للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


فتاوى المنار

أسئلة من جدة - الحجاز
(س ١١ - ١٤) من صاحبي الإمضاء بجدة
١- هل كاتب النبي - صلى الله عليه وسلم - كل ملوك الأرض العظماء
الموجودين في أيامه أو أكبرهم شكيمة كملك الصين وملك الترك وإمبراطور روما
الغربية، وإذا كان لم يكاتب هؤلاء - كما هو المتبادر من التاريخ - فلماذا؟
٢ - فيما نرى عرفنا أن أشهر الأنبياء كلهم كانوا آسيويين ولم نسمع بنبي
أرسل في أوربا مع أنها من الدنيا القديمة المعمورة فما هي الحكمة؟
٣ - يقول علماء الدين -ولا سيما العصريين منهم- إن الإسلام هو الدين الصالح
لكل الأمم وفي كل الأرض، فما هي تلك الأفكار الخالدة الموافقة لعناصر جميع
الأمم التي أتى بها الإسلام؟
٤ - لماذا فرض الإسلام الجزية على اليهود والنصارى فقط ولم يقبل من
العرب سوى الإسلام أو السيف؟
حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ رشيد رضا دام نفعه.
نؤمل إجابتنا تحريريًّا على هذه الأسئلة وإذا تكرمتم بنشرها في المنار نكون
شاكرين تفضلكم.
... ... ... ... ... حسن أبو الحمايل. محمد حسن عواد
(ج) نجيب عن هذه الأسئلة بالترتيب وإن كان قد سبق لنا فيها تحقيق من
قبل فنقول:
***
(حكمة مكاتبة النبي (ص) لبعض الملوك دون بعض)
كتب النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى ملوك العرب في جزيرتهم وإلى
ملوك البلاد المجاورة لها وهي مصر وسوريا والعراق وفارس يدعوهم إلى
الإسلام؛ لأن الدعوة إنما تفيد من عقلها وأهل البلاد التي يمكن نشر الإسلام وتنفيذ
أحكامه فيها بمجرد دخول أهله فيه، أو خضوعهم لسلطانه بالصلح وإعطاء الجزية،
ولو تيسر للنبي - صلى الله عليه وسلم - في زمنه مكاتبة فغفور الصين وخان
الترك وقيصر رومية بإرسال رسل إليهم يحملون كتبه العربية، وأمكن لهؤلاء
الرسل الوصول إلى بلادهم وأمكن لهؤلاء الملوك فهم هذه الكتب وإجابة الدعوة،
لكان من المتعذر في ذلك الوقت نشر الإسلام وتنفيذ أحكامه في تلك الأقطار النائية،
التي يحول بينها وبين مهده - جزيرة العرب - شعوب معادية، فالدعوة العامة ما
كان يمكن نشرها إلا بالتدريج والانتقال من محلها إلى الأقرب فالقريب، فالبعيد
فالأبعد من البلاد والأقطار.
ومن المعلوم في التاريخ أن بلاد سوريا عربية الأصل، وكذلك العراق وإن لم
تكن اللغة المضرية عامة فيهما في زمن البعثة، وإن مصر استعمرها العرب زمنًا
طويلاً وكانت مدينتها الأولى عربية المنشأ ولغتها الهيروغليفية ممزوجة بالعربية
مزجًا، وهي لمجاورتها لجزيرة العرب قد سهل تعريب أهلها في زمن غير طويل.
كذلك المجاورة بين عرب العراق وعجم إيران كانت مسهلة لنشر الإسلام ولغته
العربية ببلاد فارس في مدة قريبة. وما كان يمكن مثل هذا في الصين لو أمكن
إيصال الدعوة إليهم وقبولهم إياها.
***
بعثة الرسل في جميع الأمم
وبطلان ادعاء أنهم كلهم أسيويون
إن بني إسرائيل لم يكونوا يعرفون غير أنبيائهم فزعموا أن النبوة محصورة
فيهم، وحرفوا آيات التوراة المبشرة برسول يبعثه الله من بني إخوتهم - أي أبناء
إسماعيل عليه السلام - ولما بعث الله خاتم النبيين وأتم على لسانه الدين بين لنا في
الكتاب المنزل عليه أنه أرسل في جميع الأمم رسلاً يدعون إلى مثل ما دعا إليه في
أصوله وجوهره كما قال {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا
الطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ} (النحل: ٣٦) .
