سيدة اللغات مقالة لمحمود بك سالم رئيس جماعة الدعوة والإرشاد (نشرها بمجلة الطلبة المصريين)
{وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ العَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ المُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ} (الشعراء: ١٩٢-١٩٥) (قرآن مبين) أيها الطلبة الأنجاب، أبناء مصر التي شرفها الله فذكرها مرارًا في كتابه الحكيم، عليكم بتعلم (اللغة العربية) لغة أجدادنا الأشراف الصالحين، الذين تركوا أحسن ذكر بين الأمم، وما زال تأثير أعمالهم المفيدة يعم الأقطار بفتوحات الدين الحنيف المستمرة، وانتشار الشريعة المطهرة التي أينما حلت وقوي سلطانها، أحيت طيب المبادئ وسامي الأفكار. اللغة العربية أقدم اللغات الحية. هي لغة إبراهيم الخليل وزوجته السيدة هاجر المصرية وابنهما إسماعيل صادق الوعد، الذين أكرمهم الله ببناء البيت العتيق؛ ليكون مثابة للناس وأمنًا. لا شك في أن علماء الآثار يعرفون لغات أخرى أقدم من العربية، ولكن كلها ماتت ودفن ذكرها في القراطيس، وأغلبها اندثر وانمحى من صحيفة الكون إلى يوم البعث حين يخرج أهلها من الأجداث كأنهم جراد منتشر. وجدت حديثًا أبنية شاهقة أسستها أمم راقية في أساليب العمران محفورة كتابات غريبة على جدرانها الآئلة إلى السقوط وسط الصحاري أو في أحضان الجبال. ولما قرئت أخيرًا تلك الكتابات العجيبة علم أنها تقرب من زمن عيسى ابن مريم عليهما الصلاة والسلام، وأنها بلغة عربية متينة تكاد ألفاظها وتراكيبها وقواعدها تكون كلها من مستعملات لغتنا الفصحى الحالية. وهذا ما أدهش العلماء، حتى إنهم وصفوا لغة القرآن المجيد باللغة التي ليس لها طفولة وشيخوخة؛ لأنها من يوم عرفت وهي كالغادة الحسناء في حلل الشباب والعافية، كأنها من الأبكار العرب الأتراب لأصحاب اليمين. ومما ننقله في هذا الموضوع، ما ذكره في شأن لسان العرب العلامة أرنست رينان ذاك المستشرق الطائر الصيت، الذي فاقت شهرته الأقران في كتاب (تاريخ اللغات السامية) حيث قال: من أغرب المدهشات أن تنبت تلك اللغة القوية، وتصل إلى درجة الكمال وسط الصحاري عند أمة من الرحل. تلك اللغة التي فاقت أخواتها بكثرة مفرداتها ودقة معانيها وحسن نظام مبانيها. وكانت هذه اللغة مجهولة عند الأمم، ومن يوم علمت ظهرت لنا في حلل الكمال إلى درجة أنها لم تتغير أي تغيير يذكر، حتى إنه لم يعرف لها في كل أطوار حياتها لا طفولة ولا شيخوخة. لا نكاد نعلم من شأنها إلا فتوحاتها وانتصاراتها التي لا تبارى. ولا نعلم شبيهًا لهذه اللغة التي ظهرت للباحثين كاملة من غير تدريج، وبقيت حافظة لكيانها خالصة من كل شائبة. تجد اللغة الفرنسية لا يفهم كلام كتابها وشعرائها الذين ماتوا قبل ثلاث مائة سنة إلا من مهر في حل الطلاسم. وكذلك اللغة الإنكليزية وباقي لغات أوربة التي تتباهى الآن وتتيه فخرًا وإعجابًا. وكل تلك اللغات الحديثة في تغيير مستمر وتبديل مستديم. فبون بعيد بين لغة (موليير) مثلاً ولغة (زولا) عند الفرنسيس. وبون أبعد بين لغة (ملنن) ولغة (روسكن) عند الإنجليز. أما أمة العرب التي كرمها الله ورفع شأنها باصطفاء عبده الأكرم من بين أشراف أشرافها؛ ليكون خاتم النبيين، فقد جعلت لغتها آلة تحمل شريعتها التي ستدوم ما دامت الأفلاك؛ إذ لا نبي بعده ولا دين بعد هذا الدين. فاكتسبت تلك اللغة المشرفة بين لهجات البشر مركزًا لا يباريها فيه لسان، من وقت أن صارت منطق الملائكة أنفسهم في