للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


دعوة عرب الجزيرة العربية
إلى الوحدة والاتفاق

بسم الله الرحمن الرحيم
{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً
فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا
كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ
بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ * وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا
وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ البَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (آل عمران:
١٠٣-١٠٥) .
ثبت في القرآن المجيد في التواريخ التي دوّنها علماء العرب وغيرهم من
الأمم قديمًا وحديثًا، ومن العاديات (الآثار القديمة) التي اكتشفت في أقطار مختلفة
أن العرب من أقدم أمم الأرض حضارة وعمرانًا ورسلاً وشرائع، حتى إنهم
استعمروا أقدم البلاد مدنية كمصر وسورية والعراق، فلهم في حضارة الفراعنة
والفينيقيين والكلدانيين العرق الراسخ، والمجد الشامخ، فإن لم تكن تلك الأمم فروعًا
مهم، فلها وشائج أرحام مشتبكة بهم، من قبل أن مزجها الإسلام بهم في الدين واللغة
والنسب بألوف السنين.
فمن ذلك ما حكاه في القرآن المجيد عن قوم عاد: {إِرَمَ ذَاتِ العِمَادِ * الَّتِي
لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي البِلادِ} (الفجر: ٧-٨) ، كقول نبيهم هود في مبانيهم وقوتهم:
{أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ * وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ * وَإِذَا بَطَشْتُم
بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ} (الشعراء: ١٢٨-١٣٠) ، وقوله في نسلهم وزرعهم وضرعهم:
{أَمَدَّكُم بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ * وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} (الشعراء: ١٣٣-١٣٤) ، وبيانه لهم
أن هذه النعمة يزيدها الرجوع إلى الله بالإيمان وترك المعاصي نماء وقوة {وَيَا قَوْمِ
اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْراراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ} (هود: ٥٢) ، وما حكاه عن ثمود وقول رسولهم صالح لهم في تذكيره بنعم
الله عليهم: {هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ} (هود: ٦١) ، وقوله: {أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ * فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ *
وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ * وَتَنْحِتُونَ مِنَ الجِبَالِ بُيُوتاً فَارِهِينَ} (الشعراء:
١٤٦- ١٤٩) ، وما قصه لنا عن سبأ في سورتها كجناتهم عن اليمين والشمال،
واتصالها بالقرى المباركة في أرض الشام، ونظام السير المقدر بالأوقات، وحفظ
الأمن فيها بالعدل والنظام، وذلك قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ القُرَى الَتِي
بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ} (سبأ: ١٨) ، وناهيكم بقصة ملكتهم مع نبي الله سليمان، وكونها أوتيت من كل
شيء يؤتاه الملوك في ذلك الزمان، مع القوة والحكم بالشورى دون الاستبداد.
ومن ذلك ما أثبته الذين اكتشفوا آثار الكلدانيين في العراق وشريعة مَلكهم
حمورابي من كون شريعتهم عربية ودولتهم عربية، وهذا الملك كان يسمى ملك البر
والسلام، وفي سفر التكوين من أسفار التوراة أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام
أعطاه العشور؛ إذ كان من رعيته وأنه بارك إبراهيم، فدل هذا على أن إبراهيم -
صلى الله عليه وعلى آله - كان عربيًّا أيضًا.
ومن ذلك ما اكتشفه أحمد بك كمال العالم الأثري المصري من امتزاج اللغة
المصرية القديمة (الهيروغليفية) باللغة العربية الدال على أحد أمرين، إما أن
العرب وقدماء المصريين من عرق واحد، وإما أن العرب قد استعمروا مصر
وحكموا فيها قبل دولة الرعاة العربية المعروف خبرها في تاريخ مصر، فكان
للغتهم الأثر الخالد في لغتها.
هذا إلماع تاريخي وجيز لمدنية العرب وقوتهم وعمرانهم في التاريخ القديم منذ
ألوف السنين، وإن في لغتهم الغنية الراقية الواسعة دلائل أخرى على ذلك متعددة
المناهج واضحة المسالك.
