وظائف الرسل عليهم الصلاة والسلام (المسألة ٦٨) تمهيد للموضوع: تعرف وظائف الرسل بالإجمال من وجه الحاجة إليهم، وتعرف بالتفصيل من النظر في أديانهم والوقوف على شرائعهم وليس بين أيدينا دين إلهي وشريعة سماوية ضبطت كتبها، واتصل نسبها بمن جاء بها إلا دين الإسلام الذي حُفظ كتابه في الصدور والسطور، ونُقلت سنة نبيه بالعمل إذ لم يقو على أهله شعب دين آخر يضطهدهم ويتلاعب بدينهم. وضُبط القولي منها بالقول ضبطًا لم يعهد له مثيل في تاريخ البشر، فهو الذي يجب أن يتخذه الباحثون في طبائع الملل وأصول الأديان وتاريخها ميزانًا لمعرفة وظائف الرسل، وبيان الحاجة إليهم فيها، ويزِنوا به سائر ما نسب إلى الأنبياء والرسل من الكتب المقدسة فما رجح فيه قُبل، وما خف وشال تُرك وأُهمل، وحُمل على أنه من تحريف المحرِّفين، وإضافات العابثين، فإن لم يسلكوا هذا المسلك يروا اختلافًا كثيرًا وأمورًا لا تنطبق على وجه الحاجة إلى الرسل، وتلك الجناية الكبرى على الدين، بل على بني الإنسان أجمعين. هذا المسلك هو ما جاء به الإسلام، وعمل به النبي عليه الصلاة والسلام، واتبعه به الراشدون ولم يقصر فيه المسلمون إلا بعد ضعف الإسلام، وفشو الجهل الذي أغراهم بالخلاف ومناقضة أهل الكتاب حتى شذ بعضهم، فحرَّم طعامهم وهو حل بنص القرآن، وبهذا وقف سريان الدعوة وقل انتشار الدين في أهل الذمة؛ لأن كلام المنابذ المخالف يُحمل على الغرض لأول وهلة فينبذ قبل النظر فيه، أو لم يقرأ أولئك المسلمون قوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} (آل عمران: ٦٤) الآية، وقوله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} (البقرة: ٦٢) ؟ بلى قد قرأوه وأوَّلوه، ولم يهتدوا كسلفهم الصالح بالعمل به في الدعوة إلى الإسلام. وجهل هذا التوفيق دعاة النصرانية الذين يتعرضون لدعوة المسلمين بما لهم من الجرأة بالاعتزاز بأوربا، فهم يحاولون إقناع الجاهلين من المسلمين بأن الحق محصور في اليهودية والنصرانية من دون الإسلام، ولا نرى لهم دليلاً على حقيقة اليهودية والنصرانية إلا قولهم إن الذين جاءوا بهما قد عملوا بعض العجائب، ولا يوجد جاهل من المسلمين إلا ويحفظ عن آحاد الأولياء من أهل دينه أضعاف ما ينقلونه عن موسى وعيسى عليهما السلام، ولا أقول عن بولس وبطرس ويعقوب ويوحنا وهو لا يثق بما ينقلونه إذا لم يؤيده دينه وعلماؤه، ويعتقد أن رواية قومه عن أوليائهم أولى بالتصديق من دعواهم التي لا ثقة بروايتها، وإذا هو قبل قولهم ووقع في نفسه صدقهم يقع في الشك بأصل الدين؛ لأن الدليل على الدينين متفق والمدلول فيهما مختلف، ولا وجه للجمع عنده، بل لا وجه للجمع مطلقًا إلا بتحكيم الإسلام، وجعل كتابه كالميزان كما قلنا آنفًا، وقد اهتدى بعض فلاسفة أوربا الباحثون في الدين عن اعتقاد إلى أنه لابد من الاعتقاد بصحة الإسلام والجمع بينه وبين المسيحية، فكتبوا في ذلك وألَّفوا وجعلوا مدار الجمع على الأصول التي يدل العقل على الحاجة إلى الرسل فيها، ومدار الاستدلال على كتب الوحي، وهي التوراة والإنجيل والقرآن. م (٦٩) الوظيفة الأولى: هي بيان ما يجب اعتقاده في خالق الكون ومقدره، وحكيمه ومدبِّره، فقد علم أن هذا الاعتقاد مركوز في فطرة الإنسان بصفة مجملة مبهمة يغلط فيها العقل، ويضل في بيانها الفكر كما تقدم شرحه في قسم الإلهيات، وهذه الوظيفة يجب أن تتحد فيها الأديان الصحيحة، ويجب على