للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


جمال باشا السفاك

كان جمال باشا من آحاد الضباط الكثيرين المنتمين إلى جمعية الاتحاد والترقي
فلم يلبث أن ترقى فوق الهام والرءوس إلى مقام الزعماء على حين قد تدهور أمير
الألاي صادق بك عن منصة الزعامة العليا لها وسقط كثير من الضباط وغيرهم
ممن مكاناتهم عالية، وإنما ترقَّى جمال بك ببراعته وجرأته على سفك دماء خصوم
الجمعية، فهو الذي دبر مكيدة المذبحة الأولى في أدنه إذ كان واليًا لها بعد الدستور،
وهو الذي قتل الجم الغفير من كبراء الآستانة المخالفين للجمعية عقب اغتيال
محمود شوكت باشا، ولأجل هذا اختارته الجمعية لقيادة فيلق سورية بعد الحرب
على كونه لا يزال ناظرًا للبحرية، وما سمعنا في أخبار دولة من الدول أن أحد
وزرائها يعطى وظيفة دون الوزارة في بلاد بعيدة عن العاصمة فيكون فيها عدة
سنين في أشد أوقات الحاجة إلى قيامه بشئونها وناهيك بوزيري الحربية والبحرية
في وقت الحرب ولكن زعماء الجمعية يأخذون المناصب العليا بعلومهم في الجمعية
لا بخدمتهم للدولة.
نعم إن الجمعية اختارت جمال باشا لأجل أن يتم تنفيذ ما توعدت به سورية
من بضع سنين في جريدتها طنين وعبرت عنه بالدش البارد وإنما كانت مذبحة
الكرك وتعذيب العرب برضخ رءوسهم بالصخور هي الرشة الأولى من هذا الدش
وإننا على علمنا بهذا الإنذار وبما هو أشد منه وأوضح وعلى ذكرنا بعض تلك النذر
في مقالات العرب والترك، وغيرها في المنار، قد ارتبنا في أول خبر بلغنا عن
شنق جمال باشا لبعض نابغي المسلمين في بيروت، ولا يزال أكثر المصريين
يكذبون أخبار التقتيل والنفي التي تكررت بل تواترت، وقد ظفرت جريدة المقطم
ببيان لجمال باشا نفسه نشرته في اليوم السابع من شهرنا هذا يصرح فيه بعمله
ويحتج له، وهذا ما نشرته:
***
بيان من جمال باشا
نشر جمال باشا القائد العثماني في سورية البيان التالي بإمضائه في ٥ رجب
سنة ١٣٣٤ الموافق ٧ مايو سنة ١٩١٦ وهذا هو نصه العربي كما نشر بحروفه:
لما جرى القصاص على بعض الأشخاص المنتسبين في الحزب المتشكل في
مصر والممالك العثمانية تحت تمويه عنوان حرب اللامركزية والذين حوكموا في
ديوان الحرب العرفي بعاليه كنت كتبت في البيان الذي نشرته في أوائل أوغستوس
سنة ١٣٣١ أن التحقيقات جارية بصورة دقيقة بحق أعوانهم الأشرار الذين لم يكن
قبض عليهم قبلا.
إن الوثائق السياسية التي عثرنا عليها واعتراف عبد الغني العريسي صاحب
المفيد الذي ألقي القبض عليه أخيرًا بعد أن ذكرنا في البيان قراره واعتراف سيف
الدين الخطيب عضو محكمة بداية حيفا السابق ورفيق رزق سلوم ضابط الاحتياط
ورفقائهم الآخرين قد نور المسألة من جميع أطرافها وسيق إلى ديوان حرب عاليه
الأشخاص الذين ظهر أن لهم علاقة في هذه المسألة بدرجات متفاوتة مع من تبين أن
لهم دخلاً في المساعي الخائنة بتنفيذهم ترتيبات الجمعية وتشبثاتها وأعمالها، وفي
ختام التحقيقات والمحاكمات التي أجراها الديوان العرفي في عاليه صدرت الأحكام
المقتضاة بحق المظنون فيهم من الموقوفين والفارين كل على حسب اشتراكه في
ترتيبات هذه الجمعية التي غايتها ومقصدها سلخ سورية وفلسطين والعراق عن
راية السلطة العثمانية وجعلها إمارة مستقلة، فحكم على شفيق بن أحمد مؤيد العظم