قد ضعفت الأمة العربية بعد تلك القوة، وبدت بعد تلك الحضارة، وخرب
معظم بلادها بعد ذلك العمران، وغلبت عليها الأمية، وكادت تعمها الجاهلية الوثنية
{فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ
مَّشِيدٍ} (الحج: ٤٥) ، {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} (هود: ١١٧) ، ومر على هذا الضعف قرون وتعاقبت عليه أجيال، حتى ظن
الظانون أن هذه الأمة هرمت وقاربت الزوال، فلا تقوم لها قائمة ولا يتجدد لها
شباب.
ثم جاء الإسلام فجمع شملها بعد فرقة وشتات، وألف بين قلوب قبائلها
وأفرادها بعد عداوة تأرثت بها الأضغان وتحكمت فيها الثارات، وأخرجها من
ظلمات الجاهلية والأمية، إلى نور العلم والحكمة والنظام والمدنية، وجعل لها
المكانة الأولى بين أمم الأرض في السيادة والرياسة، والكلم العليا في الحكم
والسياسة، فورثت ملك القياصرة والأكاسرة في الشرق، وامتد سلطانها في القرن
الأول من حدود الهند إلى المحيط الغربي وهو آخر ما كان يعرف من اليابسة في
الغرب، وأحيت في هذه الممالك الواسعة العلوم والفنون، ورقت الصناعة والزراعة،
وسلكت السبل الجديدة للتجارة، فسادت شريعتها جميع الشرائع، وعلت لغتها
جميع اللغات، وفاقت آدابها جميع الآداب.
ولكن حظ جزيرتها من هذا العمران كان قليلاً، ثم دب إليها الخراب، وعاد
أكثر أهلها إلى البداوة والأمية والجاهلية، أو ما يقترب منها، بل صاروا دون
الجاهلية في بعض الصفات والمزايا حتى اللغة، فأنى لبدو الجزيرة وحضرها في
هذا العصر بما يقرب من تلك الملكة العليا في الفصاحة والبلاغة التي جعلت لكتاب
الله المعجز تلك المكانة في عقولهم وقلوبهم؟ حتى إن كان أحدهم ليسمع السورة أو
الآية منه فيخر ساجدًا، وتتحول عقائده وأخلاقه وعاداته بهدايته إلى ضدها.
عاد أهل الجزيرة إلى جاهلية يضرب بعضهم رقاب بعض بعد ألف الإسلام
بينهم، فكانوا بنعمة الله إخوانًا، ويرتزق قويهم بسلب ضعيفهم بعد أن كانوا يؤثرون
على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، وفرقوا دينهم فصاروا شيعًا تكفر كل شيعة
منهم الأخرى أو تفسقها بعد تلك الوحدة العظيمة، جاهلين أو غافلين عن قول ربهم
لرسولهم صلى الله عليه وسلم {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ
فِي شَيْءٍ} (الأنعام: ١٥٩) ، وما في معناه من الآيات والأحاديث.
إن هداية القرآن هي التي جمعت كلمة العرب على ما كان من تفرقهم وتعاديهم
في الجاهلية، وهي التي جعلتهم أئمة الأمم في العلم والحكم والآداب والعدل في إثر
إخراجهم من تلك الأمية، وما أصابهم ما أصابهم بعد ذلك من التفرق والتعادي
والجهل والفقر إلا بتركها، ولن تعود إليهم تلك النعم إلا بعودهم إليها {إِنَّ اللَّهَ لاَ
يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} (الرعد: ١١) . ولكن وحي شياطين
التفريق، قد زين بزخرف القول لكل فريق، أن كل شيعة تجمعها راية مذهب،
فإنما الواجب عليها أن تعمل بقول علمائه وحكامه، ولا يجوز لها أن تهتدي بكتاب
الله وسنة رسوله، وإن اختلفوا في الرأي، وتنازعوا في الأمر، خلافًا لقوله عز
وجل: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} (النساء: ٥٩) ،
وشبهتها على هذه المخالفة أن الاهتداء بكتاب الله المنزل، فتح لباب الاجتهاد المقفل،
فاختلفوا في أصل الاهتداء بالكتاب، الذي أنزله الله تعالى لإزالة الاختلاف:
من غص داوى بشرب الماء غصته ... فكيف يفعل من قد غص بالماء
إن الله تعالى أرسل رسله لهداية خلقه {وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ
النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ البَيِّنَاتُ بَغْياً
بَيْنَهُمْ} (البقرة: ٢١٣) ، فكيف يؤخذ بقول العلماء أو الأمراء الذين يبغي بعضهم
على بعض، فيما تنازعوا واختلفوا فيه من الأمر، إذا لم يرجعوا إلى الأصل
الجامع، ويحكموه في الخلاف الواقع، وهو يقول: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ
إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} (النساء: ٥٩) ، ثم يعلل
ذلك تعليلاً بقوله: {ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} (النساء: ٥٩) ؛ أي: أحسن عاقبة
ومآلاً من كل ما عداه، فكيف لا يكون خيرًا من اتباع أهوائهم، في تحكيم آرائهم،
والرد إلى أقوال زعمائهم وعلمائهم، على أن هذا الرد إلى كتاب الله وسنة رسوله،
وذلك الاهتداء بهما، لا يستلزمان الاجتهاد الأصولي المطلق الذي أقفلوا بابه، فقد
كان عوام السلف الصالح مهتدين بهما، ولم يكن كل واحد منهم إمامًا مجتهدًا في
استنباط جميع الأحكام، كأئمتهم المشهورين وعلمائه الأعلام.
