للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


المقال السابع
البُهيتة الثانية: إنكار الجن

هذه أخت التي قبلها، والكلام فيها متمم لما قبله ومشترك معه في بعض
شواهده كما تقدم في خاتمة المقالة السابقة، ولهذا قدمناها على مسألة الشمس.
قال في مجلة الأزهر بعد مسألة الملائكة (ومثل ذلك ما قرره في المكروبات
عند ذكر الجن في القرآن، وليت شعري هل هذه المكروبات الجنية هي التي كانت
تعمل لسليمان ما يشاء من محاريب وتماثيل وقدور راسيات؟ وهل هي التي قال
عفريت منها لسليمان عليه السلام] أَنَا آتِيكَ بِهِ [بعرش بلقيس {قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن
مَّقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ} (النمل: ٣٩) ؟ وهل هي التي قالت لقومها: {إِنَّا
سَمِعْنَا كِتَاباً أُنزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ
مُّسْتَقِيمٍ} (الأحقاف: ٣٠) إلخ. اهـ بنصه وقد أعاد هذه المسألة في غير
المجلة.
يوهم محرر مجلة مشيخة الأزهر من ابتلاهم الله بقراءتها أن صاحب المنار
يقول أن الجن الذين أخبرالله بهم في كتابه عبارة عن هذه المكروبات التي كشف
الأطباء أمرها في القرن الماضي، وأنه ما ثم شيء يطلق عليه هذا الاسم واسم
العفاريت والشياطين غيرهم. وهذا افتراء وبهتان كالذي قبله سواء.
الجن خلق خفي مستتر من عالم الغيب أثبتتهم جميع الأديان وطريقتنا فيهم هي
وجوب الإيمان بكل ما أخبر الله تعالى من أمرهم في كتابه وبكل ما صح عن رسوله
صلى الله عليه وسلم لمن علم به وليس منه شيء قطعي يدخل في العقيدة، ولا نزيد
على ما ثبت عندنا من خبر المعصوم شيئًا.
وقد ورد ذكر الجن والشياطين وإبليس في مواضع كثيرة من أجزاء تفسيرنا
العشرة وفي مواضع كثيرة من مجلة المنار فأثبتنا في كل موضع من التفسير ما
أثبته الكتاب العزيز بما يقربه إلى العقل ورددنا على المنكرين والمتأولين لما هو
المتبادر من النصوص.
ولو أردنا إيراد الشواهد منها كالشواهد في الملائكة لطال الكلام فيما لا فائدة من
نشره في الجرائد اليومية وإنما نشير إلى بعض مواضعها لمن يريد مراجعتها،
ونكتفي منها بما نثبت به أن محرر مجلة مشيخة الأزهر وعضو هيئة كبار العلماء
فيه بين أمرين لا ثالث لهما: إما أنه لا يفهم ما يُقرأ له ولا يعقله مهما تكن درجة
وضوحه وتكراره!! وإما أنه يتعمد الكذب والبهتان والخيانة في النقل والعزو انتقامًا
لنفسه لا خدمة للعلم والدين. لتعلم الأمة أن العلم الصحيح لا يكون بالألقاب الرسمية،
ولا بمجرد الشهادات المدرسية. وقد بينا في المنار وفي تاريخ الأستاذ الإمام ما كان
من قيمة شهادات العالمية في الأزهر وما كان من المحاباة والرشوة فيها قبل الإصلاح
الذي وضع قواعده ذلك المصلح العظيم، على أن الإصلاح لم يشفِ العلل كلها كما
يعلم أهل الأزهر أكثر من غيرهم. ومن شاء الوقوف على هذه الحقائق فليقرأ المقصد
الثاني من الفصل السادس من تاريخ الأستاذ الإمام من صفحة ٤٢٥ ٤٨٤ باكيًا على
العلم والدين.
بعض الشواهد في مسألة الجن والشياطين
(١) جاء في تفسير {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ} (البقرة: ٣٤) من جزء التفسير الأول ص ٢٦٥ ما نصه ملخصًا من درس الأستاذ
الإمام: (أي سجدوا كلهم أجمعون إلا إبليس وهو فرد من أفراد الملائكة كما يفهم
من هذه السورة وأمثالها في القصة إلا آية الكهف فإنها ناطقة بأنه كان من الجن
{فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} (الكهف: ٥٠) وليس عندنا دليل على أن بين الملائكة
والجن فصلاً جوهريًّا يميز أحدهما عن الآخر، وإنما هو اختلاف أصناف عندما
تختلف أوصاف كما ترشد إليه الآيات، فالظاهر أن الجن صنف من الملائكة، وقد
أطلق في القرآن لفظ الجنة على الملائكة على رأي جمهور المفسرين في قوله تعالى:
{وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الجِنَّةِ نَسَباً} (الصافات: ١٥٨) وعلى الشياطين في
آخر سورة الناس.