السماء، وامتزجت بالكتاب المجيد امتزاج الروح بالجسد. وقد أوتيت الأمة العربية أرقى هبات البلاغة، وأجمل صفات الفصاحة؛ لتتهيأ لقبول تلك المعجزة الباقية المستمرة ما دامت الصحف والكتب. تلك المعجزة التي ظهرت على يد نبي أمي لا يعرف قراءة ولا كتابة، وكانت لأئمة البيان والكلام حدًّا يقف أمامه العاقل باحترام، ويبهت أمامه المعاند بخذلان. (وصفت العرب من قديم الزمان بالبيان والبلاغة، وقد استقصى العلماء شعراءهم، فوجدوهم يربون على شعراء سائر الأمم الأخرى مجتمعة؛ لأن الشعر سليقة عند العرب، حتى لتجد رعاة الإبل يقصدون القصائد ارتجالاً) . لسان العرب له الاحترام الأكبر عند فحول علماء الأمم الأجنبية، فإنهم عرفوا مكانته فوصفوه بأعلى الصفات، وبذلك ارتفع قدر الأمة العربية نفسها عند من يقدر الأشياء حق قدرها. قال القسيس الإنجليزي س. م. تزويمر وهو من كبار البروتستانت في كتابه المشهور (جزيرة العرب. مهد الإسلام) . (يوجد لسانان لهما النصيب الأوفر في ميدان الاستعمار المادي ومجال الدعوة إلى الله وهما: الإنجليزي والعربي، وهما الآن في مسابقة وعناد لا نهاية لهما؛ لفتح القارة السوداء مستودع النفوذ والمال، يريد أن يلتهم كل منهما الآخر، وهما المعضدان للقوتين المتنافستين في طلب السيادة على العالم البشري. أعني النصرانية والإسلام) . وقال إنجليزي آخر وهو القسيس الشهير جورج بوست: (لغة العرب تفوق كل لغة في الانتشار إذا نظرنا إلى اتساع الأقطار التي لها فيها سلطان. وهي تفوق أيضًا كل لغة إذا نظرنا على التأثير في مستقبل الأعمال البشرية، ولا نستثني من كل تلك اللغات إلا لغتنا الإنجليزية) . وقال أحد علماء الإنجليز المتمكنين من علوم العرب، يصف لسانهم نقلاً عن كتاب (تزويمر) المذكور آنفًا: (إنه خالص من شوائب الدخيل، غني بنفسه عن غيره. وفيه مقدرة عجيبة على إيضاح المعاني وإظهار الأفكار، ومفرداته لا تحصى ولا تعد، وقواعده النحوية في غاية المتانة، وبالاختصار به يسهل عرض الموضوعات الدينية والفلسفية والعلمية، بطريقة لا تفوقها لغة إلا الإنجليزية وبعض لغات أخرى قليلة رقاها الدين النصراني في أوربا الوسطى) . ولنستشهد بكلمة لأحد الفلاسفة الظرفاء، أراد مدح المعارف الدنيوية عند أهل أوربا والصنائع اليدوية في الشرق الأقصى، فقال: (استوى الكمال على ثلاثة أشياء: مخ الإفرنج، وأيدي أهل الصين، ولسان العرب) . حقًّا ليس للغة العرب مثيل في كمالها إذا قارناها بأخواتها، فإن قلنا: إن (العبرية) لغة مقدسة عند أهل التوراة والإنجيل، فالعربية بالقرآن أقدس. وبجانب فرد واحد يقرأ التوراة باحترام وتجلة، نجد مائة مسلم يتلون الكتاب المجيد حق تلاوته باحترام أعظم وإجلال أظهر. وإن قلنا: إن (اللاتيني) لسان العبادة في الكنائس الكاثوليكية، فلسان الإسلام أعم في مساجد المشرقين والمغربين بين أهل التوحيد جميعًا، والصلاة به متواصلة تواصل ساعات الزمن. ألا ترى المؤذن يدعو المؤمنين إلى صلاة الفجر في جزر الفيلبين في أقصى الشرق باللسان العربي المبين، فتتبع تكبيراته تكبيرات المئات والألوف من أهلها، يتردد صداها من مئذنة إلى مئذنة، ومن جبل إلى جبل، ومن واد إلى واد. فإذا قضيت صلاته في تلك الجزر، تنقل الأذان منها إلى غيرها، تنقل الفجر في مطالعه فسمعته في الصين وسيبيريا، ثم في الهند وفارس، ثم في مكة المكرمة والمدينة المنورة، والقدس الشريف والقسطنطينية المحمية، ثم في مصر المحروسة بحماية الله، ثم في تونس