للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


تقرير مفتي الديار المصرية
في إصلاح المحاكم الشرعية

(الكتبة)
أرى أولاً أنه يجب وضع قاعدة لانتخاب الكتاب وتعيينهم وأن يشترط في
تعيينهم معرفة اللغة العربية علمًا وعملاً وشيء من فقه الشريعة الإسلامية، فليس
من المعقول أن محكمة تحافظ على لفظ (هذا) و (هؤلاء) ولا تحافظ على وجود
أساليب الكلام التي يتوقف عليها فهم المعاني، وهذا الشرط إن لم يمكن تحقيقه الآن
في كثير من الناس، لكن يمكن تحديد أجل له وتوضع قاعدة الامتحان من اليوم
وينتخب الأعرف فالأعرف، وبعد الأجل الذي يضرب وغايته أربع سنوات لا يقبل
في وظيفة الكتابة بالمحاكم الشرعية إلا من نُظر بالامتحان معرفته للغة العربية
خصوصًا في التحريرالصحيح والحساب، وشيء من نظام المحاكم الشرعية وطرق
التحرير فيها، ويمكن أن يزاد على ما اعتبر في شهادة الأهلية على حساب نظام
الجامع الأزهر أن يمتحن الطالب في الإنشاء، والكتابة وحسن الخط، والحساب،
وآداب الدين ونظام المحاكم الشرعية وبذلك تكون شهادة الأهلية كافية وحدها
لانتخاب حاملها كاتبًا في المحاكم الشرعية بدون امتحان ويكون الجامع الأزهر أو
ما يلحق به منبتًا لخدمة الشريعة كتبة وقضاة، وهو أفضل مايرجى من هذا المكان
الشريف.
ثم توضع قاعدة لترقيهم ينتقل الأكفاء خلف الأكفاء لا يثب أدناها فوق
رءوس أعلاها ويُرتبون على حسب كفاءتهم على وجه لا يُنقض إلا بأسباب معروفة
ثم يوضع لهم نظام كالمعروف (بالكادر) ويفرض لهم زيادة في المرتبات، وتحدد
لهم درجات لها مبدأ ووسط ونهاية، كما هو الجاري في جميع وظائف الحكومة من
هذا القبيل، وهو أمر يستدعي أن تسخو نظارة المالية بشيء من إيراد هذه المحاكم
لها , فإن كان ذلك لا يمكن في العام القائم، فلتوضع القاعدة وليكن تنفيذها بالتدريج
حسبما يستطاع إلى أن يتم الأمر على وجهه، ثم تصنع في محل الكتاب نافذة يخاطبهم
منها طالب الصورة أو الإعلان أو الإعلام الشرعي، ويناوله الكاتب منها ما يريده
على ما هو معروف في قلم محضري المحاكم الأهلية حتى يقل الاختلاط بين الناس
وبين الكتاب، أما العقود والإشهادات فيحضر المتعاقدان فيها أمام القاضي ويأخذ
الكاتب منهما جميع ما يحتاج إليه من أسماء وألقاب ومحل الإقامة وحدود وشهود ونحو
ذلك، ثم ينصرف الكاتب ويحرر العقد ويقيده في مضبطته بدون حضور المتعاقدين،
ثم يأتي المتعاقدون ويتلى العقد عليهم أمام القاضي، فيوقعون عليه ثم يضرب لهم أَجَلاً
لأخذ الصورة، وهذا لا عسر فيه ولا مانع منه إلا كسل القاضي وتحكم الكاتب.
وعلى النظارة أيضًا أن تحدد علاقة الكتاب برئيسهم وهو الباشكاتب أو
الكاتب الأول، وأن تحدد وظيفة رئيس الكتاب وما يناط به من العمل، وما
يدخل في عهدته من المواد حتى يعرف كل عمله فيُسأل عنه، أما تخصيص أفراد
الكتاب أنواع الأعمال فذلك يكون إلى الباشكاتب باتحاده مع القاضي، ثم ينظر فيه كل
سنة وينقل الكاتب من عمل إلى عمل حسب استعداده حتى لا يشهر كاتب بين الناس ...
