للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


حال المسلمين في الشرق والجنوب

للسائح العالم المصلح صاحب الإمضاء في لمفوغ بتاريخ ٢٠ جمادى الأولى
سنة ١٣٤٧هـ، حامدًا، شاكرًا، مصليًا، مسلمًا
محترم المقام، حكيم الإسلام، الأستاذ المفضال، ربيب الفضل وأبي الكمال،
مجدِّد القرن الرابع عشر السيد محمد رشيد رضا أدامه الله ناصرًا للسنة.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ومغفرته ورضوانه، داعيكم كثير الاشتياق
إليكم ولا يغيب شخصكم الكريم عنه طرفة عين، وأرجو الله أن يجمعني بكم لأن
النفس تواقة لذلك.
وصلني كتابكم الكريم، إنه من لطائفكم وإنه لذو نبأ عظيم، ومع الأسف التام
أنه وصل مركزي وكنت غائبًا في السياحة، وأتاني على قدر، وفرج ما بي من
الهم والكرب، وفرحت به كثيرًا؛ لأني كنت آيبًا من سياحتي في أرض السيام.
أخذت منذ دخولي أدعو إلى الدين الصحيح، وترك البدع المضرة بالدين،
جهد المستطاع، فعند ذلك قامت قيامة الدجالين، من علماء السوء الوطنيين،
يشنون الغارة علينا، وينفرون الناس منا، بأن الراضي وهابي من أنصار المنار،
ونحن معهم في حرب وجلاد، والنصر ولله الحمد والمنة حليفنا، والمؤمن سريع
الانقياد إلى الحق، وباطلهم لم يثبت أمام قوة الحق وأنصاره، ولا يخفى عليكم أن
تغيير العوام ما هم عليه من العقائد الفاسدة والخرافات التي لا أصل لها، والضلال
الذي شب عليه صغيرهم، وشاب عليه كبيرهم، وباض وفرَّخ في أدمغتهم، من
أصعب الأشياء، وهذه الأمة المسكينة لَمَّا يرزقها الله عاملاًَ ناصحًا أمينا من أبناء
جنسها، لأجل ذلك تراها في حضيض الجهالة، ولا تتمسك إلا بالعادات الجاهلية
ولو في ذلك هلاكها، ولا رادع لها من النفس، ولا وازع من الدين، ولا مصلح
من المرشدين، والسبب الوحيد أن منبع الضلال والخرافات من علماء السوء
البطالين.
ويمكن أن نستثني عصابة من أنصار الحق، ومحبي المنار الأغر،
يستميتون في الدفاع عن الدين، وترك البدع والخرافات وهم مع علماء السوء في
كفاح مستمر، يبذلون في نصرة الدين أموالهم وأنفسهم وكل عزيز لديهم، وعلماء
السوء السياميون يكفرون هؤلاء المصلحين ويُبَدِّعونهم ويخرجونهم عن دائرة
الإسلام، وأخيرًا أفتوا بقتل رئيس هذه العصابة المصلح الوحيد (ببنكوك سيام)
الشيخ أحمد وهاب صديقكم ومكاتبكم عن أحوال السيام بما فيه الكفاية.