الخضراء. ثم في الجزائر والسودان، ثم في المغرب الأقصى، ثم يصل هذا الصوت الرخيم إلى الأوقيانوس حتى شواطئ الأمريكان في أقصى الغرب، فهكذا كلما طلع الفجر وبزغ النور قام الناس للصلاة والفلاح؛ لعبادة الخلاق العظيم الذي يغشي الليل النهار يطلبه حثيثًا. مع دوران الشمس تسمع أمواج الأذان كأمواج البحر المتلاطم، تطرد الموجة الشرقية أختها الغربية لتوقظ العباد الصالحين من نومهم العميق، فلا تفوت لحظة من الزمن إلا وفيها لله عبادة وللقرآن ترتيل. فإن قيل: إن اليونانية القديمة ثم اللاتينية ثم الإنكليزية أو الألمانية وكانت وما زالت آلات ومبادلة الأفكار بين الإفرنج، فإن لساننا العربي كذلك آلة كاملة لمبادلة الأفكار والعلوم بين المسلمين في آسيا وأفريقيا وجهات أخرى كثيرة. وإن قيل: إن لغة الفرنسيس لغة أهل السياسة في أوربا، أجبنا أن لغة العرب رابطة أقوى منها في مثل هذه الشؤون الاجتماعية؛ لأن الأمم الإسلامية جمعاء مرتبط بعضها ببعض ارتباطًا وثيقًا بواسطتها، فالعالم المسكوبي مثلاً يعرف بها شؤون أهل رأس الرجا الصالح ثم يرشد أهل وطنه. والعالم البوسنوي يعرف بها أحوال القطر المصري وينبه أبناء جنسه. والعالم الجاوي يتناول بذلك اللسان العام الجامع معلوماته عن أحوال القسطنطينية والقوقاز وفارس، وهكذا تتبادل الأفكار المفيدة. لغة الكتاب العزيز تنشر في أنحاء المسكونة العلوم الأدبية والأخلاقية والاجتماعية والسياسية والشرعية وغيرها. فهي الرابطة القوية والعروة الوثقى التي لا انفصام لها. بها تتقارب الأجناس المختلفة وتتشابه الأضداد بالتدريج في الأحكام والأخلاق والمبادئ، وبها تتساوى الناس في معرفة الشريعة الغراء، لا فرق في ذلك بين السود والبيض، والصفر والحمر. فهي أقوى رابطة (بروح القرآن وفي ظله) وتفوق متانة كل روابط الجنسية والوطنية وغيرها. اللغة العربية لها الفضل على أكثر اللغات الجديدة في مشارق الأرض ومغاربها، فلو أخرجت من قواميس الأسبانيول والبرتغيز وسكان أمريكا الجنوبية والوسطى مثلاً جميع المفردات العربية، والحلى التي اكتسبتها رطانتهم من العرب، لما عرفت تلك الأمم أن تبدي فكرًا ساميًا، ولتاهت في مجاهل العي والبكم، ولعجزت الآن أن تتباهى بشعرائها وأدبائها. وأين تكون لغة الفرنسيس أنفسهم لو جردناها من كل ما يزينها من مختلفات فصحاء الحجاز. فما بالك باللغات الإسلامية مثل الفارسية والتركية والهندوستانية والجاوية والملايو، وغيرها من ألسنة السودان والتتار والبربر وإخوانهم. حقًّا لو أخرجنا المفردات العربية التي في تلك اللغات - كما يطلب ذلك بعض المتفرنجين من كتابها- لبقيت كهيكل الميت. عظامًا مفككة لا حياة فيها. لغة العرب هي لغة المستقبل؛ لأن النبي العربي هو خاتم النبيين، فشريعته باقية إلى يوم القيامة (كما قدمنا) ، والقرآن الكريم حامل تلك الشريعة المطهرة هو السبب في بقاء اللغة العربية حية بين الشعوب؛ لأنهم لا يفهمون دينهم على وجهه الصحيح من هذا الكتاب الكريم الأبها. فلذلك تموت جميع اللغات الأخرى أيًّا كانت وتبقى لغة العرب في بهائها وجمالها. وقد أجاد أحد علماء الإفرنج المشهورين بعلومهم الواسعة، إذ كتب قصة خيالية، فرض فيها سياحًا في أجواف الأرض تحت قعر البحر العميق وجعل هؤلاء السياح يخترقون طبقات القرى الأرضية حتى وصلوا إلى وسطها أو ما يقرب من ذلك , ولما أرادوا الرجوع إلى وطنهم فكروا في ترك أثر يحفظ ذكرهم إلى أبد الآبدين، إذا وصلت علماء الأجيال المستقبلة