(٢) زاد الأستاذ الإمام هنا بعد نشر تفسير هذه الآيات في المنار سنة ١٣٢٠
ما نصه بخطه: (وعلى كل حال فجميع هؤلاء المسميات بهذه الأسماء من عالم
الغيب لا نعلم حقائقها ولا نبحث عنها، ولا نقول بنسبة شيء إليها ما لم يرد فيه
نص قطعي عن المعصوم صلى الله عليه وسلم. اهـ.
فكان رحمه الله يرى أن تعريف الملائكة والجن بالحد المنطقي متعذر لأنهم من
عالم الغيب، وقد اشتركوا في اسم الجن المفيد لمعنى الخفاء والستر، والمعقول أن
يكون تعريفهم بالرسم وهو الصفات كالطاعة والعصمة للملائكة دون الجن، فهم في
الجنس الروحي الخفي كالأنبياء في البشر، والشياطين كأشرار البشر الظالمين
المجرمين الفاسقين، وسائر الجن كسائر البشر يتفاوتون في الصلاح والفساد مثلهم،
وللراغب الأصفهاني كلام كهذا في مفردات القرآن ذكرته في تفسير سورة الأعراف.
(٢) ما تقدم نقله عن الأستاذ الإمام في المسألة من بحث الملائكة وتعليقنا
عليه وهو مسألة إسناد الوسوسة إلى الشياطين والإلهام إلى الملائكة وما هو ببعيد.
(٣) ذكرت في صفحة ٩٦ من الجزء الثاني من التفسير أن قوله تعالى:
{وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} (البقرة: ١٦٨) لا يقتضي
معرفة ذات الشيطان وإنما يعرف بأثرة وهو وحي الشر وخواطر الباطل والسوء في
النفس التي يفسرها قوله تعالى {إِنَّمَا يَأْمُرُكُم بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا
لاَ تَعْلَمُونَ} (البقرة: ١٦٩) وفصلنا ذلك تفصيلاً، وكذا تفسير هذه الجملة بعينها
من آية ٢٠٧ من سورة البقرة أيضًا وهو في ص ٢٥٧ من الجزء وفيه تفصيل آخر.
(٤) ذكرت في بحث إعاذة مريم وذريتها من الشيطان الرجيم من ص ٢٩
ج٣ حديث (كل بني آدم يمسه الشيطان يوم ولدته أمه إلا مريم وابنها) وتفسير
البيضاوي للمس بالطمع في الإغواء، وقول الأستاذ الإمام أن الحديث من قبيل
التمثيل، وحديث إسلام شيطان النبي صلى الله عليه وسلم وما يرد على الموضوع
من قوله تعالى {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} (الحجر: ٤٢) ومشاغبة
دعاة النصرانية للمسلمين في تفضيل المسيح على نبينا وما يرد عليهم من إنجيل
مرقس في تجربة إبليس ليسوع المسيح أربعين يومًا لم يأكل فيها طعامًا مع تحقيق
المسألة. وهذا كله ينافي الافتراء علينا بأننا نقول: الجن والشياطين عبارة عن
الميكروبات فقط.
(٥) في الصفحات ٤٢٥ - ٤٣٠ من جزء التفسير الخامس تفسير لقوله تعالى
{إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إِنَاثاً وَإِن يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَاناً مَّرِيداً} (النساء: ١١٧)
إلى الآية ١١٩ بينت فيه نصيب الشيطان من الناس وإضلاله لهم واشتغالهم بالأماني
وما يأمرهم به في وسوسته، وحال من يتخذه وليًّا من دون الله، وهو في جملته
وتفصيله يدحض شبهة مجلة الأزهر وبهتانها.