وقد قص الله تعالى عليه في كتابه قصص أشهر الرسل والنبيين الذين عرفت
العرب والمجاورون لهم من أهل الكتاب شيئًا من تاريخهم لأجل العبرة بسيرتهم كما
قال: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُم مَّن لَّمْ نَقْصُصْ
عَلَيْكَ} (غافر: ٧٨) ولو قص عليه خبر نبي أرسل في الصين لا يعرف أحد
من المخاطبين الأولين بالقرآن ولا من يجاورهم من أهل الكتاب عنه شيئًا لكان
قصصه فتنة لا عبرة، ولقالوا: إنه يفتري علينا ما لا سبيل لنا إلى معرفته، والمثل
العامي يقول: (إذا أردت أن تكذب فبعد شهودك) ، والله تعالى يقول في حكمة
أخبار الرسل: من آخر سورة يوسف بعد ذكر الرسل إجمالاً: {لَقَدْ كَانَ فِي
قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} (يوسف: ١١١) الآية وقال {وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ
وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} (هود: ١٢٠) فهذه الحكم التي
ذكرها الله تعالى لبيان قصص الرسل لا تحق إلا بمن يعرف عنهم شيئًا في الجملة،
ويفصل الوحي ما لم يعرف منها.
نعم، لو أخبرنا الله تعالى في كتابه أن برهما أو بوذا من دعاة التوحيد
والفضيلة في الهند وكونفشيوس من دعاتهما في الصين وبعض حكماء مصر
واليونان من دعاتهما في أوربا وأفريقيا كانوا من رسل الله تعالى مثلاً وأنه لما
طال الأمد على اتباعهم أشركوا بالله وفسقوا عن أمره، كما قال في أهل الكتاب
المعروفين عند العرب {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ
مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} (التوبة:
٣١) وقال في وعظ المؤمنين: {وَلاَ يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ
عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} (الحديد: ١٦) لو أخبرَنا الله
تعالى بما ذكر لكان آية لأهل القرون الأخيرة على أخبار القرآن بالغيب ولكن بعد
أن يكون فتنة لأهل القرون الأولى - ودرء المفاسد مقدم على جلب المصالح.
روي عن علي رضي الله عنه وكرم وجهه أن المجوس كانوا أهل كتاب كما
سيذكر في بحث الجزية من هذه الفتاوى.
وثبت في تاريخ غيرهم من الشعوب التي عرف تاريخها أنه ظهر فيها
حكماء ربانيون دعوا الناس إلى توحيد الخالق وعبادته وحدة والإيمان بالبعث
والجزاء، والأمر بالعمل الصالح، وهذه الأصول الثلاث هي التي دعا إليها جميع
الرسل وعليها مدار سعادة الدنيا والآخرة. قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ
هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ
عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} (البقرة: ٦٢) فالظاهر أن أولئك
الدعاة إلى الأصول الثلاثة كانوا رسلاً يوحى إليهم فإن نقل عنهم ما ينافي الرسالة
فلا يعد حجة نفي صحيحة؛ لأننا قد عرفنا ما حل بكتب المتأخرين عنهم الذين حفظت
كتبهم في الجملة فكيف بهؤلاء الذين طمس جل تاريخهم؟ بل نرى المسلمين الذين
كفل الله تعالى حفظ كتابهم في الصدور والسطور فلم يفقد ولم يحرف منه حرف
واحد، وضبطت سنه رسولهم - صلى الله عليه وسلم - ضبطًا لم يضبط مثله
كتاب في تاريخ البشر - نراهم قد سرت إلى كثير منهم عقائد الوثنية وعباداتها
المخالفة لنصوص القرآن والسنة القطعية ولعمل الصدر الأول المنقول بالتواتر -
ونسمع الآن شيعة إيران ودعاة الفتنة في الهند يصيحون ويولولون نادبين هدم
هياكل الوثنية التي بنيت على القبور المعبودة من دون الله تعالى في الحجاز وهي
التي لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بناة أمثالها إذ لعن كل من يبني
مسجدًا على قبر ومن يضع عليه سراجًا.. .إلخ.