نعم إن الشيخ محمد عبد الوهاب قد جدد دعوة الدين في بقاع نجد، فرجع
الألوف بها عما كانوا عليه من الجاهلية والشرك، وعادت تنتشر دعوته في جميع
جزيرة العرب التي يتعذر إصلاحها وجمع كلمتها بغير الدين، ولو تم ذلك لتجدد أمر
الإسلام في جميع أقطار المسلمين، ولكن حال دون ذلك فتنتان: (أولاهما) مقاومة
السياسة لها، و (الأخرى) غلو الكثير من القائمين بها، فالأولى إذاعة الساسة في
العالم كله أن هذه دعوة ابتداع في الدين، والغلاة أيدوا هذه الإذاعة بما اشتهر عنهم
من الغلو، ولا سيما تكفير من عداهم من المسلمين، ولهذه التهمة أصل، وقد بينا
الحقيقة في هذه المسألة من قبل، وغرضنا من الإلمام بذكرها الآن، بيان استعداد
العرب للصلاح والإصلاح بدعوة الإيمان، إذا قام بها من يدعو بها بالحكمة
والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن كما أمر القرآن، وتذكير الغلاة من
المتدينة بأن لا يغلو في دينهم ولا يقولوا على الله إلا الحق، ولا يحرموا ما لم يحرم
الله ورسوله بالنص أو اقتضاء النص، وأن يعذروا كل مخالف لهداية الدين بالتأول
أو الجهل، ويعتمدوا في بث الدعوة على نشر العلم والعمل به على قاعدة {يُرِيدُ
اللَّهُ بِكُمُ اليُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ} (البقرة: ١٨٥) ، وأن لا يكفروا أحدًا من
أهل القبلة بذنب، وأن يفرقوا بين الجهل بشيء مما يجب الإيمان به عن جهل،
وإن عد بعضه الفقهاء كفرًا ردة، وكفر العناد وتكذيب الرسول الذي كان عليه
مشركو الجاهلية في زمن البعثة، فإذا علموا هذا وعملوا به لا تلبث الدعوة أن تعم
الجزيرة وغيرها، ويسقط كل من يعارضها حرصًا على الزعامة وحب الرياسة.
هذا وإن لما أصاب الجزيرة من الشقاق والشقاء سببًا أصيلاً وراء الخلاف
الديني للبغي، وهو حب الرياسة وعلو بعض الزعماء على بعض، وسببين
عارضين وهما الجهل والفقر، وإزالة السببين العارضين من الأمور الكسبية القريبة
المنال، وإنما الشقاء كل الشقاء في الشقاق الناشئ عن حب الرياسة والعلو وخطره
المنذر بالهلاك والزوال.
إن في بلاد العرب من ينابيع الثروة ما يكفي لجعل أهلها من أغنى شعوب
الأرض كمعادن الذهب والحديد والحجارة الكريمة والأملاح والزيوت المعدنية وغير
ذلك، وفي كثير من أرضها قابلية لخصب الزراعة يعز نظيره في غيرها، وناهيك
بقهوة اليمن ونخيل المدينة وفاكهة الطائف، وأهلها أزكى الشعوب وأقواها استعدادًا
للتجارة، حتى إن عوام الحضارمة قد زاحموا بها أرقى شعوب هذا العصر علمًا
وتجربة في بلاد الهند وجاوة ومصر، فبقليل من العلم والنظام تدخل جزيرة
العرب في حياة جديدة من الثروة والعمران، وتحفظ نفسها من الخطر المحدق بها
الآن، ولكن ذلك يتوقف على إزالة العداء الذي طرأ على أئمتها في هذا الزمان.