بأنه صاحب كذا دون سواه.
وهنا أذكر أمراً لاحظته في توطن الكتبة وهو أنه في بعض محاكم المراكز
يتفق أن الكاتب يسكن في بلدته التي فيها زراعته، وربما يغيب عن المحكمة في
أوقات العمل أو يغيب اليوم , كله كما وجدناه في محكمتي زفتى وميت غمر , فيجب
أن يراعى ذلك.
(القضاة)
قبل أن أقول كلمة في ما عليه الأغلب من هؤلاء القضاة أقول: ليست المحاكم
الشرعية وحدها هي التي ابتليت بضم الضعفاء وغير الأكفاء في جوانبها، فكثير من
القضاة في المحاكم الأهلية لا يزيدون في معارفهم عن من كثر الكلام فيهم من قضاة
المحاكم الشرعية وما يُتَحَدَّث به من الأحكام المخالفة للشريعة صادرًا عن هذه
المحاكم يُتَحًّدث به مخالفًا للقانون والعقل صادرًا من محكمة أهلية أو مختلطة , وقد
رأينا ذلك وشاهدناه، والحكومة تعرف كثيرًا منه، والكمال غاية يسار إليها، ولكن
يحول دونها ضعف الإنسان وعجزه.
وجدت كثيرًا من قضاة المحاكم الشرعية خصوصًا المراكز لا تسر معارفهم
الشرعية والنظامية ولا يرضى العدل سيرهم في أعمالهم، ولذلك وجدت الحاذق منهم
يحوِّل جميع القضايا تقريبًا إلى محاضر صلح تجنبًا للحُكم، ولا يلبث المتصالحان
بين يديه أن يختلفا لأن الصلح غير حقيقي، ووجدت فيما وجدت من الأحكام خطأً
كثيرًا، وأكثر ما يعولون في تطبيق اللوائح على الكتبة ومنزلتهم من العلم ما وصفنا
في الباب السابق.
تكرر من نظارة الحقانية وضع قواعد لانتخاب القضاة، وكان فيها أن
يمتحن الطالبون في النظارة، ثم اكْتُفِيَ بما وُضِعَ في اللائحة الجديدة، ولجنة
الانتخاب التي نيط بها تعيين القضاة وترقيتهم ليس لها إلا تخير الأشخاص من
بين حاملي شهادة العالمية أو القضاة أو المفتين، ولا بحث لها في سيرهم الشخصية
وقت الانتخاب كما عرفته من رواية الأجلاء من أعضائها.
وأرى من الواجب أن تبقى شهادة العالمية معتبرة كما هي في اللائحة، لكن
يجب أن يزاد على ما تقرر في نيل هذه الشهادة أن يتلقى الطالب كتابًا من كتب
الفقه على الطريقة العملية في أبواب القضاء والمعاملات، وأن يمتحن في الفقه
بهذا الاعتبار، وأن تكون له معرفة بالحساب، وبالكتابة والتحرير , وبنظام
المحاكم الشرعية وعلم كافٍ بالآداب الدينية، وشيء من التاريخ وتقويم البلدان
مما يزيد الرجل بصيرة في الناس وأحوالهم وأن يكون من حسن الخط بحيث يمكن
قراءة ما يكتبه، وهذا أمر ميسور متى فرض ذلك على كل من يطلب وظائف القضاة
والإفتاء من طلبة الجامع الأزهر وما ألحق به؛ فإن لم يكن في هذا اليوم فليضرب له
أجل أربع سنوات لا يقبل بعده في هذه الوظائف إلا من عرف تحصيله لهذه
المعارف، ثم يُبحث من مشيخة الأزهر ومجلس إدارته إن كان لم يوظف في
جهة أخرى، ويسأل من شيخ علماء جهته إن كان من طلبة غير الجامع الأزهر
ولكنه داخل تحت نظامه، وبعد هذا وذلك يعين ويرجى منه الخير لعمله - إن شاء الله - أما اليوم فيقدم من هو على شيء من هذه المعارف على غيره.