***
أصول الإسلام الصالحة
المصلحة لكل الأمم في كل زمان
إن الجواب عن هذا السؤال لا يمكن بيانه التفصيلي إلا في سِفْر مستقل
وموضوع هذه الفتاوى الاختصار، فنشير إلى مهمات هذه الأصول بالإيجاز فنقول:
(الأصل الأول) كون الإسلام دين الفطرة فليس فيه شيء غير معقول
كالتثليث ولا غير ممكن طبعًا كحب الأعداء، وأساسه تجريد التوحيد الذي يعتق
البشر من رق الخرافات والأوهام وقد شرحنا هذا الأصل مرارًا كثيرة.
(الأصل الثاني) ختم الرسالة والنبوة المقتضي أن لا يوجد بعد محمد
صلوات الله وسلامه عليه نبي معصوم يبلغ الناس شيئًا عن وحي الله أو يشرع لهم
شيئًا من الدين أو يحرم عليها شيئًا تحريمًا دينيًّا.
وهذا من إتمام عتق البشر من الأدعياء الذين يتحكمون في أفكار الناس
وإرادتهم يدعون أنهم نواب فيهم عن ربهم، أو أنهم آلهة بالفعل كما يدعي البهائيون
في زعيمهم أو أنبياء كما يدعي الأحمدية القاديانيون في مسيحهم الدجال.
(الأصل الثالث) أن حكومة الإسلام مقيدة بالنصوص وبالشورى ورئيسها
مقيد باختيار أهل الحل والعقد الذين يمثلون الأمة فلا يكون سلطانًا لها إلا باختيارهم
إياه للخلافة ومبايعتهم له، وهو مساو لسائر المسلمين في الحقوق فيُقتل قصاصًا
يقتل أضعف السوقة وأفقرهم، ولا يطاع في معصية الله تعالى وإنما الطاعة في
المعروف.
(الأصل الرابع) استقلال الفكر في فهم الدين، والعلم، وجميع شؤون
الحياة، فليس في الإسلام سلطة دينية روحانية تلزم المسلمين اتباع مذهب لمجتهد
وآراءه في العقائد، والعبادات الدينية، والحلال والحرام الدينيين، وإنما هنالك
نصوص قطعية وأصول وفروع إجماعية يشترك جميع المسلمين في التزامها ولا
يعد أحد متبعًا لأحد غير الرسول وجماعة الأمة فيها، ويقرب من الإجماع ما جرى
عليه جمهور سلف الأمة الصالح من أمر الدين ولم يشذ عنهم إلا أفراد لا يعتد بهم،
وماعدا ذلك من المسائل فهو اجتهادي ويجب على كل مسلم أن يعمل باجتهاد نفسه،
فإن عجز فله أن يأخذ بعلم من يثق بعلمه ودينه.
والراجح المختار في العبادات أنه لا اجتهاد في التشريع فيها بل في التنفيذ،
والأحكام الدينية منوطة بنصوص الكتاب والسنة، والقضائية يعتبر فيها مراعاة
المصالح وعليها مدارها، وهو مذهب مالك إمام دار الهجرة.
(الأصل الخامس) المساواة بين المسلمين في جميع أحكام الشرع، وهو
أصل مستقل ذكر استطرادًا في بعض الأصول قبله.
وهذه حرية دينية لا توجد في دين آخر، ومقتضاها أن البشر صاروا أحرارًا
أعزة وإخوانًا لا يفضل أحد منهم أحدًا بتفضيل إلهي محتوم، ولا بمنصب موروث
كالقديسين في بعض الملل، وإنما يتفاضلون بكسبهم العلمي والعملي حتى يجوز أن
يكون ابن أفقر الناس وأضعفهم أعلم علماء عصره وأتقاهم فيكون أفضلهم.
(الأصل السادس) تقييد المسلمين بعقائد، وأحكام وآداب وفضائل دينية
بالوازع النفسي لا تتغير، ولا تنقض وهي تؤمنهم من فوضى الحرية المسرفة التي
أوقعت شعوب أوربا في أسر النظام المالي وسلطان أهله من جهة وفي البلشفية من
جهة أخرى، وفي المفاسد الأدبية التي هتكت الأعراض وأضاعت الأنساب وبددت
الأموال من جهة ثالثة ... إلخ إلخ.