بعد كتابة ما ذكر، وقبل أن أرسله إليكم قصدت بعض الجهات من الهند
الشرقية فوجدت الحجاج الجاويين راجعين من أداء فريضة الحج فسألناهم عن
الحالة في الحجاز فأجاب بعضهم بأن الأمن عام لم يعهد له مثيل، إلا أن الحكومة
الوهابية غليظة شديدة، وإن ضرائبها ومكوسها وما وضعته على الحجاج يزيد على
الحصر، ومع ذلك تدعي حماية الدين وترك البدع المضرة، وأخذوا يذكرون
سيئات ما لاقوه من أوباش الموظفين، فأخذت أدافع عن القوم وحكومتهم بكل ما
عندي من البيان فلم أفلح (ابتداء) مع أكثرهم؛ لتعصبهم وجهلهم المُرَكَّب؛ لأنهم
حتى الآن يعتقدون أن مذهب الوهابية خارج عن الأئمة، وأن قصدهم تخريب الدين
شيئًا فشيئًا، منه تعلمون أن سمعة الوهابية سيئة في هذه الأصقاع، وأنصارها
قليلون، وأعداؤها الدجالون القبوريون الخرافيون كثيرون! خصوصًا السادة
العلويين الحضارمة فإنهم حتى الآن يكفرون القوم ويعدون كل مصلح مارقًا وخارجًا
عن الدين؛ وهم في هذه الجهات لا يحصون كثرة، والجهلة يتبعونهم في أقوالهم،
ويصدقونهم في مفترياتهم وأكاذيبهم {إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ} (هود: ١١٩) لانتمائهم
إلى المرشد الأعظم صلى الله عليه وسلم وهم مع الأسف أبعد عن هديه وشريعته
المطهرة، عاكفون على الضلالات، وطلب الحاجات من الأموات، والاعتقاد في
القبور وأهلها وتقبيلها، ودعاء ساكنيها فيما لا يدعى فيه إلا الله تعالى، وغير ذلك
من التُّرَّهَات التي يبثونها في هؤلاء المساكين، والآن ولله الحمد باطلهم في
اضمحلال، وجاههم المزيف إلى الزوال، لأن بعض الوطنين قد تنوروا وأخذوا
ينشرون الدين الصحيح بين قومهم {وَقُلْ جَاءَ الحَقُّ وَزَهَقَ البَاطِلُ إِنَّ البَاطِلَ كَانَ
زَهُوقاً} (الإسراء: ٨١) .
قام أكبر شياطين الإنس بأرض البوكس من أعمال سليبس أبو بكر الحبشي
واعظًا في المجالس والنوادي بأن الوهابية كفرة يغيرون الدين فالحذر منهم ومن
دعاتهم الراضي والـ ... (هناك رجل آخر من دعاة الحق وأكبر معضد لي في
نشر التوحيد وهو صديقي الوحيد في هذه الديار ممن بذل نفسه ونفيسه في سبيل
إحياء السنن الميتة، ومن أكبر المخلصين لكم أيضًا، وهو أحد أبناء علماء مكة
العاملين، وممن يحب إخفاء اسمه) قام الحبشي يحذر الناس منا ويقول:
كونوا على بصيرة، واعلموا أن الحج غير مفترض عليكم ما دام الوهابية
مقيمين في الحجاز! ! وأخذ هذا الدجال يكتب إلى الحكام في جميع الجهات بذلك،
ولكن باطله لم يثبت أمام قوة الحق وأنصاره على قلتهم، والدين الحق الخالي من
الشوائب دين الفطرة لا يعدم أنصارًا.
ولقد طلبنا مناظرة الدجال الحبشي فأبى وفر هاربا وأقسم بأنه لا يجتمع مع
الراضي الوهابي الخارجي.
هذه حالة غالب الحضارمة من العلويين ومنه خراب الدين، إذًا فالوهابية على
رأي هؤلاء العلويين، ومن على نِحْلَتِهم من علماء السوء الدجالين والجهلاء
المقلدين، ليسوا بمسلمين على دين صحيح، لأجله أرجو الرجاء الأكيد أن تنبهوا
حكومة الحجاز بذلك لتعقد جمعية خصوصية لتفهيم الحجاج عقائد الوهابية (من
الكتاب والسنة) وما يدعون إليه؛ لأنهم بذلك يكونون وسائط بين الوهابية وسائر
المسلمين، وهنا تظهر فائدة الحج ويكون التعارف بواسطة خادمي الحجاج، ويجب
عليهم أن يطلبوا العلم ويتحلوا بمكارم الأخلاق، وأن يجبروا أبناءهم على الدخول
في مدرسة مخصوصة ليتهذبوا ويشبوا على حب الخير والعلم والاعتماد على النفس
والقيام بما يجب؛ لأن مصالح الحجاج مشتركة بين الحكومة وخادمي الحجاج،
وعليهم أن يجتهدوا فينشروا مبادئ الدين الصحيحة بين الحجاج، ويستمدوا تعاليمهم
من جمعية تخصص لذلك، ويسعوا في رفع وإزالة الخلاف وسوء التفاهم الواقع