والأمير عمر ابن الأمير عبد القادر، وعمر بن مصطفى حمد، ورفيق بن موسى
رزق سلوم، ومحمد بن حسين الشنطي، وشكري بن بدري علي العلي، وعبد
الغني بن محمد العريس، وعارف بن محمد الشهابي، وتوفيق بن أحمد البساط،
وسيف الدين بن أبي النصر الخطيب، والشيخ أحمد بن حسين طبارة، وعبد
الوهاب بن أحمد الإنكليزي، وسعيد بن فاضل عقل، وبتروباولي، وجريج بن
موسى الحداد، وسليم بن محمد سعيد الجزائري، وعلي بن محمد حاجي عمر،
ورشدي بن أحمد الشمعة، وأمين لطفي بن محمد حافظ، وجلال بن سليم البخاري
بالإعدام لثبوت اشتراكهم في هذه التشبثات بالدرجة الأولى بصورة فعلية، وعلى
من تبين دخولهم في الدسيسة بصورة فرعية سالم بن مصطفى مظلوم بالاعتقال
بالقلعة خمس سنين وتوفيق بن محمد الناطور ويوسف بن نحيبر سليمان بعشر
سنين، وحسين بن خليل حيدر بخمس عشرة سنة، وعلى رياض بن رضا الصلح
بنفي مؤبد، وعلى الأمير طاهر بن أحمد الجزائري بعشر سنين في الكريك، وعلى
الذين مع كونهم لم يقيموا المقصد والتشبث الحقيق وثبت وجود مساع لهم مع هذه
الجمعية بصورة محسوسة إما بسائق الجهل أو التصلف وإنما لم يوجد عليهم وثائق
تنور وجدان الهيئة الحاكمة وتثبت مجرميتهم واشتراكهم وهم رضا الصلح وأسعد
حيدر بإعادتهما إلى منفاهما، وأعطي القرار بمنع محاكمة وبراءة كل من محمد
أفندي كامل الهاشم، إبراهيم القاسم سامي العظم، الشيخ جمال الدين الخطيب، عبد
الحميد معلم الرسم، محيي الدين فريحة البيطار حسين صبري، رشدي الغزي،
عاصم بسيسو الغزي، عزت الأعظمي، مصطفى الكيلاني، عبد الرحيم حنون،
الدقتور حسام الدين، نجيب شقير، الشيخ فتح الله، الدقتور أحمد قدري، سليم
الطبارة، جميل الحسيني، المفتي سعيد أفندي الباني، سليم الشمعة، سليم البخاري،
فائز الخوري، رشيد الخشيمي، عمر الأتاسي، البكباشي علي رضا، الدقتور
أمين قازما، سعيد عدوه، الدقتور عبد الحفيظ اليوزباشي جميل، فريد باشا اليافي،
عثمان العظم.
ومن الذين صدر بحقهم حكم الإعدام وهم شفيق المؤيد، الأمير عمر، شكري
العسلي، عبد الوهاب الإنكليزي، رشدي الشمعة، رفيق رزق سلوم، جرى
إعدامهم هذا الصباح في الشام، والآخرون جرى إعدامهم في بيروت، وسائر
المجرمين صار سَوْقهم إلى منفاهم وحبوسهم وعلى هذه الصورة تقرر إذًا في سورية
وفلسطين السكون والأمن المحتاج إليهما إلى الأبد.
وها أنا ذا أنشر الآن من الوثائق المهمة التي كانت أساسًا لهذه التحقيقات ما
يكشف الغطاء عن حزب اللامركزية الحقيقي وسيُنشر كتاب حاوٍ جميع الوثائق على
حدة مع اعترافات المجرمين المهمة وتاريخ صغير لهذه المسألة.
ومن إمعان النظر في هذه الوثائق يفهم أولاً أن هؤلاء الأشخاص قد ضحوا بلا
تردد جميع ما لديهم من المقدسات الدينية والوطنية لقاء منافعهم الخسيسة والمادية،
إن هؤلاء الأشخاص قد أشركوا مساعيهم ونفوذهم وقدرتهم أعداء الدولة وسعوا في
إعداد الطاعة في الداخل تجاه تجاوزات الأعداء في الخارج.
ومما هو جدير بالتقدير أن إدارة هذه التشبثات لم تتسع بالنظر لما جبل عليه
العنصر العربي النجيب من الصداقة والطاعة والصلابة الدينية العارية عن شوائب
الظنون والشكوك بأسرها، بل حصرت بين بعض أشخاص مسلمين ومسيحين لا
أهمية لهم ولا يكاد يتجاوز عددهم المائتين من المحكوم عليهم حديثًا وقديمًا وجاهًا
وغيابًا.