(الأصل السابع) بناء الأحكام السياسية والمدنية على أساس درء المفاسد
وحفظ المصالح - والأحكام القضائية على العدل المطلق والمساواة - ووجوب حفظ
الدين، والنفس، والعقل، والمال، والعرض، ولازمه النسب من الاعتداء عليهن.
(الأصل الثامن) مساواة النساء للرجال في جميع الحقوق بالمعروف إلا
الولاية بقسميها العام، وهو منصب الإمامة العظمى، والخاص كرياسة الأسرة،
لقوله تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} (البقرة:
٢٢٨) وبين هذه الدرجة بقوله {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} (النساء: ٣٤) .
(الأصل التاسع) بناء ضرورات الاجتماع السابقة كالحرب والرق
والضرورات الفردية على قاعدة التوقيت فيها وتقديرها بقدرها وتخفيف شرها
والسعي الممكن لإزالتها والاستغناء عنها.
(الأصل العاشر) فرضه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهي الفريضة
التي تحفظ على الأمة فضائلها وآدابها ما أقامتها.
(الأصل الحادي عشر) تكافل المسلمين وتضامنهم حكومة وأفرادًا فبهذا
وبفريضة الزكاة والترغيب في الصدقات، والواجب من الكفارات يكون جماعة
المسلمين دائمًا في كفاية قلما تنال الضرورة إلا من بعض الأفراد المجهولين منهم،
وبذلك يقل التحاسد والعدوان بينهم، ولا تجد الجماعات منهم دافعًا إلى العدوان ولا
مشكلاً كبيرًا من مشاكل الاجتماع كالبلشفية وما يقرب منها.
هذا ما أمكنت الإشارة إليه بالإيجاز، وسنفصله في أول فرصة تسنح لنا إن شاء
الله تعالى ومن يراجع كتابنا (الخلافة أو الإمامة العظمى) يجد فيه شيئًا من هذا
التفصيل.
***
فرض الجزية على أهل الكتاب
وإلزام العرب الإسلام
التحقيق أن الجزية تؤخذ من أهل الكتاب وإن كانوا عربًا، وقد أخذها النبي -
صلى الله عليه وسلم - من أكيدر دومة وكان هو وقومه عربًا من غسان وكذا من
نصارى نجران في صلحه لهم وتؤخذ أيضًا من المجوس؛ لأن النبي - صلى الله
عليه وسلم - قال: (سنوا بهم سنة أهل الكتاب) رواه الشافعي، وعن عليّ كرم الله
وجهه أنهم كانوا أهل كتاب ففقد أو رفع رواه عنه عبد الرزاق والشافعي، ويمكن
الجمع بينه وبين الحديث المرفوع بأن لقب: أهل الكتاب، صار علمًا لليهود
والنصارى وسببه معروف بيناه من قبل.
وأما مشركو العرب فسياسة الإسلام فيهم أن يكونوا مسلمين وأن تبقى جزيرة
العرب خالصة لهم، ولمن ساكنهم فيها من المسلمين، والحكمة في ذلك أن يبقى
للإسلام دولة مستقلة في مهده تقيم شرائعه، وقد فصلنا هذا من قبل مرارًا، ومع
هذا لم يكرههم على الإسلام إكراهًا، وقبل من بعضهم الجزية، وقد ظهر ولا يزال
يظهر من حكمة سياسته ما نراه من إزالة الأعاجم لملك العرب، ثم شرع الإسلام من
جميع بلاد الأعاجم إلا بقية قليلة أقواها في بلاد أفغانستان، وهم يتواطئون
ويتعاونون على التعدي على جزيرة العرب وحدها، وإزالة حكم الإسلام وسيادة
العرب منها، فالإيرانيون الآن يتعاونون مع بعض الهنود من الشيعة وخرافي
أدعياء السنة على سلب الحجاز نفسه من دولة السنة الحاضرة، وإن وقع في أيدي
الأجانب، ولم نر أحدًا منهم احتج ولا أنكر إعطاء الشريف علي بن حسين قسمًا
عظيمًا من أرض الحجاز للإنكليز حتى إن شوكت علي ومحمد علي الزعيمين
السياسيين في الهند يريدان أن تكون حكومة الحجاز جمهورية والحق الأعظم في
إدارتها للأعاجم ولهذا عادَيا ملك الحجاز وإمام السنة العربي ابن السعود؛ لأنه لم يقبل
هذا.
