وجمعية الاتحاد والترقي يتساءل الناس في هذه الأيام من هو صادق بك، وما هي مكانته، وما شأنه في هذا الإصلاح الذي حصل في حزب الاتحاد والترقي في مجلس المبعوثين. في هذه الأيام عرف في مصر وفي كثير من البلاد اسم صادق بك، والناس واقفون في الحكم له أو عليه، وأصحاب الجرائد قد أمسكوا عن التعريف به، سواء منهم المتشيع للاتحاديين والمتتبع لعوراتهم والمعتدل في كلامه عنهم، وقد ذكرت على مسمع غير واحد من محرريها شيئًا من فضل الرجل الذي يعرفه كل الخواص في الآستانة، فكتب بعضهم جملة صالحة، ولكني أرى الناس لا يزالون يتساءلون فأحببت أن أكتب في المنار كلمة أخرى في التعريف بهذا الرجل الذي يقل مثله في الرجال. اشتهر أن الانقلاب العثماني كان بتدبير جمعية الاتحاد والترقي في سلانيك ومناستر، وعرف الخاص والعام أن الانقلاب كان من عمل الجيش، بهذا علا مقام كل ضابط عثماني، ورفع اسم نيازي بك وأنور بك على كل اسم، ولكن خفي اسم صادق بك وهو أجدر بالظهور، وصار كل من ينسب إلى جمعية الاتحاد والترقي يفخر ويسمو بأنه رب الدستور وحاميه، فتزاحم على أبوابها طلاب الشهرة ورواد المنفعة وعباد القوة. وانفض من حولها الكثيرون من العاملين المخلصين، وانبرى لمعارضة حزبها في مجلس الأمة حزبان، كان خيار رجالهما من الاتحاديين، ومن بقي في حزبها أزواج ثلاثة: (١) بعض الزعماء (كالبكوات رحمي وطلعت وجاويد) ومن استعذب مشربهم وأذعن للسري والجهري من أحكام جمعيتهم؛ لأنه يرى فيها رأيهم، وهم الأقلون. (٢) طلاب المنافع، واتباع كل ناعق. (٣) المستقلون المخلصون الذين يرون أن بقاءهم في الجمعية خير من خروجهم منها وأرجى لتقويم عوجها. ورد في الحديث الشريف: (إن لكل شيء شرة [١] ولكل شرة فترة، فإن صاحبها سدد وقارب فارجوه، وإن أشير إليه بالأصابع فلا تعدوه) رواه الترمذي بسند صحيح. وقد جرت سنة الله أن الشيء إذا كان في شرة إقباله يقبل الجمهور كل مدح فيه وإن كان ظاهر البطلان، ويرد كل انتقاد عليه وإن كان كالشمس في رابعة النهار، وكان يظن أن شرة إقبال الاتحاديين يطول زمنها، فكذب الظن بسوء تصرف الزعماء وقلة كفاءتهم وبمجافاة بعض مقاصدهم لمصلحة المملكة وتقاليدها، ولما تقتضيه طبيعة العصر في سياسة الشعوب المختلفة في الملل واللغات، ولاستعجالهم في حب الظهور والاستئثار بجميع الأمور، فما سددوا وما قاربوا وقد أشير إليهم بالأصابع، فلم يلبثوا أن سقطوا، وصدقت عليهم الحكمة النبوية في هذا الحديث الشريف. رفعت الأمم اسم (الاتحاد والترقي) بعمل صادق بك الخفي وإخلاصه العظيم، فتدفق الثناء على الاتحاديين في أنهار صحف الشرق والغرب، حتى صار بحرًا زاخرًا، طفت فوقه أسماء كثيرة فرآها الناس سابحة في الثناء، منها ما له قيمة كالفلك ومنها ما هو كالغثاء، ورسب في قاعه اسم صادق بك كما يرسب الدر في أعماق البحار، فلم تهتف باسمه الجرائد، ولم ينوه به في تلك الخطب والأغاني والقصائد، كما نوه باسم نيازي وأنور اللذين كانا سيفين من سيوفه تحركهما