من جريدة الدكتور أراسم [*] السفر من أركان التربية لا ينبغي على أحد ما لِمَا تتأثر به النفس وتحفظه الذاكرة في الصغر من اللصوق والتمكن. هذا شكسبير [١] يدعو حاله إلى اعتقاد أن معظم الفضل في بلوغه تلك المكانة العالية في الشعر يرجع إلى نشأته بالقرب من نهر الآون [٢] الأنيق الذي تفيض مياهه على مدينة إستراتفورد [٣] وما تحيط به من الأودية الخصبة الغنية بالشجر والنبات ومجاورته لغابة أردان [٤] التي كانت متنزهًا له في سنيه الأولى من حياته. يدلك على ذلك أنه لما كتب فيما بعد القصة الهزلية التي عنوانها (كما تحب وترضى) اتخذ هذه الغابة نفسها محلاًّ لأهم منظر من مناظرها ومثل أماكنها للنفوس وجلى مواقعها للأذهان بأوجز العبارات، وأوضح الإشارات، لم يكن هذا إلا لكونه مع نزوحه عن مركز إستراتفورد الذي هو مسقط رأسه لم ينس منظر هذا الريف بل حفظه في مطوى من مطاوي نفسه وهذا أولفيار جولد سميث [٥] ذو العقل الثاقب والذكاء المتوقد لم يذهله حين أقام في لوندرة - ما شاهده فيها من الاختلاط والتشوش عن ذكر قرية لشوى التي نشأ فيها ولم يُنْسِهِ ما كان يراه هناك من جدول الماء والطاحون والكنيسة وفندق الحمائم الثلاث وسياج العضاة وغير ذلك من خصوصياتها بل إنه مدحها في القصة التي كتبها فيما بعد وسمَّاها الكميت (الأُوَرْن) . وكان واشنجتون أرفنج [٦] الكاتب المجوني الرحَّالة الذي استهوى النفوس ببدائع ظرفه، وخلب الألباب بدقائق وصفه، يحمد الله تعالى أن أنشأه على ضفاف بحرِ أوتسون [٧] ويقول: إن ما كسبه طبعي المختلف العناصر من الخير والتهذب يصح أن أُرجعه إلى محبتي لهذا النهر في صغري فقد كنت في حدة الحمية الصبيانية أكسوه بعض الخصائص النفسية وأعتقد أن له روحًا يقوم بها وأعجب ما في طبعه من الحرية والشجاعة والصدق والاستقامة ذلك لأنه ليس من الأنهار التي تبسم صفحاتها عن خداع وتُدْمِرُ السوءَ بما تحتها مِن الشعاب المهلكة والصخور الغدارة بل هو طريق مائي بهي جمع إلى عظم عمقه كثرةَ اتساعه، يحمل السفن التي توكل إلى أمواجه بقلب سليم ونية شريفة، وكنت أتخيل نوعًا من المجد والعجب في استقامة مجراه وسكينته وسلامته الباهرة. إنما مثلت ببعض الشعراء لأنهم هم الذين نعرف شيئًا من أحوالهم النفسية في حياتهم غير أني لا أرتاب أبدًا في أنَّ ما يحتفّ بالناس من الأصول والأمور الخارجية لا يُحْدِثُ في نفوس جميعهم أثراً واحداً وأنهم يختلفون أيضًا في درجة التأثر بها وأن ما شاهده الإنسان في صغره يلازمه في كبره ويصير جزءًا من نفسه وما صحبه من الأشياء وهو يافع لا يجانبه في كبره بل يظهر أثره في صورة خلقه وفي مجرى أفكاره. ليس كل ما يحيط بالإنسان مما تتناوله مشاعره يصلح على السواء لحفظ صحة عقله فقد روي أن ملتون [٨] كان يتألم ويشكو مر الشكوى وهو يتلقى دروسه في مدرسة كمبردج الكلية من ضواحي هذه المدينة مُعلِّلاً شكواه بأنها خلو من الظلال الوارفة التي تجذب إلاهات الشعر وتؤويها. وكان روبرت هول الكاتب الإنكليزي الذائع الصيت الذي كان يتعلم في تلك المدرسة بعد ملتون بقرن ونصف - ينسب أول نوبة أصابته من