بين الوهابية بقية السلف وبين من لم يرهم من المسلمين فيتعارف البعض بالبعض،
وإذا كان من الحجاج علماء فلا بد لخادمي الحجاج أن يجمعوهم بعلماء الحجاز
ليحسن التعارف، وبعد ذلك يزول (إن شاء الله) سوء التفاهم من بين المسلمين،
ولا شك أن هذا من أعظم الأعمال وأجل المقاصد التي فرض الحج من أجلها، وإن
فردًا واحدًا ليصلح مئات إذا رجع إلى بلاده، وبغير ذلك لا ينجح عمل الوهابية
المصلحين؛ لأن بذرة الضلال التي زرعها الدحلان قد أثمرت في أفئدة سماسرة
الباطل وأرباب الضلال، وهم يتوكئون على كتابه وهو من أكبر الأسلحة لتنفير
العوام من الوهابية، لا يخفى عليكم أن المؤلف من علماء مكة بل كان مفتيًا بل كان
مفتي الحرمين، نعم أصبح كل ضال مضل إذا أراد هدم الدين ترجم نبذة من ذلك
الكتاب ونشره بين قومه لتنفير الناس من كل مصلح يسعى في إزالة البدع (فقد
صار لقب وهابي علمًا لكل داعٍ إلى الحق) لأجله يرى محبكم أن من الواجب تنبيه
الحكومة الحجازية وجلالة الملك على ذلك، وأن تطلبوا من الحكومة بكل إلحاح -
ولكم الحق لأنكم تسعون لصلاح الإسلام والمسلمين وهو غرضكم من إنشاء مجلة
المنار- أن ترفض جميع العادات السيئة التي كان يجريها الملك السابق مع
الحجازيين الضعفاء؛ لأنه كان يحكم بالجبت والطاغوت والعوائد الجاهلية والقوانين
الجائرة، ولأجله غضب عليه البعيد والقريب، وأبغضه العالم الإسلامي بأجمعه
وأنشدوا في حينه:
أوتيت ملكًا فلم تحسن سياسته ... كذاك من لا يسوس الملك يخلعه
ومن غدا لابسًا ثوب النعيم بلا ... شكر عليه فعنه الله ينزعه
كان أحب الأعمال إليه ابتزاز أموال الناس وأكلها بالباطل وبالطرق الخسيسة
وله أعوان سوء وبطانة شر يساعدونه على ذلك ويسعون في الأرض فسادًا،
فأراح الله منهم العباد والبلاد، وأملنا أن الحكومة السعودية السلفية العقيدة والمشرب
يجب عليها أن تربأ بنفسها عن تلك المناهج الرديئة، وأن تترك الناس أحرارًا في
أعمالهم وتساعدهم على حرية الفكر والضمير والقول (ما لم يكن في ذلك محظورٌ
شرعًا) وما داموا مطيعين لها.
سببه أني كنت سائحًا في بعض هذه المدن (مواضع القلاقل والفتن) وهناك
رأيت الناس في ضجة قائمة قاعدة وتشويش واضطراب وهم وغم يتذمرون من أمر
أصدرته الحكومة على مهاجري الجاويين (العمدة على الكتب المرسلة لهم من
الحجاز وصحتها) لأن محبكم ما بارحت مركزي منذ تسعة أشهر، وطول هذه المدة
في برور هذه الديار- فلمبغ ولمفوغ لم أقرأ جريدة ولم أستلم كتابًا حتى إني محروم
من مطالعة المنار لبعد المسافة بين مركزي وهذه الديار (٥ أيام برًّا وبحرًا) لهذا لم
أعلم صحة هذه الأخبار، ولكني بحول الله وقوته سأعود باتوكاجه في الشهر الآتي.
خلاصة هذه الأخبار أن الحكومة منعتهم من قراءة كتبهم الملاوية وحظرت
عليهم التدريس في البيوت، وأخذ المهاجرون يراسلون أهليهم بذلك ويبالغون في
تشويه الخبر ويقولون: إنهم لا يمكنهم طلب العلم ما دامت هذه القوانين جارية في
الحجاز، ثم أراد أولئك الضعفاء الهجرة إلى مصر لطلب العلم فطلب سفيرهم منهم
تأمينا قدره ٤٠٠ ربية جاوية تبقى عنده تحت المحافظة، وأولئك البوساء فقراء
لأجله سيضطرون لترك طلب العلم، ويزيد ذلك في تشويه سمعة الحكومة السلفية
كما لا يخفى على سيادتكم لأن آباء المهاجرين متأثرون جدًّا، ولما وصلت ديارهم
أخبرت بذلك فأخذت أدافع عن القوم الموحدين بكل وسيلة، وقلت لهم بأني سأسعى
لإصلاح هذا الشأن بواسطة أكبر مصلح في العالم الإسلامي ومحبوب لدى الحكومة
السلفية، ومسموع الكلمة وهو الأستاذ محمد رشيد رضا، لأجله بادرت بتقديم هذا
إليكم وما للحكومة وطلب العلم والتداخل في أمرهم.