يده العاملة وتصرفهما أوامره النافذة، ألا إن صادق بك هو (قومندان) الانقلاب العثماني وموجد الدستور. واسأل عن ذلك كتاب (خاطرات نيازي) فهو يخبرك اليقين، {وَلاَ يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} (فاطر: ١٤) فصادق بك أجدر رجال الدستور بالظهور وأحقهم بالثناء، وكلهم يعرف له هذا الفضل، ولكنه هو الذي أحب الخمول وترفع عن الثناء والمكافأة على عمله من الجمعية أو الحكومة، فهو الزعيم الذي لم يأخذ مالاً ولا وسامًا، حتى إن شوكت باشا رغب إليه أن يقبل يوم عيد الدستور من السنة الماضية وسامًا مرصعًا، تقرر إنعام السلطان به عليه فلم يقبل، زرت صاحبًا لي من الاتحاديين قبل ذلك العيد بيوم واحد، فقال لي: لو جئت قبل ربع ساعة لوجدت صادقًا هنا، وقد أخبرني بكذا وكذا. وذكر مسألة الوسام ومسائل أخرى. إنني لما جئت الآستانة في عام ١٣٢٧ كان صادق بك لا يزال عميد الجمعية المسئول (أي رئيسها ويسمونه المرخص العام؛ لأن من نظامها أنه ليس لها رئيس، ويشبه الخلاف أن يكون لفظيًّا) ولما عرضت مشروع الدعوة والإرشاد (أو العلم والإرشاد كما سميناه هناك) على الصدر الأعظم، قال لي: هذا مشروع نافع لا بد منه، ولا يتم هنا شيء إلا إذا رضيت به جمعية الاتحاد والترقي، وسأكلم صادق بك في المشروع ثم أخبرك هل يمكن تنفيذه أم لا، ودعا حاجبه وقال له: اذهب غدًا إلى صادق بك، وقل له: إنني أحب أن أراه، ثم أخبرني الصدر أن صادقًا اقترح تأليف لجنتين للبحث معي في المشروع: إحداهما علمية دينية والأخرى سياسية إدارية. وبرأيه تألف اللجنتان وبعد البحث الطويل أقرتا المشروع، فقال لي الصدر الأعظم: إن المشروع قد تم نهائيًّا، فألف الجمعية وتعال أخصص لك المال اللازم للتفنيذ، وقد علم قراء المنار من قبل أن وزارة هذا الصدر (وهو حسين حلمي باشا) قد استقالت قبل أن يتم لنا تأليف الجمعية، وأزيدهم الآن ما هو المقصود هنا؛ وهو أن صادق بك ترك العمل في الجمعية، ولماذا؟ كان من رأي صادق بك بعد أن استقر أمر الدستور وتألف مجلس الأمة؛ أن تترك الجمعية للحكومة الحرية في عملها، وتكتفي بالمراقبة عليها، فلا تتعرض لشيء إلا إذا رأت الدستور مهددًا بالزوال، وقد اتفق مع محمود شوكت باشا على منع الضباط من الاشتغال بالسياسة، ولما كان لا مندوحة له عن الاستمرار في خدمة الجمعية، عول على الاستقالة من الجيش، وبعد هذا الاتفاق خطب محمود شوكت باشا خطبتيه الشهيرتين في الفيلق الأول بالآستانة والفيلق الثاني بأدرنة، وصرح في الخطبة الثانية بقوله: إن أخانا صادق بك لما كان يريد البقاء في جمعية الاتحاد والترقي فسيقدم لي استقالته. كان الذين تواطئوا على الاستقلال بزعامة الجمعية والسيطرة على الحكومة، قد استمالوا إليهم قبل هذا الاتفاق كثيرًا من الضباط بضروب من الاستمالة، فصار لهم عصبية منهم. ولما صار طلعت بك ناظر الداخلية كان أقدر من غيره على هذه الاستمالة، فأدخل في الوظائف الإدارية كثيرًا من الضباط، وقد كنت مدعوًّا عنده في بعض