر بها دعائم الإسلام المكينة، وإذا كان صابئة الغرب قد قالوا ما قالوا فردد المقلدون الحمقى هنا ما قالوا من نظريات انفصال الدين عن السياسة وعن العلم وخرافة تآخي الأديان أو الدين لله والوطن للجميع، فإن مصير الفريقين سيختلف حتمًا، وهزيمة المسيحية هناك هي هزيمة الصابئة هنا تمامًا، ولقد أدرك المسلمون حقيقة دينهم غير منقوصة، وعلموا أن دينهم كما أنه هو دين النفس هو دين الدولة، بل إن الإسلام لم يتجه للفرد من حيث أنه (شخصية مستقلة منعزلة) وإنما اتجه إليه من حيث أنه (وحدة من مجموعة مؤلفة متناسقة) وإلى هذا يرجع السر في أن الخطاب الإلهي يرد دائمًا بطريق الجمع لا الإفراد {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} (الحج: ٧٧ - ٧٨) ثم كيف يكون بين الإسلام وبين العلم عداء والعلم نفسه لم يصل إلى الدرجة التي بلغها من التقدم إلا في جو إسلامي خالص، إن العلم الطبيعي يعتمد على عنصرين خطيرين في جميع بحوثه وكشوفه هم الملاحظة والاستنتاج، وليس يوجد في الدنيا كتاب أوصى بالتدبر في ملكوت الله الرحيب واستطلاع بدائعه واستكناه روائعه كما أوصى القرآن {وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ} (الذاريات: ٢٠ - ٢١) . ومهما أظهر المغرضون من عطف ماكر على استقلال العلم، فإنهم لن ينالوا من الإسلام أي نيل، كذلك ضل من يزعم أن الوطن ليس لله، أي غباوة هذه تحاول أن تنسب الشيء لغير صاحبه، بل لغير خالقه {إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} (الأعراف: ١٢٨) {وَلِلَّهِ المَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ} (البقرة: ١١٥) ولقد مهد هؤلاء لهذا الخطأ الفاضح بكلمة لم يفهموها، الدين لله حقًّا، ولكن ماذا بقي لله على زعمهم إذا كان للأوطان أول ما في الفؤاد وآخر ما في الفم؟ ! ماذا بقي لخالق الفؤاد وما يجول فيه، ولخالق اللسان وما ينطق به؟ ! كلا، الدين لله والوطن لله، ومصر ومن عليها فدى للإسلام وحده، و {لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ المَثَلُ الأَعْلَى وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ} (النحل: ٦٠) . إن الشيء الذي يبوء بأشد معاني الاحتقار والذي نجعله محيط عداوتنا الدائمة، هو هذا الضلال الوقح الذي يحاول - في غير ما حياء - أن ينتظم الإسلام - وهو دين الله الكريم - والمسيحية واليهودية في سلك واحد، فكيف يرتفع مبدأ من المبادئ ليضم إلى أحضانه هذه الأديان المختلفة المتئاخية (كذا) ويجمعها في صعيد واحد؟ ! حدث مرة أن كنت أتصفح إحدى المجلات الأسبوعية، فعثرت على تصريح سكرتير الماسون الأعظم - وهو رجل مسلم كما يشير إلى ذلك اسمه - قال: (إن قراراتهم التي تذاع لا يراد بها إلا خير المجتمع من الناحيتين الإنسانية والاجتماعية، دون تعرض للسياسة ولا للدين) ونحن نتساءل: كيف يجوز لمسلم أن يلقي كلامًا أو يصدر أعمالاً بعيدًا عن دينه وعن رعاية قيوده وحدوده كلها، إلا أن يكون مسلمًا يجهل الإسلام، أو منافقًا يبرأ منه دين الله؟ ! ونحن نتساءل كذلك: أي إخاء عجيب أوى إلى سلامه ووئامه أعضاء المحفل الماسوني المكرمين وفيهم أحد موظفي الأزهر وأحد أعيان اليهود؟ ! إنه إخاء فرض نفسه على حساب نكبة أحدهما في عقيدته، أو على الأصح على حساب تنازل المسلم عن دينه جملة. هناك ما لا يقل خطرًا عن الماسونية العالمية مسخًا للإيمان وتلويثًا للنفس المؤمنة وهبوطًا بمستواها الذي ينبغي أن تحتفظ به، ومن أمثلة ذلك جميع المبادئ التي تحمل لقبًا عالميًّا؛ فالرياضة العالمية، والثقافة العالمية، والديمقراطية العالمية، والأدب العالمي، والفن العالمي، والتمثيل العالمي.... إلخ مما يسير في ظلال معنى الإخاء الإنساني ووحدة البشرية، والكلمات التي أجاد الأوربيون صناعتها ودسها محترفو الاستعمار بيننا؛ لينالوا بها ما لا تناله مناشر الأسلحة، وليتوسلوا بها إلى إفناء العصبيات الإسلامية، وتحطيم فضائلها وتمزيق مقوماتها. (يتبع) ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد الغزالي