وقد كتب إلي بعض علماء الهنود الأحرار مرة أن ما كتبته في الخلافة وحق
قريش فيها وكون الإسلام عربي اللغة هو الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه
ولا من خلفه قال: (ولكن هؤلاء الأعاجم من الهنود لا يرونه إلا لهذا الجيل من
الترك) يعني أنهم ينسخون قاعدة الصديق الأكبر والخليفة الأول رضي الله عنه
في قوله: إن العرب لا ترى هذا الحق إلا لهذا الجيل من قريش.
وسيظهر للمسلمين من عصبية الأعاجم من الغرائب ما لم يكن يخطر لهم ببال
ونكتفي الآن بهذا الإجمال، الذي كتبناه بمنتهى الاستعجال، وما زالوا يؤيدون
خلافة الترك الباطلة الصورية على فسادهم التي نبذوها هي والإسلام وراء ظهورهم
واستبدلوا بشرعها شرائع الإفرنج، ومع هذا كله لا يزال الزعيمان شوكت علي
ومحمد علي مستمسكين بها، ويضعون شارتها على صدرهم ورؤوسهم! .
***
بدعة المحمل
وتناصر المسلمين على المستعمرين
(س ١٥، ١٦) من أيوب أفندي صبري صاحب جريدة الوطنية بمصر.
مولاي الجليل:
ألتمس من سماحتكم أن تكشفوا النقاب للمسلمين عن النقطتين الآتيتين وهما:
أولاً - ما هي علاقة المحمل بالدين الإسلامي حتى ينظر إليه كبدعة تجب
مقاومتها والقضاء عليها؟
وإذا أثبتم هذه العلاقة وأن المحمل بدعة. فما هي الأسباب التي حملت كبار
علماء المسلمين من شيوخ الأزهر الشريف والمفتيين والقضاة الشرعيين على إقرار
هذه البدعة منذ وجودها إلى الآن - وهذا الإقرار ظاهر من اشتراكهم مع الحكومة
في الاحتفال بالمحمل عند سفره وعند عودته وتقبيلهم مقوده - ثم من عدم تقدمهم
للحكومة بحكم الشرع الشريف حتى تقضي على هذه البدعة ومن عدم إصدارهم
الفتاوى الدينية وإذاعتها بين المسلمين بكل طرق الإذاعة وأهمها الصحف التي
ترحب بتلك الفتاوى وتنشرها بكل سرور؟
ومن المعلوم أنه ليس للحكومة غرض سياسي أو مالي من هذه البدعة يحول
بين العلماء وبين التقدم لها (الحكومة) بحكم الشرع الشريف في أمرها (البدعة)
وعلى فرض أن يكون للحكومة غرض فإن واجب العلماء أن يبينوا حكم الشرع
سواء رضيت عنهم الحكومة أم غضبت وبين العلماء عدد كبير غير مرتبط مع
الحكومة بشيء ما.
النقطة الثانية - تعلمون سماحتكم أن الثورة السورية - والحركة الفلسطينية
ضد الصهيونية - والثورة الريفية - إنما قامت لمقاومة الحرب الصليبية الثانية التي
أرادت أوربا بها استعباد المسلمين، والأمم الإسلامية تحت أسماء شفافة وأغراض
مزوقة لم تخف عنا بل إن المظالم التي نرزح تحت كلكلها تدل على نية أوربا
السيئة - وتعلمون أن دول أوربا - رغم ما بينها من عداوات تتناصر على إذلال
المسلمين، وامتلاك بلادهم أفلا ترون واجبًا على المسلمين أن يتناصروا على دفع
بلاء الاستعباد عنهم وعن بلادهم.