الليالي، فجاء اثنان منهم ونحن سامرون معه في الليل، فكان الواحد منهم يجلس في مكانه ويعبث بمكتبه ويبحث في أوراقه، ورأينا أن حديثه معنا قد تلجلج، وأن من حسن الذوق أن ننصرف ليخلو لهما وجهه، وندع الحديث إلى وقت آخر، فاستأذنا وانصرفنا. كان ارتباط زعماء الجمعية بالضباط واشتغال الضباط بالسياسة من أعظم الأخطار التي تهدد الدولة، وقد انتقدته الجرائد الأوربية بأشد مما انتقدت غيره من أعمال الجمعية بعد ظهور الخلل فيها، وانتقده الجم الغفير من الضباط كما سمعت بأذني من بعض أركان الحرب منهم وعنهم، حتى كان يخشى أن يقع الشقاق في الجيش نفسه بالتنازع بين أنصارها والساخطين عليها من الضباط، وقد وافق صادق بك محمود شوكت باشا على تلافي هذا الأمر، ولم يقدرعلى تنفيذه بالفعل. كتب صادق بك استقالته من الجيش، وكتب مذكرة للجمعية المركزية اشترط فيها لبقائه عاملاً في الجمعية باسم المرخص أو المدير المسئول شروطًا منها أن يترك طلعت بك نظارة الداخلية، وجاويد بك نظارة المالية، وأحمد رضا بك رئاسة المجلس؛ لأنه لا يعني على رأيه أن يكون زعماء الجمعية من رؤساء الحكومة؛ لما لهم من القوة التي تمكنهم من الاستبداد، فكبر ذلك على هؤلاء الزعماء بعد أن مكنوا لأنفسهم في الأرض، ورأوا أنهم صاروا في هذه الدولة هم الأئمة الوارثين، وكان قد ظهر من رياستهم تنفير جميع العناصر العثمانية من إخوانهم الترك. وتقدم اليهود في نظارة المالية على غيرهم، وإعلاء كلمة الماسونية، والإسراف في نشرها، وتقديم المقدمين فيها على غيرهم في جميع المناصب والأعمال، وجعل مقام الخلافة كالمجرد من كل سلطة ونفوذ. كبرت شروط صادق بك على أولئك الزعماء، فكانوا منها في أمر مريج لأن ترك السلطة والدولة بعد التمكن منها لا تسمح به النفس، ومخالفة صادق بك ليست بالأمر السهل، فرأوا بعد الروية والتفكير أن يجتهد في إقناعه بالتنازل عن بعض تلك الشروط؛ وأهمها عندهم ترك السلطة وحرية الحكومة بعدم سيطرة الجمعية عليها، وقد بلغني يومئذ ممن أثق به من الاتحادين أن طلعت بك قصد دار صادق بك غير مرة في الليل، ولم يأذن له صادق بلقائه، ولما رأى أنه لا يسهل عليهم إجابته إلى ما طلب وأنهم خائفون منه أن يحاول تنفيذ مطالبه بالقوة، وعلم - كما قيل لي يومئذ - أنهم يراجعون من استمالوه من الضباط لتأييدهم، أمنهم من اعتماده على السيف في ذلك؛ لأن هذا هو الذي ينكره ويخشاه، فكيف يكون هو البادئ به، وآذنهم بأنه يترك لهم جمعيتهم ويسترد استقالته من الجيش وكذلك فعل، وكان هذا آيات إخلاصه الكثيرة. ترك لهم هذا الصادق كلا من الجمعية والحكومة، فبعد أن قلبوا وزارة حسين حلمي باشا؛ لأنه لم يستطع الصبر على أن يكون آلة معدنية في يدي طلعت وجاويد، جاءوا بحقي بك فجعلوه صدرًا والناس مختلفون فيه، فظهر بعد الاختبار أنه أصبر الناس على ما لم يطق قبوله كامل باشا، ولا الاستمرار عليه حسين حلمي باشا، وتفاقمت الخطوب من سياسة طلعت وجاويد حتى ضج مجلس الأمة بالشكوى، وبلغت أصوات