وبناءً على الصلاحية التي تخولني إياها المادة الثانية من القانون المؤرخ في
١٤ مايو سنة ١٣٣١ المتضمن التدابير التي ينبغي للجهة العسكرية التوسل بها في
وقت النفير العام ضد الخارجين على الحكومة وإجراءاتها فإني ساعٍ في إبعاد أولئك
الأشخاص الذين يتخذون حقوق الدولة ومقدساتها ملعبة في سبيل منافعهم الشخصية
مع من لهم علاقة معهم من أسرهم وعائلاتهم من قريب أو بعيد إلى بعض ولايات
الأناضول، وقد اتخذت الأسباب الكافلة لإعاشة هذه العائلات ورفاهيتهم في المحال
التي ينفون إليها تحت عناية الحكومة السنية وعاطفتها، وسيعطون هناك أراضي
وأملاكًا قيمتها تعادل أملاكهم وأراضيهم التي يملكونها في سورية، وإني أوصي
جميع الأهلين في سورية وفلسطين بالسكينة والطمأنينة، على أنه من الآن فصاعدًا
لم يبق محل لإجراء التعقيبات والإبعاد إلى الولايات العثمانية في حق أحد مطلقًا ما
لم تظهر وثائق قوية تدل على خيانته.
... ... قومندان الفيلق الرابع وناظر البحرية
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... أحمد جمال

(المنار)
كل ما احتج به جمال باشا لسفكه الدماء وإجلائه الناس عن أوطانهم
أباطيل، وقد قتل بعد من ذكرهم هنا عددًا ليس بقليل، منهم السيد عبد
الحميد الزهراوي الشهير، وأول أباطيله تسمية القتل برأيه ورأي ديوانه العرفي
قصاصًا، وإنما القصاص في شرع الله أن يقتل الجاني بمن قتله بغير حق، ومعناه
في اللغة يدل على المساواة والمماثلة.
ثم إنه يقول: إن التهمة الموجبة للقتل والنفي هي الاشتراك في جمعية غايتها
جعل العراق وسورية وفلسطين مملكة مستقلة بعد سلخها من راية الدولة، ونحن
نعتقد بطلان هذه التهمة بأدلة كثيرة (منها) أن الحزب الذي جعله أصلاً، للتهمة
التي رمى بها هؤلاء الناس له برنامج معروف مطبوع ينطق بكذب تلك التهمة،
(ومنها) أن هؤلاء الذين اعترف الباشا بقتلهم في هذا البيان لا يوجد فيهم إلا واحد أو
اثنان من الداخلين في هذا الحزب، (ومنها) أننا نعلم باختبارنا لبعضهم واختبار
من تثق به للآخرين أنهم لا يجمعهم رأي ولا مودة ولا سكنى ولا معرفة فكيف
يتفقون مع ذلك على أمر عظيم كالذي اتهموا به؟ وأما الجرم الأكبر الذي يجمعهم
وبه استحقوا العقاب هو أنهم من أذكياء العرب الذين يقولون بوجوب محافظة قومهم
على لغتهم وأن يكون لهم حظ من مشاركة الحكومة في إدارة بلادهم، وأن لبعضهم
ذنوبًا سابقة لا يغفرها الاتحاديون كإهانة شفيق بك لطلعت بك، والسعي لعدم
إقراض أوربة للاتحاديين عشرات من الملايين، يضيعونها وتبقى البلاد رهينة بها
للدائنين، وتوثيق أعضاء المنتدى الأدبي في الآستانة عُرى الإخاء بين طلبة العرب
في مدارس الحكومة فيها، وإهانتهم لصاحب جريدة إقدام التركية في نشر تلك
المقالة التي قال فيها كاتبها: إن الطريقة المثلى للتنكيل بعرب الجزيرة إغراء
بعضهم بقتال بعض بالمال؛ لأن العرب تبيع كل شيء بالمال حتى العرض
والناموس.
ثم إنه يصرح بأنهم أُخِذُوا بالظن فلم تثبت عليهم تلك التهمة باليقين، ولو
ثبتت لما جاز قتل أحد منهم بها شرعًا ولا قانونًا؛ لأنها عبارة عن رأي سياسي لم
يدع قاتلهم أنهم شرعوا في تنفيذه بالخروج على الدولة في أثناء النفير العام الذي حاكمهم بقانونه، وكيف يعقل أن يقوم نفر قليل كهؤلاء بالخروج على الدولة والسواد
الأعظم من قومهم يخالفهم فيه باعتراف جمال باشا نفسه والدولة تحكم بلادهم
بالأحكام العرفية القاسية وجميع شبان الأمة وكهولها جنود مسلحون بين يديها؟ ويا
ليت شعري ما تلك المنافع المادية الخسيسة التي ضحى أولئك الأذكياء الفضلاء دينهم
ووطنهم لأجلها؟ إن كانت ما ذكره من غاية جمعيتهم المزعومة، فتلك غاية
سياسة عالية لا مادية خسيسة، وإن كانت غيرها فما هي؟