وإذا كان الريفيون لم يجدوا حولهم أمة مسلمة حرة من الاستعباد الأوروبي
تناصرهم بجيشها أو بالمال أو بالسلاح - فإن السوريين والفلسطينيين على الحدود
النجدية الحجازية، ونجد والحجاز تحت حكم ملك واحد حر من قيود الاستعمار،
فلماذا لا يناصر جلالته إخوانه المسلمين المجاورين له بجيشه، أو بسلاحه، أو
بماله، أو بنفوذه كأن يحتج ويستنكر تلك الجرائم بصفة علنية للدول التي ترتكبها
ولجمعية الأمم وللدول الأخرى؟ وأية وسيلة ترونها كفيلة بتناصر المسلمين على
تحرير أنفسهم، وبلادهم من قيود الاستعمار، واشتراك الأحرار مع المجاهدين
لفكها واشتراك المستعبدين بالتطوع بأنفسهم وأموالهم مع المجاهدين أو بإيقاد نار
الثورات في بلادهم إلى أن يهلكوا أو يتحرروا من هذا الاستعباد الجهنمي.
نلتمس الجواب على هاتين النقطتين على أن تأذنوا بنشره وإذاعته أدامكم الله
منارًا للإسلام وأهله، ونفع المسلمين، وبلادهم بمواهبكم وعلومكم على الدوام.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... المخلص
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... أيوب صبري
***
الجواب على بدعة المحمل وإقرار العلماء لها
قد بينا في إحدى مقالاتنا التي ننشرها بجريدة الأهرام الوجه الشرعي في عد
المحمل المصري المعروف بدعة دينية، وإنه لم يكن كذلك منذ أحدثته شجرة الدر
ملكة مصر بل أصله على ما قال بعضهم: إنها اتخذت هودجًا حجت فيه حين حجت
وحملت معها من الأموال للحرمين الشريفين ما حملت، ثم صارت ترسل ذلك الهودج
في كل سنة مع ركب الحج المصري الذي يحمل الأموال إلى الحرمين.
وهذا يعد من العادات المباحة التي لا علاقة لها بالدين فيعد المحدث منها بدعة
دينية محرمة.
ثم حدث من زمن لا نعرف ابتداءه أن هذا الهودج أو الهيكل الخشبي المكسو
بالديباج، المضون بالذهب صار يطاف به في الكعبة كما يطوف الناس، وينقل في
مشاعر النسك كعرفات ومنى كأنه من الحجاج، ويوضع في الحرم فيتبرك به
الجهال، ثم يدخل المسجد النبوي مع الزائرين ويوضع في حجرة هنالك كما يوضع
في المسجد الحرام قبله أيامًا، ثم صار الناس في مصر نفسها يتبركون به تبركًا
دينيًّا يرجون نفعه حتى في ذراريهم، وصار يعد من شعائر الإسلام فتحتفل به
الحكومة احتفالاً دينيًّا، ويقبل ملوكها وأمراؤها وكبار علمائها مقود جمله - فبهذه
الأشياء صار يعد من البدع الدينية؛ لأن كل هذه الأمور منكرات شرعية تشبه
المشروعة - وما هي بمشروعة - وهذا تحقيق معنى البدعة كما حققه الإمام
الشاطبي في الاعتصام الذي طبع في مصر من قبل وزارة المعارف.
وأما إقرار العلماء له فكان مجاراة للحكومة في عملها قبل أن يتحقق فيه معنى
البدعة واستمروا على ذلك بعده، وليس هذا بالمنكر الوحيد الذي أتته الحكومات
المستبدة في بلاد الإسلام وسكت عليه العلماء الضعفاء، بل هنالك بدع ومنكرات
كثيرة ومعاص من الكبائر المعلومة من الدين بالضرورة.
ومن تلك المنكرات التي صارت تعد بعدم مقاومة العلماء للحكومات من
الإسلام أو شعائره بناء المساجد على قبور الصالحين وغيرهم وتشريفها
وتجصيصها ووضع الستور وإضاءة السرج والشموع عليها وتتخذ أعيادًا ومواسم
يسمونها الموالد. وكل هذه من الأمور المحرمة التي كانت ذريعة للشرك أو الفسق
وهم يقرؤون في صحاح الأحاديث لعن النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى في
مرض موته من يفعلها.
على أن كثيرًا من كبار العلماء أنكروا أكثر هذه البدع والمعاصي فلم تبال
الحكومات بإنكارهم؛ ولذلك يعذر بعض العلماء المتأخرين أنفسهم بسكوتهم على
منكرات الحكومات بأن الإنكار لا يفيد على كونهم لا يسلمون من ضرر يصيبهم
بسببه، ونحن لا نزال منذ أنشأنا المنار ننعي عليهم مخالفتهم لعلماء السلف بهذا
السكوت على المنكرات، والمعاصي حتى انتدب أستاذنا الشيخ المرحوم حسين
الجسر للرد علينا في جريدة طرابلس منذ تسع وعشرين سنة واضطرنا إلى الرد
عليه في المجلد الثاني من المنار.