نوبات الجنون إلى استواء الأرض بمركز كمبردج وخلوّها من الرُّبَى والهضاب الشجراء. والناس وإن اختلفوا في درجات تأثرهم بفقد ما هم محتاجون إليه لا أظن أنه يوجد منهم من لا يتأثر ألبتة بما يكون من العيوب والمناقص في المناظر الريفية التي يراها على الدوام اللهم إلا قليلاً لا يُعتد بهم، وإذا صح ذلك فلشد ما يبلغ هذا التأثر السيئ من أذهان الأطفال فإن الرجل البالغ قد حصل له من قوة النفس والخيال ما يكفي لمفاعلة ما يحتف به من الأشياء فحسبه في معظم الأحيان أن يخترق قلبه شعاع من أشعة الحب أو يكون في نفسه وجدان قوي أو تجتمع في ذهنه بعض المعاني حتى يرتقي بالريف المبتذل الذي لا قيمة له في ذاته من شيوع الابتذال إلى الاختصاص بشرف الخيال، وليس هكذا حال الحدث الذي بين الثانية عشرة والثالثة عشرة من عمره فإنه في هذا السن لا عمل له في فطرة ما حوله من المخلوقات إذ ليس في استعداده إذ ذاك ما يكسوها بهاءً، ويزيدها رونقًا ورواءً، بل إنه يتأثر بها كما هي فمن الفوائد الكبرى له أنه يولد أو يتربى بالقرب من بعض المناظر الكونية العظمى كمنظر نهر جميل أو بحيرة أو جبل أو غابة.. منظر الريف في كورنواي منظر مهيب غير أنه واحد لا تغير فيه وليت هذه البلاد كانت أكثر أشجارًا مما هي الآن، فإن مثل اليافع الذي لا يرى قط إلا ناحيةٍ مِن نواحي الكون كالصخور أو البحر كمثل مَن لم يقرأ إلا كتابًا واحدًا. لا بد في تربية الإنسان خصوصًا في صغره مِن تنوع الفواعل لتتنوع آثار انفعاله بها ذلك لأن كل فرد من أفراده يميل إلى بعض المناظر دون البعض حتى يكون من هذا البعض الذي ميل إليه كطبعه في الاختصاص به ومعنى هذا أن ضروب الحسن في الطبيعة تقابلها في نفوس الناس مناسبات ذاتية وليس المنظر الذي يتخيره الإنسان ويرتاح إليه يأتيه على الدوام، عفوًا بل لا بد من السعي وراء تحصيله فمن الناس مَن ينشأ اتفاقًا في سهل من السهول ويكون ميله للمناظر الجبلية ويوافق هذا قول أحد الكُتّاب في وصف رجل لا أذكر الآن مَن هو: إنه عربي وُلد في ظل شجرة تفاح بنورمنديا [٩] . قد بلغ (أميل) السن الذي تبدو فيه حاجة الناشئ إلى الاختلاط بما حوله والمربون يخدعون هذه الحاجة في معظم المراهقين بإيتائهم قصصًا في الأسفار وهي ولا ريب أدعى الكتب إلى التفاتهم إليها واشتغالهم بها غير أنه مما لا نزاع فيه أن وصف البلاد بالغًا ما بلغ من قوة البيان وضبط التحرير لا يرتقي في تأدية العلم بها إلى درجة المعاينة؛ بل إنه أدنى منها كثيرًا فلا يمكن أن يستغني به عنها، من أجل ذلك كان سن الثالثة عشرة أو الرابعة عشرة هو السن الذي يظهر فيه هوس الملاحة في رءوس الصغار من سكان البلاد المجاورة للبحر كإنكلترا فكم من هؤلاء الصغار البسلاء مَن يصيبهم مِن ولوعهم بالتجوال في الأقطار السحيقة مرض لا يحد ولا يوصف كما يصيب العصفور الخطاف في الفصل الذي يهاجر فيه رفاقه فيتسللون من بيوت أهليهم فلا يعودون إليها في حياتهم. وأما سكان البلاد الأخرى فإن حب السفر لا يكون في الكثير منهم إلا حاجة وقتية لأنهم بعد أن يقضوا بضع سنين على سفر يركبون فيه متن المهالك