لمّا أظهر النبي صلى الله عليه وسلم دعوة الإسلام عظم ذلك على قريش فقصدته ومَن آمن به بالإيذاء بل ائتمروا به وأزمعوا على قتله فمنعه قومه بنو هاشم وبنو المطلب فنابذتهم قريش وأخرجوهم من مكة إلى الشِّعب (وهو بالكسر: الوادي) شِعب أبي يوسف فأمر النبي مَن كان بمكة من المؤمنين أن يهاجروا إلى الحبشة وكان يثني على النجاشي بأنه لا يُظلم عنده أحد ودخل هو وقومه الشعب فقطعت قريش عنهم الأسواق ومنعتهم الرزق وأجمعت على أن لا تناكحهم ولا تقبل منهم صلحًا ولا تأخذها بهم رأفة حتى يسلموه للقتل وكتبوا بذلك صحيفة وعلقوها في الكعبة وتمادَوْا على ذلك ثلاث سنين فاشتد البلاء على بني هاشم في الشعب وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم عمه أبا طالب أن الأَرَضَة لحست صحيفة قريش إلا ما كان اسمًا لله قال: أربُّك أخبرك بهذا؟ قال: نعم. قال: فوالله ما يدخل عليك أحد ثم خرج إلى قريش فقال: يا معشر قريش إن ابن أخي أخبرني ولم يكذبني قط أن هذه الصحيفة التي في أيديكم قد سلط الله عليها دابة فلحست ما فيها فإن كان كما يقول فأفيقوا فوالله لا نُسْلِمه حتى نموت، وإن كان يقول باطلاً رفعناه إليكم. فقالوا: رضينا ففتحوا الصحيفة فوجدوها كما أخبر فما زادهم إلا بغيًا وقالوا: هذا سحر ابن أخيك. فقال: يا معشر قريش علامَ نُحبس ونحصر، وقد بان الأمر وتبين أنكم أهل الظلم والقطيعة، ثم دخل وأصحابه بين أستار الكعبة، وقال: اللهم انصرنا على مَن ظلمنا وقطَّع أرحامنا واستحلّ ما يَحْرم عليه منا ثم انصرف إلى الشعب، وقال هذه القصيدة. قال البغدادي في الخزانة: قال ابن كثير هي قصيدة بليغة جدًّا لا يستطيع أن يقولها إلا مَن نُسبت إليه وهى أفحل من المعلقات السبع وأبلغ في تأدية المعنى. اهـ. ونحن نذكر منها ما ذكر في الخزانة وقيل هي أكثر من ذلك، وهو: خليليَّ ما أُُذني لأول عاذل ... بصغواء في حق ولا عند باطل [١] خليليَّ إن الرأي ليس بشركة ... ولا نَهْنَه عند الأمور البلابل [٢] ولما رأيت القوم لا وُدّ عندهم ... وقد قطعوا كل العُرَى والوسائل [٣] وقد صارحونا بالعداوة والأذى ... وقد طاوعوا أمر العدو المزايل [٤] وقد حالفوا قومًا علينا أظنة ... يعضون غيظًا حلفنا بالأنامل [٥] صبرَتْ لهم نفسي بسمراء سَمْحَة وأبيض عضب من تراث المقاول [٦] وأحضرت عند البيت رَهْطي وإخوتي ... وأمسكت من أثوابه بالوصائل [٧] قيامًا معًا مستقبلين رِتاجه ... لدى حيث يقضي خَلْفه كل نافل [٨] أعوذ برب الناس من كل طاعن ... علينا بسوء أو ملحّ بباطل [٩] ومن كاشح يسعى لنا بعيبة ... ومن ملحق في الدين ما لم نحاول [١٠] وثور ومن أرسى ثبيرًا مكانه ... وراقٍ لبرّ في حراء ونازل [١١] وبالبيت حق البيت من بطن مكة ... وبالله إن الله ليس بغافل [١٢] وبالحجر الأسود إذ يمسحونه ... إذا كنفوه بالضحى والأصائل [١٣] وموطئ إبراهيم في الصخر رطبة ... على قدميه حافيًا غير ناعل [١٤] وأشواط بين المروتين إلى الصفا ... وما فيهما من صورة وتماثل [١٥] ومن حجّ بيت الله من كل راكب ... ومن كل ذي نذر ومن كل راجل [١٦] فهل بعد هذا من معاذ لعائذ ... وهل من معيذ يتقي الله عادل [١٧] يطاع بنا العِدَى وودّوا لو أننا ... تسد بنا أبواب تُرك وكابُل [١٨] كذبتم وبيت الله نترك مكة ... ونَظْعَن إلا أمركم في بلابل [١٩] كذبتم وبيت الله نُبْزَى محمدًا ... ولمّا نطاعن دونه ونناضل [٢٠] ونسلمه حتى نُصرّع حوله ... ونذهل عن أبنائنا والحلائل [٢١] وينهض قوم في الحديد إليكم ... نهوض الرَّوَايا تحت ذات الصلاصل [٢٢] وحتى نرى ذا الضِّغْن يركب ردعه من الطعن فعل الأنكب المتحامل [٢٣] وإنا لعمر الله إنْ جدّ ما أرى ... لتلتبسن أسيافنا بالأماثل [٢٤] بكفي فتى مثل الشهاب سَمَيْدَع ... أخي ثقة حامي الحقيقة باسل [٢٥] وما ترك قوم لا أبا لك سيدًا ... يحوط الذِّمار غير ذَرْب موكل [٢٦] وأبيض يُستسقى الغمام بوجهه ... ثِمال اليتامى عصمة للأرامل [٢٧] يلوذ به الهلاّك من آل هاشم ... فهم عنده في رحمة وفواضل [٢٨] جزى الله عنا عبد شمس ونوفلاً ... عقوبة شر عاجلاً غير آجل [٢٩] بميزان قسط لا يخسّ شَعْرة ... له شاهد من نفسه غير عائل [٣٠] ونحن الصميم من ذؤابة هاشم ... وآل قُصَيّ في الخطوب الأوائل [٣١] وكل صديق وابن أخت نعدّه ... لعَمْري وجدنا غِبَّه غير طائل [٣٢] سوى أن رهطًا من كلاب بن مرة ... براء إلينا من معقة خاذل [٣٣] ونِعم ابن أخت القوم غير مكذب ... زهير حسامًا مفردًا من حمائل [٣٤] أشمّ من الشمّ البهاليل ينتمي ... إلى حسب في حَوْمَة المجد فاضل [٣٥] لعمري لقد كُلّفت وَجْدًا بأحمد ... وإخوته دأب المحب المواصل [٣٦] فلا زال في الدنيا جمالاً لأهلها ... وزينا لمن ولاه ذبَّ المشاكل [٣٧] فمن مثله في الناس أي مؤمل ... إذا قاسه الحكام عند التفاضل [٣٨] حليم رشيد عادل غير طائش ... يوالي إلهًا ليس عنه بغافل [٣٩] فأيده رب العباد بنصره ... وأظهر دينًا حقه غير ناصل [٤٠] فوالله لولا أن أجيء بسُبّة ... تجر على أشياخنا في القبائل [٤١] لكنا اتبعناه على كل حالة ... من الدهر جِدًّا غير قول التهازل [٤٢] لقد علموا أن ابننا لا مكذب ... لدينا ولا يعنى بقول الأباطل [٤٣] فأصبح فينا أحمد في أَرُومة ... يقصر عنها سورة المتطاول [٤٤] حدبتُ بنفسي دونه وحميته ... ودافعتُ عنه بالذرى والكلاكل [٤٥]