هذا وإن سكوت العلماء مهما يكن من سببه لا يعد حجة شرعية على حكم
شرعي باتفاق علماء الأصول والفقهاء. وقد فصل الإمام محمد بن إسماعيل الوزير
هذه المسألة في رسالته (تطهير الاعتقاد) وذكر بعض المنكرات والمعاصي الفاشية
في المساجد المبتدعة على القبور التي منها ما هو شرك بالله تعالى، وكذا في مكة
أم القرى أيضًا ولا ينكرها أحد، وذكر منها المقامات الأربعة للمذاهب الأربعة التي
أحدثها (بعض ملوك الشراكسة الجهلة الضلال) (كما قال) في حرم الله تعالى
(ففرقت بها عبادات المسلمين وصيرتهم كالملل المختلفة في الدين) إلخ وذكر سكوت
علماء الآفاق عليها، ثم قال: (أفهذا السكوت دليل على جوازها؟ هذا لا يقوله من له
إلمام بشيء من المعارف، كذلك سكوتهم على هذه الأشياء الصادرة من القبوريين) .
ثم ذكر في موضع آخر احتجاج بعضهم على جواز بناء المساجد على القبور
بالقبة المبنية على قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - مع أنه ولله الحمد لم يتخذ
مسجدًا - وأجاب عنه بأن هذه القبة ليست من بنائه - صلى الله عليه وسلم - ولا
بناء أصحابه ولا التابعين ولا من علماء أمته وأئمة ملته بل هي من أبنية قلاوون
الصالحي المعروف بالملك المنصور في سنة ٦٧٨هـ، ثم قال: (فهذه أمور دولية
لا دليلية يتبع فيها الآخر الأول) .
وإننا بعد كتابة ما ذكر وجمع حروفه في المطبعة وقبل طبعه قد اطلعنا على
كتاب في البدع لبعض علماء الأزهر المدرسين فيه لقسم التخصص العالي صرح
فيه بالإنكار على العلماء للسكوت على المنكرات، والبدع الفاشية بعد أن عد كثيرًا
ًمنها كابن الوزير.
***
الجواب
عن مسألة تعاون المسلمين على دول الاستعمار
لا شك أن هذا التعاون واجب شرعًا، ولكن تفرق المسلمين وسوء حالهم
المانعة من ذلك معلومة للسائل ولغيره كما يعلم اتفاق دول الاستعمار وتعاونهم المنظم
على سلب بلادنا واستعباد شعوبنا فلو أن ابن السعود أراد مساعدة السوريين بالحرب
على كونهم يقولون إنهم يحاربون حربًا مدنية وطنية لا دينية لحاربته إنكلترا
وإيطاليا مع فرنسا، ولساعدهن على ذلك ملك العراق، وأمير شرق الأردن وشاه
إيران قطعًا، وربما شايعهم آخرون من الشعوب الإسلامية، وقد سمعنا الملك عبد
العزيز يقول غير مرة بمكة أمام الناس: (إن عداوة الإفرنج لنا أمر معقول لا
يعقل غيره وإننا والله لا نخاف من عداوتهم كما نخاف من عداوتنا نحن المسلمين
بعضنا لبعض، فنحن على شدتنا في مقاومة الاستعمار قولاً وعملاً لا نشير عليه بما
ذكره السائل؛ لأننا نعلم علمًا قطعيًّا، أنه يقضي بذلك على دولة في أول نشأتها وهو
إلى الآن لم يسلم من شر المسلمين أنفسهم.
وأما ما دون ذلك من مساعدة فلا يصح للسائل ولا لغيره أن يجزم بنفيها ولا
أن يسأل عنها، كما أنه لا يصح له أن يجعل ما يجب أن يعمله المسلمون للدفاع
عن أنفسهم من المباحث التي تنشر في الجرائد، وليس من المصلحة أن نقول أكثر
من هذا في هذه المسألة الكبرى.
ــ