يرجعون إلى أوطانهم فيعيشون معيشة الاستقرار. الذي يدهشني من المربين هو قعودهم حتى الآن عن البحث في الانتفاع بالأسفار في التربية وجعلها ركنًا من أركانها، إن قيل: إنما يمنعهم من ذلك حاجتهم إلى الزمن: قلت إن السفر إلى أمريكا مثلاً لا يقتضي الآن منه أكثر مما يلزم لتعليم التلميذ شكل الكرة الأرضية تعليمًا فيه شيء من الحق على ما في السفر ومعاينة الأشياء من الفوائد الكثيرة التي لا يستفيدها المتعلم من أي درس من دروس تقويم البلدان كتابية كانت أو شفاهية، وإن قيل: إن ما يقتضيه السفر من النفقات هو الذي يخيف المربين منه ويصدهم عنه، قلت: قد فهمت هذا الاعتراض إلا أنه يوجد من الطرق غير واحدة للسفر بدون كبير نفقة وإنما أكبر العوائق في هذا السبيل هو حذر الآباء والأمهات وخوفهم على أولادهم، فإن فكرة غياب الغلام الغِرّ عن نظر أمه ووكله لأمواج البحار ومخاوف الأسفار وتخليته ونفسه مما يُهَيَّجَ نفوس الأمهات وتثور له قلوبهن. لا جرم أن اهتمامهن بأولادهن حقيق بالاحترام والإجلال ولكن ينبغي أن يُفهمهن القائمون على التربية أنّ ليس في الغياب شيء يقطع أواصر الرحم وأنّ عرى المحبة والوداد تجمع بين القلوب الشريفة والنفوس الكريمة مهما اتسعت مسافة البعد بينها وأنه لا خوف من الحرية إلا على الأبناء الذين لم يبكر بتعليمهم الاستقلال بالسير في هذه الحياة على أنه لا يصح أن تكون محبة الوالدين لأولادهما الأعزاء مقصودًا بها لذاتهما؛ بل لا بد أن تكون غايتها الحرص على مصلحتهم فإن رحمتهما بهم تدب إليها شبهة الأثرة إذا انحصرت في إبقائهم في كنفهما وإن أخل ذلك بتلك المصلحة وفوق ذلك فإنه لم يكن من العبث أن استعملت في أيامنا هذه قوة البخار في طي المسافات السابقة، وتقريب الأقطار المتنائية، وأبعدت والملاحة في فتوحاتها، ورخّصت للناس أسعارها، فأصبح السفر إلى البلاد المسامتة لنا من أسفل معتبرًا عند شبان الإنكليز من قبيل التنزه وتمضية وقت الفراغ في البحر وقد شعر النوع الإنساني بنمو أجنحته للرقي فلا محيص من التسليم، وإني لأخشى أن لا تغني حكمة الشيوخ الزاجرة عن السفر ولا الجدول الأطلانطيقي شيئًا مما يجده خَلَفُنا في نفوسهم من الحمية والحاجة إلى رؤية العالم. جميع الأمم الحرة أمم رحّالة لا يعوقها بُعْدُ المسافات ولا اختلاف الأقاليم ولا العقبات المادية بل ولا تعلقها المتين الأعمى بالزاوية التي تعيش فيها من الأرض. إن القوانين التي جرى عليها توزيع أجيال النوع الإنساني على البلدان قد تحدد بعضها بالفطرة وبعضها بالتاريخ وكثير منها بسياسة الحكومات، وما زال الحاكمون في كل عصر يعنون أشد العناية بأن يعيش المحكومون ويموتون في الأرض التي ينبسط عليها سلطانهم سواء في ذلك الأغنياء منهم والفقراء وقد استنتجوا من كون هذا الأمر مفيدًا لمصالح ملكهم أنه مِن الفروض التي لهم على رعاياهم، ونجحوا في إقناعهم بذلك وكان من أوهام المربين وخيالات الشعراء وأفكار رجال الدين ما تضافر في قرون طويلة على أن يغرس في القلوب غريزة يشترك فيها الإنسان مع العجماوات وهي حبه للمكان الذي ولد فيه، نعم، إنها من