المعارضين عنان السماء بعد أن أزعجت سكان الأرض، حتى اضطر طلعت بك إلى الاستقالة من نظارة الداخلية، فصوبت سهام المعارضة بعده إلى جاويد بك خاصة وإلى رجال الوزارة عامة، وإلى جاهد بك صاحب جريدة (طنين) الذي هو المحامي عن جمعية الاتحاد والترقي بقلمه المسموم الذي سماه بعض أدباء الآستانة من الترك (سفيه القوم) . إنني أقمت في الآستانة سنة كاملة، وقفت فيها على غوامض سياستها ومخبآت صناديق أسرارها، ووردت في ذلك موارد قلما تتيسر كلها لأحد، فقد عاشرت كثيرين من العلماء والوجهاء والأدباء والضباط والمبعوثين والأعيان ورجال الحكومة وغيرهم، ومنهم من لهم صلة بالأسرة السلطانية، ومنهم الاتحادي وغير الاتحادي، وقد استفدت من مجموعهم الجزم بعدة مسائل أذكر منها ما يفيد في هذا المقام: (١) إن مولانا السلطان متبرم من القوم وغير راض من الحال العامة، وينتظر أن تغيرها الحوادث إلى أحسن مما هي عليه، ولا أزيد على هذا في هذه المسألة. (٢) إن بعض زعماء جمعية الاتحاد والترقي يريدون أن تبقى الدولة في أيديهم، يديرونها كما يقررون فيما بينهم بزمامي حزبهم في مجلس الأمة ورجالهم في وزارات الباب العالي وسائر المصالح، ويؤيدهم في ذلك طائفة من ضباط الجيش. (٣) يجب على كل وزير أو رئيس عمل منهم أن ينفذ كل ما تقرره اللجنة العليا للجمعية في الحكومة. (٤) يديرون نظام حزبهم في المجلس بطريقة تجعله آلة في أيدي من فيه من زعماء الجمعية؛ كطلعت بك ورحمي بك وجاويد بك وخليل بك، ومن يليهم في النفوذ؛ كمجاهد بك وإسماعيل حقي بك، فإذا اتفق هؤلاء مع لجنة سلانيك على أمر جمعوا حزبهم للمذاكرة فيه، وهو متفق عليه بين الزعماء ومن يقنعون به قبل الاجتماع ممن يسهل إقناعهم، ومن نظام حزبهم أنه إذا أقر الثلثان من حاضري الجلسة فيه أمرًا، وجب على الباقين اتباعهم بغير مناقشة، فكان إذا حضر الجلسة ستون وهم نصف أعضاء الحزب، واتفق أربعون منهم على المسألة تبعهم الباقي هم ١٢٠، فينفذ في المجلس على أنه رأي أكثر أعضائه، وإنما هو رأي الأقلين من حزب واحد من أحزابه. (٥) إن هؤلاء الزعماء كلهم من شيعة الماسون، يجتهدون في نشرها وجعل رجال الحكومة من أعضائها، كما ينشرونها في ضباط الجيش، وقد يكون هذا تمهيدًا للفصل بين السياسة والدين، وتجريد السلطان من صفة الخلافة الإسلامية. (٦) إن من لوازم تشيعهم للماسونية قوة نفوذ اليهود فيهم وفي الدولة؛ وذلك يفضي على فوز الجمعية الصهيونية في استعمار بلاد فلسطين الذي يراد به إعادة ملك إسرائيل إلى وطنهم الأول، وإلى ابتلاع أصحاب الملايين من اليهود لكثير من خيرات البلاد. (٧) من أهم مقاصد هؤلاء الزعماء، جعل السيادة والسلطة في المملكة العثمانية للشعب التركي، والتوسل بقوة الدولة إلى إضعاف اللغة العربية وإماتتها في المملكة، وتتريك العرب مع إبقائهم ضعفاء بالجهل والضغط وذبذبة اللسان، ومنع الألبانيين والأكراد من تدوين لغتهم وجعلها لغة علمية. وهذا من المقاصد السرية التي لا يعترفون بها على