وإلا فالعمل جارٍ على أن يعين أحد المشايخ، وقد كان على بعد تام من
العالم وشؤونه أيام إقامته في الجامع أو المدرسة، ولا يعرف من القضاء إلا ما قرأه
في عبارات كتب الفقه، ولم يشهد مجلسًا من مجالسه، ولم يعرف شيئًا عن
نظامه الشرعي المعمول به في بلده، ولا يمكنه تحرير رقيم حسن الأسلوب
مفهوم المضمون في أدنى شؤونه، وربما لا يعرف أرقام الأعداد الحسابية، ثم يفوض
إليه الحكم وهو على هذه الحالة، فيلتجئ إلى الكاتب الذي يجده في المحكمة، فإن
كان ذكيًّا أمكنه أن يتعلم في سنة أو ما يزيد عليها، وإن كان دون ذلك بقي تلميذًا
للكاتب إلى ما شاء الله، فمن كانت بدايته أن يكون تلميذًا للكاتب فكيف تكون نهايته؟
وإني لا أنكر أن بعض القضاة صار بعد التمرن من أحسن رجال القضاء، ولكن لا
يصح أن يكون الآحاد قواعد يُبنى عليها العمل لمن يريد إحكامه.
وإني أحبُّ أن أصرح بأمر ربما يغضب له بعض أهل الأثرة من أهل العلم
الحنفية وهو أننا مسلمون، وهيهات أن يتيسير لنا بعد فشو ما فشا من البدع في
الدين أن نحافظ على قوام الإسلام من حيث هو، وليس الزمن زمن تعصب
لمذهب دون مذهب، ومن دَرَسَ فقه الشافعية أو المالكية لا يعسر عليه فهم فقه أبي
حنيفة , فإن الأصول متقاربة والاختلاف في الفروع مذكور في أغلب كتب الفريقين،
وحصر التعيين في الحنفية يضيق دائرة الانتخاب ويلجئ إلى تعيين الضعفاء في
العلم والعزيمة، فلِمَ لا يُطلق الانتخاب من هذا القيد فتتسع دائرته وينتفع من
أهل الاستقامة والدراية عدد ليس بقليل ممن قضى في تحصيل فقه الشافعي أو مالك
أو ابن حنبل اثنتي عشرة سنة فأكثر إلى عشرين أو ثلاثين وجُلُّ ما حصله إنما هو في
المعاملات؟ أرجو أن يصادف ما أتمناه قبولاً لدى العلماء والحكومة فنجد العدد
الكافي من الأكفاء , لكن إذا توفرت هذه الشرائط في القاضي وكان من المعارف على
ما ذكرنا أفلا يمكنه أن يحصل معيشته بأسعد مما يناله في خدمة المحاكم الشرعية؟
وهل نجد عددًا كثيرًا يقضي حياته بمرتب ستمائة قرش وإذا ترقي فلن يصل إلي
ألفي قرش إلا بعد أن يفوق الأقران ويجوز كثيرًا من العقبات أما ما زاد من المرتبات
على ذلك فهو وظيفة واحدة بثلاثة آلاف قرش وأخرى بأربعة آلاف قرش في محكمة
الإسكندرية ثم تأتي وظائف المحكمة العليا والواصلون إلى هذه المراكز قليلون جدًّا
كما لا يخفى.