لقد سررنا بإعانة الحكومة لكل طالب بست روبيات وهو كرم يذكر فيشكر،
وليتها بعد ذلك تتركهم أحرارًا كما يريدون (اللهم إلا أن ... لأن هذه الحالة وإن
كانت لمصلحة المهاجرين أنفسهم التي يجهلونها فمما يجد أنصار الضلال طريقًا في
انتقاد أعمال الحكومة وتشويه سمعتها، ولقد سخر الله أقوامًا مصلحين لمساعدة
الحكومة السعودية في كل قطر من أقطار المسلمين ولا جامع بينهم وبينها إلا الكتاب
العزيز والسنة المطهرة، لأجله كل مصلح مضطر إلى الدفاع عن القوم؛ لأن كل
من ينكر البدع ويسعى في إحياء السنن الميتة ينبزه الدجاجلة بالوهابي (كما ذكرت
لكم أعلاه وهو في الحقيقة يدافع عن نفسه وبالإضافة عن الوهابية؛ لاعتقاده بأن
هؤلاء القوم أشد الناس تمسكًا بما عليه السلف الصالح، وأقدر الناس على إحياء ما
اندرس من السنن، هذا وأنتم أعلم بهذه الحقائق، هذا قليل من كثير والعفو مأمول،
فإن الفرص لم تسنح بغير هذا.
... ... ... ... ... ... ... ودوموا لأخيكم في الله المخلص
... ... ... ... ... ... ... ... أبو الطيب الراضي المكي
***
جواب جلالة ملك
الحجاز عما في هذه
الرسالة من الطعن على حكومته
نشرنا هذه الرسالة لإعلام قراء المنار بأحوال إخوانهم المسلمين من مصلحين
ومفسدين، ومعتصمين ومبتدعين، وصادقين في مسألة الوهابية وكاذبين، وإننا
كتبنا قبل نشرها إلى الإمام العادل ملك الحجاز ونجد نقفه على ما يقال في حكومته
ونسأله الجواب عنه، وهو في الرياض عاصمة نجد فتفضل علينا بالجواب الآتي:
أما ما ذكر من نقد أعمال بعض الموظفين فنحن نبذل كما تعلمون غاية الجهد
في مراقبة أعمال الموظفين، ولا يمكن أن ترفع إلينا شكاية في أمر معين إلا دققناها
ونصرنا صاحبها، وأما الذي يقع مما لم يبلغنا فنحن نبرأ إلى الله منه.
وأما مسألة تعليم المطوفين وهم أكثر الناس اختلاطًا بالحجاج فنحن لم نقصر
في هذا الباب وأسسنا مدرسة خاصة (أي لتعليمهم) وهي ببدء تكوينها ولا يمكن
أن تأتي الشجرة بثمرتها من أول غرسها، ولا بد من تعهد الإصلاح بالعناية شيئًا
فشيئًا حتى تثمر المساعي.
وأما مسألة إطلاق الحرية للناس في التعليم فلم نمنع منه إلا ما كان مخالفًا
للعقيدة الإسلامية الصحيحة، وهذا لا يمكن التساهل فيه.
وعلى كل حال فإن الباطل مهما جال وصال لا بد أن يظهر الله الحق عليه
ولو كره المفسدون.

(المنار)
نعم، إن الحق ما صارع الباطل إلا صرعه، ودمغه كما قال الله عز وجل،
ولو كان الذين تروج لديهم دعاية الحبشي وأمثاله من أنصار الخرافات والرفض من
العلويين وغيرهم يميزون بين الحق والباطل والكفر والإيمان لعاقبوهم على
تصريحهم بتحريم إقامة ركن الإسلام الاجتماعي العظيم (الحج) بعدم اعتدادهم
بدعواهم الإسلام على الأقل، فإن الله تعالى يقول: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ
مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ العَالَمِينَ} (آل عمران: ٩٧)
واستحلال ترك الحج وجحود فرضيته على المستطيع كفر وردة عن الإسلام بإجماع
المسلمين.