استعجالهم بتنفيذه بالعمل وبكتابة جريدة طنين. ومن آثار هذه السياسة هذه الحرب الطحون في اليمن والبلاد الألبانية، وقد كان من أسهل الأمور تنفيذ الإصلاح المعقول في هذين القطرين في ظل السلام والأمان. قد وقفنا في الآستانة على كل هذا، ورأينا أهل الرأي والغيرة من سكان هذه العاصمة يتوقعون الفتن ويخافون العواقب من سياسة هذا الرهط من زعماء الاتحاديين، ولم أحب أن أشرح تلك الأمور وأبين ما فيها من الخطر؛ بل سعيت إلى الإصلاح هنالك ما استطعت، فلم يغن نصحي لهم شيئًا، ولما عدت إلى مصر أشرت بلطف إلى ما يخشى من خطر اليهود والماسونية في هذه المملكة الإسلامية، وتركت الشرح والتفصيل والتشنيع والتقريع؛ لأنني لم أر ذلك من الحكمة. كان صادق بك كل هذه المدة بالمرصاد، يراقب الحوادث من بعد لا يحرك فيها قلمًا ولا لسانًا، ولا يجرد لها سيفًا، حتى إذا ما رأى قوة المعارضين للاتحاديين ووزارتهم من أحزاب المجلس قد عظمت، ورأى أن أهل الاستقلال والإنصاف من حزب الاتحاد نفسه متبرمون من الحكومة من تأييد أولئك الزعماء لها ومن سياستهم الماسونية ولوازمها، حتى إذا ما رأى ذلك خانه الصبر، وعز عليه أن يدع الدستور الذي أخذه بقوة يمينه والجمعية التي شرفها بعمله وإخلاصه آلة في يد هؤلاء الرهط الذين لم يحسنوا التصرف ولم يقيموا الميزان، فمد يده إلى المستقلين المنصفين من حزب الاتحاد، وبذل لهم مظاهرته فيما يقيمون به عوج أولئك الأفراد، ويحولون بينهم وبين الاستبداد، ويصلحون ما حدث في الأمة والدولة من الفساد، فاشتدت عزائمهم، وصاحوا في وجوه أولئك الزعماء تلك الصيحة المزعجة، واقترحوا عليهم تلك الاقتراحات المنصفة، فارتفعت أصوات التأييد والتفنيد، فكانت أصوات طلاب الإصلاح أجهر، وعددهم أكثر، فأظهر الزعماء الرضا واجمين، وذلت أعناقهم لها خاضعين، ثم ولوا إلى أنصارهم مدبرين، ورجعوا إلى ضباطهم مستنصرين، فإذا ليث الغاب قد انكشف عنه الحجاب، ففزع حقي باشا إلى مولانا السلطان، وقال: إنه لا يكون في العاصمة صدران، فإما قبول استقالتي وإما دفع صادق بك بالتي، وإخراجه من المدينة ريثما تعود إليها السكينة، فأوحى إلى محمود شوكت باشا أن يخرج صادقًا ففعل وما كاد، ونبأنا البرق أن صادقًا أبى أولاً ثم أجاب. كان أول ما طرق مسامعنا في هذه الحادثة قول البرقيات العامة: إن الأمير ألاي صادق بك (وذكرها بعضهم صدِّيق) أبى أن يطيع الأمر بالخروج فاستكبرت الأمر، واستعظمت الخطب، ورأيت الناس حولي غير مبالين، فقلت: إن هذا هو البلاء المبين، ولابد أن ننتظر تفسيره إلى حين، فإن الدولة لم يظهر فيها بعد الانقلاب إلا رجلان عسكريان: أحدهما صادق بك موجد الدستور، وثانيهما حامي بيضته وهو محمود شوكت باشا فاتح إستانبول، ولكل منهما مكانة في الجيش عظيمة، فإذا تصادما وقع الخلل في الجيش وذهبت الثقة بالدولة، ولا يعلم العاقبة إلا الله تعالى، وإني لا أصدق أن صادقًا الضابط المخلص الكامل يعصي أمر رئيسه، وأحمد الله أن صدق ظني، ولم تلبث البرقيات