(٦) في ص ٦٥ ج٦٦ تفسير لقوله تعالى: {يَا مَعْشَرَ الجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُم} (الأنعام: ١٢٨) الآية، وفي أوله: وإنما يسمى كل من الجن والإنس معشرًا لأنهم
جماعة من عقلاء الخلق. وفي هذا البحث شبهنا تأثير الشياطين في النفس بتأثير
الميكروبات في الجسم بعد ذكر المنكرين لوجود الجن، وهذا نص عبارتنا:
فإن كل إنسي يوسوس له شياطين الجن بما يزين له الباطل والشر ويغريه
بالفسق والفجور كما تقدم مفصلاً، فإن هذا الخلق الخفي الذي هو من جنس الأرواح
البشرية يلابسها بقدر استعدادها للباطل والشر ويقوي فيها داعيتهما كما تلابس جنة
الحيوان الخفية الأجساد الحيوانية فتفسد عليها مزاجها وتوقعها في الأمراض
والأدواء، وقد مر على البشر ألوف من السنين وهم يجهلون طرق دخول هذه النسم
الحية في أجسادهم وتقوية الاستعداد للأمراض والأدواء فيها، بل إحداث الأمراض
الوبائية وغيرها بالفعل، حتى اكتشفها الأطباء في هذا العصر وعرفوا هذه الطرق
والمداخل الخفية بما استحدثوا من المناظير التي تكبر الصغير حتى يرى أكبر مما
هو عليه بألوف من الأضعاف ولو قيل لأكبر أطباء قدماء المصريين أو الهنود أو
اليونان أو العرب أن في الأرض أنواعًا من النسم الخفية تدخل الأجساد من خرطوم
البعوضة أو البرغوث أو القملة ومع الهواء والماء والطعام وتنمي فيها بسرعة
عجيبة فتكون ألوف الألوف وبكثرتها تتولد الأمراض والأوبئة القاتلة لقالوا إن هذا
القول من تخيلات المجانين، ولكن العجب لمن ينكر مثل هذا في الأرواح بعد
اكتشاف ذلك في الأجساد، وأمر الأرواح أخفى، فعدم وقوفهم على ما يلابسها ألوفًا
من السنين أولى. وقد روي في الآثار ما يدل على جنة الأجسام ولو صرح به قبل
اختراع هذه المناظير التي ترى بها لكان فتنة لكثير من الناس بما يزيدهم استبعادًا
لما جاء به الرسل من خبر الجن، ففي الحديث (تنكبوا الغبار فإن منه تكون النسمة)
والنسمة في اللغة كل ما فيه روح، وفسره ابن الأثير في الحديث بالنَّفَس بالتحريك
أي تواتره الذي يسمى الربو والنهيج وتبعه شارح القاموس وغيره، وهو تَجَوُّز لا
يؤيد الطب ما يدل عليه من الحصر. وروي عن عمرو بن العاص: اتقوا غبار
مصر فإنه يتحول في الصدر إلى نسمة. وهو بعيد عن تأويلهم وظاهر فيما يقوله
الأطباء اليوم وهو مأخوذ من الحديث الذي تأولوه، وعمرو من فصحاء قريش
جهابذة هذا اللسان. اهـ.
وذكرت في مواضع أخرى من المنار ما ورد من الآثار في أنواع الجن ومنها
حديث (خلق الله الجن ثلاثة أصناف: صنف حيات وعقارب وخشاش الأرض
وصنف كالريح في الهواء وصنف عليهم الحساب والعقاب) أخرجه ابن أبي الدنيا
والحكيم الترمذي وأبو الشيخ وابن مردويه. وفي معناه غيره.
(٧) في (ص٣٢٨ - ٣٧٢ جزء ٨) بسط قصة آدم مع إبليس. وقد فصلت
في هذا البحث ما تقدم في سورة البقرة من كون الجن الروحاني جنسًا يشمل الملائكة.
وقلت: إن لفظ الجنة اللغوي يشمل الجن الروحاني والجن المادي التي تسمى
المكروبات ٣٤٢ ثم فصلت هذا في تفسير قوله تعالى من هذا السياق {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ
وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ} (الأعراف: ٢٧) تفصيلاً موضحًا لهذا البحث يراجع
في (ص ٢٦٤ - ٣٧١) ومنه يعلم مأخذ شبهة المفتري المحرف للكلم عن
مواضعه، ولا نطيل القول في هذا لأنه لا طائل تحته، وحسبنا ما ذكرنا دليلاً على
قلة اطلاع المفتري علينا وسوء فهمه وفساد نيته، وما سيأتي في المقال الآتي أقوى
دليلاً، وأقوم قيلاً.
((يتبع بمقال تالٍ))