إذا زال الشقاق وأديل منه الاتفاق بين أئمة اليمن والحجاز ونجد، زال في
أثره ما منيت به البلاد من الجهل والفقر، وما يتهددها من فقد الاستقلال والذل،
وإذا حل بالجزيرة ما جعله الله تعالى بسنته في البشر، عقابًا لازمًا لأهل التنازع
والفشل، يذل الإسلام ويزول سلطانه عن رؤوس سائر الأمم، وتكون تبعة ذلك
على أمراء الجزيرة وأئمتها، وما يظن بأحد منهم أنه يحسب أن بلاده بمأمن من
سيطرة الأجانب بقوتها، أو بحرِّها ووعورتها؛ إذ لم يبق (فيما أظن) منهم من
يجهل أن الأجانب قد استولوا على ما هو مثلها أو أشد منها قوة، وألذع حرًّا
وأصعب وعورة، على أنه ليس مثلها في كونه جزيرة أو شبه جزيرة، فهذه البلاد
يمكن للدول البحرية حصرها من البحر، ومنع السلاح عنه وقطع موارد الرزق،
ولا سيما إذا ثبتت سيطرتها على بلاد سورية والعراق التي يسهل حصرها أيضًا إذا
هي نجت من تلك السيطرة وليتذكروا جميعًا ما أوصى به النبي - صلى الله عليه
وسلم - في مرض موته بشأن جزيرتهم، وحكمة ما أشار إليه من أن الإسلام سيأرز
إليها كما تأرز الحية إلى جحرها وتطبيق ذلك على ما صار إليه أمر المسلمين الآن.
إن بقاء عز الإسلام يتوقف على استقلال العرب وإصلاح شؤونهم كما ثبت
عندنا بالنظر الصحيح، المؤيد لحديث جابر عند أبي يعلى بسند صحيح، وهو قوله
عليه الصلاة والسلام: (إذا ذلت العرب ذل الإسلام) ، ولا عز بغير استقلال،
ولا استقلال إلا بالقوة والمال، ولا قوة ولا ثروة مع الشقاق والفرقة، وإنما القوة
كل القوة بالاعتصام والوحدة، فإذا اتحد أمراء الجزيرة وأئمتها حفظوا استقلالهم،
وأمكنهم نشر العلم وتفجير ينابيع الثروة في بلادهم بمساعدة أهل البصيرة والقادرين
على تنظيم الإدارة والقوة وتدبير الثروة من أمتهم، وتسابقت الشعوب الغنية القوية
إلى موادتهم أو مصانعتهم، للاستفادة من قوتهم وثروتهم، بل هي على وشك
الاحتياج إليهم مذ الآن، لما بين غربي أوربة وشرقيها من المقارعة والصدام، الذي
يتوقف على نتيجته ما يكون عليه الشرق من حكم ونظام، ولا سيما شعوب الإسلام
من العرب والترك والفرس والتتر والأفغان.
هذا ما أحكيه لهم عن رأي أهل البصيرة والدين، من عقلاء العرب وعلماء
المسلمين، الذين يتنفسون الصعداء حزنًا، ويحرقون الأرم غيظًا وأسفًا، كلما صخ
أسماعهم نبأ تقاتل أئمة الجزيرة، للتنازع على بعض الجبال والأودية [١] مع خراب
البلاد، وفقر العباد، اللذين يزيلهما الاتفاق والاتحاد، ويزيدهما الافتراق والجلاد،
وإنني بلسان صفوة المخلصين من عقلاء العرب وغيرهم من المسلمين، أدعوهم
إلى عقد الاتفاق والحلف بينهم على الأصول الآتية:
١- إبطال الحرب والغزو بين عرب الجزيرة العربية بعضهم مع بعض، وحل
مشكلات الخلاف بالتحكيم ولو بصفة هدنة مؤقتة إلى أن يوضع للبلاد نظام حلفي
ثابت.