فأرى أن الحكومة التى تسعى إلى تكميل المحاكم الشرعية وتقويم حالها لا بد من
أن تزيد في المرتبات ما يفي بحاجة القضاة على حسب درجاتهم وأن تضع نظامًا
لترقيهم في الدرجات يكفل نيل كل منهم حقه على نحو ما هو معروف في القضاء
الأهلي ولا أسال الحكومة أن تجعل المقادير كالمقادير ولكن ألح في مراعاة النسبة
بين العمل ومكانة الشخص وبين مرتبه , وبهذا يضمن النجاح إن شاء الله وأرجو
أن يكون ذلك من بدايات أعمال لجنة الإصلاح فإنه من الغريب في حكومة
يكون رئيس حجاب المحكمة فيها بمرتب أحد عشر جنيهًا ووكيله بثمانية وأفراد
الحجاب بستة وفرّاشو المحكمة بما بين ثلاثة ونصف إلى ثمانية وأن يكون المفتي
وهو أحد أعضاء المحكمة بسبعة أي أقل من رئيس الفراشين في محكمة من
المحاكم في القطر المصري ثم تطالبه بالمعارف الواسعة والاستقامة الكاملة وجمهور
القضاة فيها يترددون بين الستة والثمانية. وليلاحظ أني أطلب التدريج في تنفيذ
ما يتقرر بحسب ما تسمح به ميزانية الحكومة ولا أكلف الأمة بغير المستطاع.
أما عدد القضاة والمفتين فأراه زائدًا عن قدر الكفاية في كثير من المحاكم
وأرى تقليل عددهم وإحالة من يُستغنى عنه على من يبقى وأن يزاد في مرتبات
الباقين ما يتوفر من الاستغناء عمن لا عمل لهم ولا يرجى منهم أن يعملوا وبعد
الاطلاع على جميع أعمال المحاكم في الوجة القبلي والبحري بما يرد منها من
جداول الأعمال يمكنني أن أضع لذلك مشروعًا وافيًا إن شاء الله.
بقيت أمور لا بد من التنبيه عليها منها عدم الاستقلال في الرأي عند القضاة
وأهم سبب قريب له هو اشتداد علاقتهم بالنظارة في الشؤون القضائية فتراهم يحسون
أنهم مقيدون برأي النظارة في أدنى الشؤون فضلاً عن أعلاها ويكفي أن أذكر أن
محكمة رأت عدم اختصاصها بالنظر في قضية هي من أَولى ما تنظر فيه قياسًا على
رأي النظارة في مسألة أخرى تشبهها , ومن غرائب التضييق على القاضي في غير
الأمور القضائية أن لا يؤذن له بصرف قرش في ثمن مكنسة إلا بعد استئذان النظارة
واذا انتقل لا يصرف له مصاريف انتقاله إلا بعد ورود إذن من النظارة وهذا التشديد
وإن كان في أمر غير قضائي إلا أنه يوجِد في النفس شعور الذلة والعبودية وضعف
الثقة وهو أخبث شعور يظهر أثره في عمل الموظف وأرى أن تكون علاقة القضاة
بواسطة قلم التفتيش الذي يرأسه المفتي على ما سنبينه , ومنها أن كثيرًا من
القضاة يتحاشى سؤال الخصم في ما يهم السؤال عنه خشية التهمة ولكنه يستبيح
لنفسه أن ينصح أحد الخصوم بأن يطلب شطب القضية , وإلا حكم ببطلانها أو أن
يقدم القضية بطريقة أخرى غير التي عرضها أو بأن يستأنف قرارًا صادرًا من
قاضٍ لأن محكمة الدفع التي هو عضو منها تحكم ببطلانه ونحو ذلك مع أن هذا
ممنوع شرعًا ونظامًا لأنه إعانة لأحد الخصمين على الآخر فأرى أن يُشدد على أمثال
هؤلاء القضاة في حظر أمثال هذه المعونات وتنقية المحاكم ممن لا ينجح فيه الإنذار
والإعذار.
ثم لا يخفى أن أقوى ما يحفظ على القاضي استقامته واستقلاله في الرأي هو
أمنه على وظيفته ولهذا أرى أن توضع قاعدة لعزل القضاة بحيث لا يعزل القاضي
إلا بعجزٍ عن العمل يظهر ظهورًا بيِّنًا , أو تعمُّدٍ لمخالفة العدل والشرع
أو النظام لغاية غير محمودة يثبت عليه ثبوتًا كافيًا في إيقاع العقوبة به اللهم إلا إذا
استغني عنه بأفضل منه عند تنقيص العدد إذا استقر الرأي عليه.
(تابع ويتبع)
((يتبع بمقال تالٍ))