الغرائز الحسنة ولا تنس أنها هي السبب في تآلف الجماعات، ولكن لا يعزب عن ذِكْرِكَ أيضًا أنه يسهل أن يساء استعمالها ليبقى المستضعفون من الناس عبيدًا للأقوياء الغاشمين. لما كانت جماعات الإنسان في بداية نشأته قد انحصرت كل واحدة منها في بقعة من بقاع الأرض كانوا معتادين من صغرهم على المعيشة في الأماكن التي يجدون فيها ما يقتاتون به ووصلت بهم في هذه الحالة إلى حَدِّ أنهم قد عدّوا هذه العادات الانحصارية من الفضائل، وأما أنا فلا أعدها إلا معيبة ولا أقدرها بما لا تستحق فما زال الفلاح اللاصق بأرضه يقلبها ويزرعها أدنى منزلة في الجملة من المدنِي والمدني نفسه يستفيد ويرتقي كثيرًا إذا اتسع نطاق معاملاته مع العالم. الأمم التي تكون عالة على أرضها أجنبية عن لغات غيرها في وسعها ولا شك أن تقوم بعظائم الأمور وجلائل الأعمال لكنها تكون أكثر من غيرها استهدافًا لقوارع البغي السياسي، فإنها لا تتأثر من تعطيل القوانين، ولا من إبطال كفالات الحرية ولا من دوس حقوق الأفراد واهتضامها، ذلك لأن أبناءها يلتصقون وهم كالمستميتين بقطعة الأرض التي تؤويهم وقد دنسها الدم الذي سفكه عدوها الظافر وجعل منه قرابًا لسيفه فالاغتراب أشد رهبة في صدورهم من جميع المصائب ولو أحاطت بهم فوادح الخطوب القومية من كل ناحية، فإذا نفى بعض ذوي الوجاهة والنفوذ من الأحزاب المستضعفة إما بحكم الضرورة أو بما يتخذ من طرق القهر في زمن الفتنة كان النفي أبلغ المحن في نفوسهم ألمًا فتراهم حيارى لا يدرون أين يذهبون ولا ماذا يصنعون وقد صارت الدنيا في أعينهم وهم خارجون من ديارهم صحراء يعوزهم فيها الدليل، وموحشة لا يجدون فيها الأنيس. وأما الأمة التي يعتاد أفرادها من نعومة أظفارهم على قطع أجواز البحار ولا يكونون بمعزل عن لغات الأمم الأخرى وعوائدها ويدرسون أبعد ضروب الحضارة عنهم وأشدها اختلافًا فإنه لا يكون لصروف الدهر عليها سبيل ولا يخشى بَنوها بطش القوانين الخاصة ولا التغريب؛ بل إنهم يكونون أصدق مِن فليبس الثاني [١٠] إذا قالوا متشبهين به: (ما كانت الشمس لتغرب عن حكوماتنا) . ولقائل أن يقول: إن عادة السفر قد تُضعف في الأحداث العاطفة الوطنية: فأجيبه إني لا أميل قطعًا إلى عموم معنى الوطنية واتساعه فما أتعس مَن تكون الدنيا كلها وطنًا له؛ إذ لا يكون الإنسان إنسانًا إلا بشرط أن ينتسب إلى طائفة معينة من البيت الإنساني وأن يكون له لغة وأمة خاصتان به غير أنه لا ينبغي أن يتوهم أن حب الوطن الحقيقي يَضِيعُ كثيرٌ مِن معناه إذا تجرد عن روابط الوثنية المادية التي كثيرًا ما تشوهه وتنجس قيمته، فليس الوطن مطلقًا عبارة عن الجبل أو السهل أو الغدير الذي يولد الإنسان بجواره اتفاقًا وليس هذا من القرميد أو الحجر ولا هو بالمكان الذي يحصره سطح يقدر بالفراسخ المربعة كلا، ليس الوطن شيئًا من ذلك ولكنه معنى يقوم بالذهن بل تاريخ الأمة بل آثار سلفها وإن شئت فقل إنه وجود كلي تشعر جزئياته بالمعيشة فيه، ولا شيء من ذلك كله يضيع في ركوب متن البحار، ولا في اجتياز المفاوز والِقفار، إذا نقش على لوح القلب، وتحققت به