أن شهدت بصحة قولي، ثم جاءت صحف الآستانة ورسائلها بالتفصيل، وعلى الله قصد السبيل. (مطالب المصلحين في حزب الاتحاد) جاءت مطالب المصلحين مصدقة لجميع ما كنا علمناه في الآستانة من حقيقة ما عليه زعماء الاتحاد، ومن تأثير سياستهم، وقد حدثنا به خواص أصحابنا، وأشرنا إلى المهم منه في المنار، وهاك مطالبهم العشرة التي قرروها وأعلنوها: ١ - أن لا يسعى المبعوثون إلى الامتيازات والمنافع لأنفسهم ولا لغيرهم. ٢ - أن لا يقبل المبعوثون وظائف الحكومة وأعمالها. ٣ - أن يكون قبول أحد المبعوثين نظارة من النظارات بقرار الثلثين من فرقة الأكثرية، ويكون إعطاء الرأي بالطريقة السرية. ٤ - أن يعتني بتنفيذ القوانين وبالمراقبة على النظار. ٥ - أن يعتني بمسألة اتحاد العناصر (كما كان) وأن يبذل الجهد في سبيل ترقي الزراعة والصناعة والتجارة والمعارف على نسبة الاحتياج. ٦ - أن يحافظ على الآداب والأخلاق العمومية الدينية مع الاقتباس من المدنية الأوربية. ٧ - أن يحافظ على عادات السلف ضمن دائرة القانون الأساسي. ٨ - أن يعجل بقانون نصب وعزل عمال الحكومة الموظفين. ٩ - أن يعدل في القانون الأساسي بعض المواد المتعلقة بحقوق الخلافة والسلطنة. ١٠ - أن تقاوم مقاصد الجمعيات المؤسسة على السّر. كل مطلب من هذه المطالب حجة على الاتحاديين الذين كانوا يصفون جمعيتهم بالجمعية المقدسة، وعلتهم سياسة أولئك الرهط من الزعماء، دع أخذ الامتيازات والسمسرة لطلابها، ودع التوسل بالمبعوثية إلى المناصب وهو ما يعيبون به غيرهم بالتهمة، ودع عدم تنفيذهم القوانين والحكومة في أيديهم، وحمايتهم للنظار ونصرهم على كل حال، ودع عدم وضعهم قانونًا للعزل والنصب؛ ليكون الأمر كله تابعًا لمشيئة الأفراد، ودع تنفيرهم عناصر الدولة كلها من الحكومة ومن العنصر التركي الذي لا ذنب له سواهم، وتأمل مسألة المحافظة على الآداب والأخلاق الدينية وعادات السلف، فإن اقتراحها يدل على أنه يراد بها درء مفاسد هي أشد خطرًا على الأمة ولا سيما على العنصر التركي من جميع تلك المفاسد السياسية والإدارية، فإنما الأمة بمقوماتها ومشخصاتها من العقائد والشعائر والآداب والأخلاق، وقد كانت كلها عرضة للفساد، بجعل الصلاة في مدارس الحكومة ولا سيما الحربية أمرًا اختياريًّا، ومن إباحة تهتك النساء، بل الأمر أعظم من ذلك فقد سمعت بأذني بعض الزعماء يجادل معممًا من رفاقه الاتحاديين فيما ترتقي به الأمة، فالمعمم يقول: إننا نرتقي بالمحافظة على آدابنا وأخلاقنا وشعائرنا، وسائر مقومات حضارتنا الإسلامية، وباقتباس الفنون والصناعات من أوربة، والزعيم يقول: بل يجب أن نمشي وراء فرنسة في كل خطوة، ونتبع سننها شبرًا بشبر وذراعًا بذراع في الأمور المادية والمعنوية جميعًا، وأن نعصر رجال الدين عصرًا.. إلخ. ثم تأمل مسألة الخلافة الإسلامية والجمعيات السرية، وتذكر مقاصد الماسون في الحكومات ومقاصد الصهيونيين في فلسطين، وقل رب احكم بالحق وأنت أحكم الحاكمين. ((يتبع بمقال تالٍ))