علمائها تأويل الخلاف. م (٧٠) الوظيفة الثانية: بيان ما يجب لهذا الإله العليم، والمبدع الحكيم، من الشكر على آلائه، والعبادة التي ترضيه وتقرِّب روح العبد منه؛ ليبلغ بذلك كماله الروحاني ويستعين به على كماله الجثماني، فيرتقي الارتقاء الصوري والمعنوي بحسب استعداده الذي وُهبه ممن أعطى كل شيء خلقه ثم هدى، وقد تقدم في بيان وجه الحاجة إلى الوحي أن هذا شيء لا يستقل به العقل ولا يهتدي إليه بنفسه، وهذه الوظيفة تتفق الأديان الإلهية في معانيها دون صورها. م (٧١) الوظيفة الثالثة: ما يجب اعتقاده في الدار الآخرة والحياة في النشأة الثانية، فقد بيَّنا من قبل أن الناس يشعرون بأن لهم أرواحًا، وأن هذه الأرواح هي التي بها الحياة، ومنهم من أُلهم أن هذه الأرواح خالدة، ومنهم من عرف ذلك بالاستدلال، وأقربه أن العدم المحض محال لا يتصوره العقل، فإذا كان الجسم يبقى ببقاء عناصره بعد التحلل، فالروح الذي به حياة الجسم ونظامه وحفظه ما دام متصلاً به من الانحلال أولى بالبقاء الأكمل، وهؤلاء المستدلين لا يدرون شيئًا من أمر هذه الحياة وهذا الوجود الروحاني؛ ولكنهم أكثروا من الخرص والظن فيه، فذهب بعضهم إلى أن للروح حياة مستقلة لا يتصل فيها بجسم يدبره، ومنهم من قال بالتناسخ ولم تطمئن القلوب إلى شيء إلا ما جاء به الدين السماوي بالنسبة لمن أخذوا به، ولا يصح أن يكون بين الأديان الصحيحة خلاف في جوهر هذه الوظيفة وأصولها، فإذا كانت الديانة الإسلامية التي هي القسطاس المستقيم لسائر الديانات تقطع بأن الحياة الأخرى حياة إنسانية، أي أن أرواح الناس تكون فيها ذات أجساد أكمل من هذه الأجساد؛ لأن الإنسان خلق مركب من روح وجسد لا حياة روحانية محضة، لا حظ فيها للمادة ولا وجود فيها للإنسان، فالواجب إرجاع بعض ما يُؤثر عن السيد المسيح عليه السلام من كون الحياة الملكوتية روحانية كحياة الملائكة إلى ذلك بأن يقال إن المراد بكونهم كالملائكة أن الأرواح لها هناك السلطان الأكبر، كما أن للحظوظ الجسدية السلطان الأكبر في هذه الحياة، وحظوظ الروح مغلوبة لها، وقد جعل المسيحيون الأصل في دينهم أن الحياة الآخرة ملكية محضة لا إنسانية ملكية، أي حكموا بأن الإنسان لا يكون له وجود في الملكوت، وأوَّلوا ما نُقل عن المسيح مما يدل على الحياة المادية في الملكوت، كقوله إنه يشرب الخمر جديدًا في الملكوت، على أن كل كلامه عن الملكوت ظاهر في أن أهله يكونون أناسي لا ملائكة، فيجب أن يجعل هذا هو الأصل الذي يؤول غيره ويرجع إليه وما لا يمكن تأويله يقطع بوضع روايته. م (٧٢) الوظيفة الرابعة: تهذيب الأخلاق وتثقيف النفوس بحملها على الأعمال الصالحة بباعث الإيمان بالله وابتغاء مرضاته، والإيمان باليوم الآخر والخوف مما فيه من العقوبة والرغبة فيما للمحسن من المثوبة، وبيان ما فيها من المنافع والمصالح، ولا شك أن هذه الطريقة في التهذيب هي الطريقة المثلى؛ فإن الأعمال هي التي تطبع الملكات والأخلاق في النفوس، وقد بيَّنا في درس وجه الحاجة إلى الوحي أن الإنسان لا يستقل بنفسه، ولا يهتدي بعقله المجرد، ويصل بسعيه إلى التهذيب الذي يصلح به حال الأفراد وحال المجتمع، إلا بتأييد الهدى الإلهي لأن الحظوظ والرغائب والأهواء تحسن القبيح وتقبح الحسن، وإننا نرى الناس بعد أن وُجد فيهم الإرشاد الديني وأمدَّه العلم الاختباري تفسد أخلاقهم بضعف الاعتقاد بالدين فيهم. له بقية ((يتبع بمقال تالٍ))