للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


التصرف في الكون
] سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ [
واحسرتاه على أمة أعطيت أمثل التعاليم. وهديت إلى الصراط المستقيم.
فأُلبِست تاج السيادة. وأُفرغت عليها حلل السعادة. ثم ما عتمت. أن حرّفت
وانحرفت. وتمزقت بعدما اجتمعت، حرفت التعاليم فاشتبه عليها الباطل بالحق،
واتبعت السبل فتفرقت بها عن سبيل الحق. وكانت أمة واحدة. فأمست شيمًا متعددة
فذاق بعضها بأس بعض. ثم امتهنت في جميع بقاع الأرض {انظُرْ كَيْفَ
نُصَرِّفُ الآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ} (الأنعام: ٤٦) .
سعادة الإنسان في هذه الحياة الدنيا في معرفة المنافع والمصالح بأسبابها، وإتيان
البيوت من أبوابها. ويحصل هذا بالنظر والتأمل. والاختبار والتعقل. وبناء
اللاحق على عمل السابق. حتى تظهر السنن الكونية. والنواميس الطبيعية. التي
لا يضل من اهتدى إليها. ولا يصل إلى الغاية إلا من سار عليها. ولكن دون
الوصول إلى معرفة سنن الله في خلقه عقبات. وفي طريق النظرين - العقلي
والحسي - شبهات {قُلِ انظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ
عَنْ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ} (يونس: ١٠١) .
ما أعظم عناية الله بالإنسان؛ منحه أنواعًا من الهداية ليصل بها إلى سعادته:
الإلهام الفطري والوجدان الطبيعي والمشاعر الظاهرة والباطنة والعقل والدين وكل
هداية من هذه الهدايات تُصلح ما يقع من الخطأ الذي يعرض للهداية الأخرى ولا
يصل الإنسان إلى حد كماله إلا بمجموعها، ولكن الإنسان خُلق ضعيفًا، فمع هذه
الهدايات كلها لم يزل الضلال آخذًا بزمامه والشقاء في شعوبه ضاربًا بجرانه، وما
ذلك إلا لغلبة ناموس الارتقاء التدريجي على جميع هذه الأشياء ولا بد أن يصل
الإنسان به إلى كماله ولو بعد قرون، فانتظروا إنا منتظرون.
الدين أعلى أنواع الهداية ومرشدها ومدبرها وقد سار كغيره على سُنَّة الارتقاء
فكان آخره (وهو الإسلام) أكمله، وإلى ذلك الإشارة بما جاء في إنجيل يوحنا عن
سيدنا عيسى عليه الصلاة والسلام من قوله: (١٦ إن كنتم تحبوني فاحفظوا وصاياي
١٦ وأنا أطلب من الآب فيعطيكم (فَارْقِلِيط) آخر ليثبت معكم إلى الأبد) أي:
تثبت تعاليمه فلا يأتي بعدها تعاليم إلهية، ثم قال: (٢٦ و (الفارقليط) روح
القدس الذي يرسله الآب باسمي هو يعلمكم كل شيء وهو يذكركم كل ما قلته لكم) ،
ومعلوم أنه لم يبعث نبي علَّم البشر كل شيء يحتاجونه في سعادتهم إلا نبي الإسلام
عليه الصلاة والسلام؛ فموسى جاء بشريعة عملية، وعيسى جاء بأخلاق روحية،
ومحمد علّم الناس العقائد والأخلاق وأحكام الشريعة بأنواعها وجمع بتعليمه بين
مصالح الروح والجسد ومنافع الدنيا والآخرة ووفق بين العقل والدين وأرشد إلى سنن
الكون والاعتبار بها، فكان من مقتضى هذه التعاليم أن تكون أتباعه أسعد الناس حالاً
وأن يسودوا على سائر الأمم، ولقد كان هذا كله ثم اتبعوا سَنَن مَن قبلهم، فلما زاغوا
عن ذلك الصراط المستقيم في أخلاقهم وأعمالهم أزاغ الله قلوبهم، والله لا يهدي القوم
الفاسقين.
قال لهم هذا الدين: اطلبوا الأشياء بأسبابها {وَأْتُوا البُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا} (البقرة: ١٨٩) وأرشدهم إلى أن سعادتهم وشقاءهم نتيجة أعمالهم وأنه {لاَ يُكَلِّفُ
اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} (البقرة: ٢٨٦) ، فقام فيهم
محرفون زعموا أنه ليس في وسعهم شيء من العمل ولا طاقة لهم على القيام
بمصالحهم ومنافعهم، زاعمين أنهم يعظمون الله تعالى بمصادمة فطرته ومصادرة
شريعته. وقد فندنا هذا المذهب في مقالة (الاعتماد على النفس) من الجزء الماضي
وهو العقبة الكبرى في طريق الإصلاح الإسلامي، وأنشأنا هذه المقالة لتمهيد عقبة
أخرى ضررها يوازي ضرر الأولى في الحيلولة بين الأمة وسعادتها وإن كانت في
حقيقتها مناقضة للأولى عقلاً ودينًا ألا وهي: عقيدة تصرُّف بعض العباد في
الكون.