النفس. جاءتنا أخبار من بلاد البيرو وبواسطة بعض معارفنا تحمل على الاعتقاد بأن (رولوريس) قد سُلِبَتْ أموالُها بتواطئٍ حصل بين أقاربها وقد استفتينا العارفين بالقانون فكادوا يجمعون على أن هذه القضية الغامضة لا ينجلي غموضها ولا ينكشف سرها إلا في البيرو وأنها تقتضي أن نوسط فيها صديقًا يعهد إليه بمصلحة الفتاة المهضومة فنقّبنا عن هذا الصديق فلم نقع عليه صنائع البر يستلزم بعضها بعضًا، فإننا وإن لم نَتَبَنَّ هذه الفتاة الأجنبية فقد التقطناها وآويناها إلى بيتنا وصار من الحق علينا إنصافها في بلدها. فكرت في أن أسافر بنفسي للقيام بهذه المصلحة فرأيت غير واحدة من العقبات تدافعني عن تنفيذ هذا العقد، من ذلك ما يقتضيه قطع تلك الشقة البعيدة من النفقات وعدم احتمال الفوز بالحق في الدعوى والروابط التي تربطني بالبقاء في أوربا وبالجملة فإن سبعين اعترضًا قويًا وقفت بي موقف المتردد بين الإقدام والإحجام فقد تعاهدت أنا وهيلانة بعد الذي ذقناه من ألم الفراق أن لا نفترق ولا أدري إن كان في مكنتها احتمال سفر شاق كهذه ولو أنه اقتضى أن تحتمل مضض الفُرقة مرة ثانية لما تَرَيَّثْتُ في إطراح خاطره. على أن هذا الخاطر لا يزال يساورني والحالة التي أصبحنا فيها بسبب كفالتنا لتلك الفتاة العزيزة علينا وما يلحقنا من تبعات التقصير في شؤنها لم تكد تترك لي حرية الاختيار في السفر بل قد شعرت بوارد يأمرني به أمرًا. وأقول على أي حال: أفلا يجوز أن يكون الإنسان منافقًا يتخذ المقدور من حيث لا يشعر ستارًا لإخفاء نفاقه؟ أفلا يصح أننا مع اعتقاد امتثالنا في العمل لحكم الضرورات نتبع في أغلب أعمالنا ما توحيه إلينا شهواتنا أو نمزج المصلحة التي نتخيل أننا نقوم بها لغيرنا بشيء من الأثرة أو يكون ميلي الغريزي إلى التجوال هو الذي قد تنبه في نفسي واجتهدت في مواراته بحجاب صنيعة المعروف أو أن تكون لي غاية خاصة أو سبب خفي يدفعني إلى تغيير الهواء الذي أنا فيه. لست أقطع بشيء من ذلك ولكني كلما تساءلت خيل لي أن قصدي الأول إنما هو نفع الولدين اللذين أخذت على نفسي تربيتهما. ولو كان في وسعي أن لا أستفتي إلا ميلي وذوقي لجاز أن لا تكون البيرو هي المكان الذي أتخذه من الأرض موضوعًا للدرس والتعليم وذلك لفرط بُعدها؛ ولكن ما أوسع السفر إليها من ملعب يتجلى فيه كثير من الوقائع والمرائي، إذ يرى المسافر سموات مجهولة له يعمرها من الكواكب ما لا ينير أقطارنا الكامدة ليلاً، وبحارًا مشحونة بالغرائب، وسواحل قاصية أَبْرَزَها للعيان فعلُ الجبال النارية، وخليطًا من الأجيال الآدمية التي لما يتم امتزاجها، وتُسْفِرُ أخلاقُها عن تاريخ تام. سن المراهقة هو السن الذي يكون فيه التأثر قويًا فهو الذي تُنْقَشُ فيه على المخ صورة العالم الخارجي أتم انتقاش وأدقه، ما ولقد حَصَّل (أميل) من العلوم الصحيحة إن لم أكن واهمًا ما يكفي لاشتغاله بالكون وسيؤهله درس الوقائع الكونية المحسوسة لدرس المقولات فإنّ تعليمَ فنِّ الألفاظ ومحسنات اللغة لحدث لمَّا يشاهد شيئًا بنفسه ويراقبه ويحس به كنثر الزهر في كهف اهـ. ((يتبع بمقال تالٍ))