إلى محط رحالهم، فاتفقوا فيما بينهم أن ينقشوا على الصخور كتابة باللغة (العربية) ، هذا ولما سئل جول فرن كاتب هذه القصة، عن سبب اختياره تلك اللغة العربية، قال: إنها لغة المستقبل ولا شك في أن يموت غيرها وتبقى هي حية حتى يرفع القرآن نفسه، فتأمل أيها القارئ اللبيب، واعلم أن طعن الطاعنين في لغة أجدادك الأماجد ثرثرة لا يعتد بها. {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} (الزمر: ٩) . اعتاد بعض المتفلسفين من أمد بعيد الطعن في لساننا العربي الفصيح؛ لأغراض في النفس، ومنشأ هذه الأغراض: إما تعصب ديني طائش السهم، وإما الجشع الاستعماري الذي يعمي ويصم، فقامت في زمننا حرب عوان بين علماء الإفرنج المستشرقين؛ سببها اختلافهم في الحكم عن لغتنا باستطاعتها أو عدم استطاعتها التعبير عن الأفكار الدقيقة وتدوين العلوم المنعوتة بالحديثة، ففريق نصرها وفريق خذلها. فأما الناصرون لها فقد مر عليكم شيء من أقوال بعضهم، وأما الخاذلون فمنهم من رماها بالفقر المدقع في مادة التعبير، والعي المعجز عن تأدية الغرض من اللغات، وهذا ظاهر بهتانه. ومنهم من اعترف لها بالغنى، ولكن زعم أن غناها مفرط زاد عن الحد، وشبه أهلها برجل كثر ماله كثرة لا حد لها، فعجز عن حصره وتدبيره وفاته الانتفاع به. هذا بعض ما رميت به لغتنا، فيجب علينا معشر المصريين أن ننهض بالعلوم القوية وبالفنون الأدبية، حتى لا يجرؤ عاقل بعد الآن إلى الحكم على لساننا المبين إلا بعد أخذ رأينا، ولا يصح أن تعطى الفتاوى الطويلة العريضة من الأجانب في أمور العربية، ونحن أحياء نرزق من غير أن يكون لنا صوت مسموع. لا شك أن أول واجب علينا أن نعتني بلغتنا الجميلة، وأن نتفانى في حبها وخدمتها كما فعل من سبقنا في العصور الماضية من أهل الفضل والإحسان الذين تغلبوا على الشهوات، وصرفوا الأموال، وسهروا الليالي، وجابوا البلاد في التماس حرف من حروفها جهلوه، فاستفادوا وأفادوا. وأنتم أيها الطلبة الأفاضل، سيكون لكم شأن عظيم في القريب العاجل، فاستعدوا لذلك قبل أن تفوت الفرص. لغتنا سلاحنا الماضي البتار في جهاد هذه الحياة، ودرع النجاة. فبها نحيي علوم أجدادنا الواسعة الدائرة، ونظهر كنوزهم الثمينة المدفونة في مكاتب الصين والهند والسودان، وفي أوربا خصوصًا أسبانيا والقسطنطينية، ولو لم نستخرج إلا الألفاظ الاصطلاحية العديدة التي نسيت ونحن في حاجة إليها لكفانا. فإن العلوم لا تفهم ولا تنشر إلا بالأسماء، وما دمنا نستعمل ألفاظًا أجنبية، فإننا لا نقدر على تعليم عامة الأمة إلا بكل صعوبة، وإن تعلمنا نحن بعد الجهد الجهيد من كتب الأجانب. أسماء الحيوان والنبات والجماد موجود أغلبها في العربية والاصطلاحات الطبية الفلكية والفلسفية، موجودة كذلك في كتبنا، ومن الجهل أن ندعي أنها لا توجد، وكذلك مصطلحات باقي العلوم والفنون المدفونة في بطون السطور التي تركها لنا آباؤنا الأولون. فلا ضرورة تلجئنا لِليّ الألسنة بمعجرفات مستهجنة كما يفعل بعض المتفيهقين الثرثارين؛ في التعبير عن مصطلحات موجودة نظائرها في كتبنا. ولا مانع من تعريب الكلمات الأعجمية الدالة على المسميات المستحدثة أو استعمالها على عجميتها عند الضرورة، كما أدخلت اصطلاحات عربية كثيرة في قواميس الشعوب الإفرنجية وغيرها. ومن يدعي من أهل العجمة أن سيدة اللغات فقيرة، فليفتح عينيه، فإنه يجد في نفس رطانته ألفاظًا فنية متعددة أصلها عربي، وليرجع إلى الحق إن كان من أهله {فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى القُلُوبُ الَتِي فِي الصُّدُورِ} (الحج: ٤٦) *** {وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ البَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً وَحِجْراً مَّحْجُوراً} (الفرقان: ٥٣) لمصر مقام خطير بين الشعوب الإسلامية؛ لمكانها من ملتقى الأبحر، ولترقيها العلمي العظيم من يوم أن أيقظ محمد علي الكبير أذهان أهلها، وأنشأ بينهم المطابع التي كانت ينبوعًا صافيًا رويت بفيضه جميع الأقطار. وأزهرها المنيف له الفضل على أغلب طلاب العلوم الشرعية المنتشرين في أنحاء المسكونة فهذه (الجامعة الإسلامية) كالشمس الباهرة، يستضيء بها عباد الله المخلصون. وتأثير مصر يزداد يومًا فيومًا في القاطنين بالأراضي المطهرة، سواء أهل مكة والمدينة أو البقاع التي بارك الله حولها، ومنها ينتقل ذكر مصر المحبوبة إلى باقي أوطان المسلمين في المشارق والمغارب. وظيفة مصر الأدبية ستزداد أهمية في المستقبل؛ لأنها وسط عالمين إسلاميين كبيرين: هما العالم الأسيوي والعالم الأفريقي اللذان يريدان أن يتعانقا باشتياق عظيم ويتحابا. ولا يخفى أن مصرنا هي القنطرة التي تصل بين الحبيب وحبيبه، وأن لها مزايا كبيرة في هذا الشأن عند أهل الذكر. ومن جهة أخرى، فإن قطرنا المبارك سيتخذ كوصلة تربط العالم الإفرنجي ذا المعارف المنعشة والفنون الجميلة بأمم عديدة، جمدت على ما وجدت عليها آباءها من أسباب الفوضى والانحلال. وها هي (الجامعة المصرية) أول خطوة في ذلك الطريق السلطاني الجديد. فماذا نعمل في وظيفتنا هذه الجديدة، هل نوصل تلك المعارف والفنون باستقلال رأي مكيفين لها حسب مبادئنا وأذواقنا الإسلامية، حتى نكون باب نعمة على إخواننا من عرب وعجم أو نكون آلة صماء تعمل حسبما تحرك، ولا تعمل إلا شرًّا، فنهيئهم لأن يصيروا فريسة سائغة وغنيمة باردة، ستؤدي وظيفتنا حسبما تكون تربيتنا، فإن حسنت التربية حسنت النتيجة والعكس بالعكس، ولا تكون التربية جيدة إلا إذا تأسست على مبادئ محمدية، ولا تكون المبادئ محمدية إلا إن استخرجناها من الكتاب العزيز، وهذا لا يتأتى إلا إذا أحطنا باللغة العربية وعرفنا أسرارها، وفقنا كل مخلوق في إظهار محاسنها وعجائبها لا أن يسبقنا علماء الأجانب، مثل: أساتذة (كمبريدج) و (لايدن) و (برلين) وغيرها، ويتركونا وراءهم تائهين في مجاهل الحواشي الثقيلة السقيمة، لاهين بما فيها من سفسطة دقيقة عقيمة. من يخدم اللغة العربية، فإنه يخدم الإسلام، وخدمة الإسلام تؤدي إلى ترقية بني الإنسان كلهم أجمعين. فهل يحجم الطلبة المصريون عن جهاد علمي يكون لهم بعده الفخر الأبدي، ولمصرهم العزيزة ولجماعة الموحدين الحظ الأوفر؟ برقي اللغة العربية يسود القرآن، وتنتشر علومه، وتزيد الشعوب العربية ارتباطًا فتقوى وتترعرع، وفي آن واحد يقوى ويترعرع المجموع الإسلامي كله. فلينظر الطلبة المصريون إلى علو مكانتهم في المستقبل وسط الأمم المختلفة. تلك المكانة الخطيرة التي تشبه أن تكون (رقابة أدبية عالية) شرطها الأول خدمة لسان النبي القرشي عليه أفضل الصلاة والسلام؛ لأجل فهم كتاب الله المجيد على وجه يوصل إلى سعادة العالم بالعمل به. وليتدبروا كثيرًا معنى الآية الحكيمة. {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} (البقرة: ١٤٣) . ... ... ... ... ... ... ... القاهرة في ٥ جمادى الآخرة ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... محمود سالم