٢- حفظ الحالة الحاضرة باعتراف كل حكومة مستقلة في قسم الجزيرة
باستقلال سائر الحكومات الموجودة فيها اليوم وترك مسائل الحدود إلى مجلس
التحكيم بحيث لا يعد اعتراف بعضهم باستقلال بعض متضمنًا للرضا بالحدود
المختلف عليها.
٣- حرية المذاهب الدينية الموجودة في البلاد في التعليم والعمل والدعوة
بشرط عدم طعن أحد في مذهب غيره أو تكفير متبعيه، بل يتبع في ذلك قوله تعالى:
{ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (النحل: ١٢٥) ، فلكل أحد أن يبين بالدليل أو بنصوص المذهب المعتمدة أحكام
الدين والكفر والحلال والحرام، ولكن ليس له أن يطبقها على طائفة معينة من أهل
القبلة؛ لأن التطبيق له شروط، ولا سيما في شأن الطوائف والجماعات التي تقيم
الشعائر الإسلامية، بل ليس لغير الحاكم الشرعي في الدعوى الشرعية أن يحكم
بكفر شخص معين يدعي الإسلام ويقتله بذلك، كما ينقل عن بعض الغلاة في بعض
البوادي، فرب قائل قول أو فاعل فعل عده بعض العلماء كفرًا لدلالته عندهم على عدم
تصديق الرسول، وقائل القول أو فاعل الفعل من المؤمنين الموقنين، ولكنه جاهل أو
متأول، ولو ظهر له الحق في المسألة لقبله مذعنًا، ورجع عما كان عليه تائبًا
مستغفرًا.
٤- حرية التجارة وحفظ الأمن في البلاد، وتسهيل طرق المواصلات بينها
وتنظيم مصلحة البريد والبرق، والمبادرة إلى إنشاء تلغراف لاسلكي في البلاد،
ولا سيما عواصمها.
٥- إرسال كل حكومة معتمدًا إلى عاصمة الأخرى يكون وكيلاً لها عندها كما
هو المعهود بين جميع الحكومات التي بينها عهود ولها مصالح في بلاد الأخرى.
٦- بعد حصول هذه التمهيدات يتألف لهذه الحكومات مجلس حلفي يكون هو
المرجع في حل جميع مسائل الخلاف ووضع الحدود بين البلاد، وجميع ما يتعلق
بحفظها وترقية شؤونها، وإننا متى رأينا من أئمة اليمن والحجاز ونجد شروعًا في
تنفيذ هذا العمل الذي دعوا إليه جميعًا قبل أن تشتد الحاجة إليه بوقوع الحرب
العظمى وكثر الحديث فيه - فإن عقلاء الأمة العربية في سائر البلاد وأهل الغيرة
من مسلمي الأعاجم يمدونهم بآرائهم السديدة ومساعداتهم الرشيدة في تنفيذ الاتفاق
الحلفي ونظام مجلسه وسائر ما يحتاجون إليه في ذلك، وفيما ترتب عليه من إيجاد
وسائل الثروة في البلاد.
فيا أيها الأئمة المتبعون في بلادكم، إنكم تعلمون أنكم مسؤولون عند الله تعالى
عن كل ما يتعلق بأمر البلاد وأهلها، ولعلكم لا تعلمون حق العلم قدر اهتمام شعبكم
العربي في غير بلادكم، واهتمام جميع عقلاء الشعوب الإسلامية الأخرى بأمركم،
وما يقولون عنكم كلما بلغهم شيء من أنباء اختلافكم وتقاتلكم، وما يتمنون لكم من
السعادة وحسن الحال الذي يعدونه من أسباب سعادتهم، وما يكتبون اليوم في
تاريخكم، مما ينشر قريبًا في عصركم، مصححًا لما تنشره الجرائد عنكم، ألا
فاعلموا أن جميع العقلاء منهم ومن غيرهم يعلمون علم اليقين أن اتفاقكم خير لكل
منكم، وأن بقاء هذا الشقاق بينكم أكبر مصاب عليكم وعلى شعبكم وأمتكم وملتكم،
{فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} (الأنفال: ١) ، وسلام على من اتبع الهدى،
ورجَّح المصلحة العامة على الهوى.