أليس من العجيب أن يسلب قوم أنفسهم العمل الثابت لهم بالوجود والوجدان
سواء كان بمبدئه أو بغايته لأجل تعظيم جانب الألوهية التي منحتهم إياه، ثم يزعمون
أن منهم من يتصرف في الكون ويقدر على قلب نواميسه وتبديل سننه وتحويلها
فيسعد ويشقي ويفقر ويغني من غير سبب غير مجرد تصرفه ذلك أو الاستعانة
بطلاسمه مما اختص الله تعالى بالقدرة عليه من دون عبادة كما هو ثابت بالدلائل
العقلية والنقلية جميعًا. أليس من الجهالة العمياء أن تُنبذ البراهين العقلية وتُصرف
الآيات القرآنية عن ظواهرها لأجل تصحيح هذه المسألة التي ما أنزل الله بها من
سلطان؟ ! أليس من البلاء العام أن تكون قلوب معظم أفراد الأمة متعلقة
بالأضرحة والقبور وبجماعة من الدجالين والمشعوذين أو البُلْه والمجانين؟ ! معتقدة
بهم أنهم يدفعون مصابًا ويزيلون أوصابًا. أو يملكون نفعًا وإسعادًا. وينيلون هدايةً
ورشادًا بمجرد أسرارهم الباطنية، وقواهم الغيبية؟ أليس من الانحراف عن الدين
أن تلهج الألسنة بالأموات، وتستعين بالعظام الرفات كلما نزل خطب أو ألمَّ كرب؟!
هذه العقيدة المضرة نفث سُمَّها في روح الأمة الإسلامية قومٌ من مدعي الصلاح
والإرشاد الذين رمقتهم العامة بعين الاعتقاد وذلك بعد امتزاج المسلمين بأهل الملل
الأخرى الذين خضعوا لرؤسائهم الروحيين خضوعًا أعمى بل اتخذوهم أربابًا،
وجعلوهم عن الحضرة الإلهية نوابًا. وما من أمتين تتمازجان إلا ويسري لكل واحدة
من الأخرى شيء مما هي عليه، تأخذه برمته أو تصبغه بغير صبغته. ولقد تلاعب
الدجالون بعامة هذه الأمة فزعزعوا بمثل هذه الأوهام عقائدها. وهدموا بالتمويهات
قواعدها؛ طلبًا للمال والجاه. ولا حول ولا قوة إلا بالله.
ولقد آل بهم الأمر إلى جراءة أفسق الفساق وأفجر الفجار من شيوخ الطريق
على دعوى التصرف في الكون والانتقام ممن لا يخضع له! فضلاً عمن ينال منه
بقول أو عمل، ويستدلون على ذلك بما لا يخلو عنه الكون من مصائب تنزل بأعدائهم
لحصول أسبابها الطبيعية، وبمثل هذا يستدل المعتقدون بتصرف الأموات يقولون:
حلف فلان بالولي الفلاني كاذبًا فرماه بسهم أمرضه أو أمات ولده أو قريبه ونحو ذلك
ولا يقولون ذلك فيمن يحلف بالله كاذبًا، ويوجد في المسلمين ألوف كثيرة يتجرؤون
على الحلف بالله كذبًا ولا يحرك أحدهم لسانه بالحلف بالولي أو الشيخ الذي يعتقده؛
لا سيما إذا كان عند قبره. وقد صرح الفقهاء بأنه لا يجوز الحلف بغير الله مطلقًا
وقالوا: من حلف بغير الله معظمًا له كتعظيم الله تعالى في ذلك كان كافرًا، فماذا
عساهم يقولون فيمن يزيد في تعظيم الشيخ على تعظيم الله تعالى كالذي علمت؟ !
ومن هؤلاء الدجالين من يسعى بإيقاع الضرر بعدوه بأسبابه العادية؛ لا سيما
النفوذ والجاه الدنيوي كمساعدة الحكام الظالمين وغيرهم، ثم يدعي بعد ذلك أنه
تصرف فيه بسره ومدد شيوخه وأجداده فيقول: إن فلانًا تكلم فيَّ فقُطع لسانه وفلانًا
ناوأني فعُزِلَ من وظيفته. وفلانًا آذى بعض أتباعي فحُبِسَ ونُكِبَ. ويغفل الأنوك عن
وقوف الناس على أسباب هذه النكبات وعرفانهم أن مثلها من تصرفات الأشرار لا
من تصرفات الأسرار، ولا يعتبر المغرور بما ينزل بأنصاره من البلاء كالنفي
والجنون ونتف اللحى وقلع العيون بل بما ينزل به نفسه أحيانًا؛ وذلك لأنه يؤوّل
لنفسه عند نزول البلاء بأن أشد الناس بلاءً الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل فإذا كشفت عنه
قال: إنما نزل به ما نزل لتظهر أسراره وعناية الله تعالى به نعوذ بالله من
الاستدراج بالغرور والتغرير.
ألم يعلم المدعي الجاهلي بل الخادع المتجاهل أن الناس يعلمون بأن أكابر
شيوخهم كانوا يشتمون ويهانون وما كان يحل بمن أهانهم بلاؤه. هذا الشيخ أحمد
الرفاعي الكبير (رحمه الله تعالى) كان يغمطه ويغمزه أكابر العلماء في عصره [١]
ولم ينقل أنه تصرف بأحد منهم فقطع لسانه مثلاً مع أن أكثر أهل طريقته يدعونه
أكثر مما يدعون الله تعالى، وقد نسبوا له العظائم حتى قالوا إنه كان يتصرف في
الدنيا والآخرة وكان يبيع قصورًا في الجنة كما يفعل بعض رؤساء الأديان الأخرى
ويكتب بذلك صكوكًا [٢] ويغفل الخادع والمخدوع عما أورده الإمام حجة الإسلام
الغزالي في الرد على الذين يدعون أن نزول البلاء بأعدائهم يكون انتقامًا لهم على
سبيل الكرامة من أن الذين كانوا يؤذون الأنبياء ويقتلونهم ما كان يحل بأشخاصهم
البلاء والعذاب، فهل كان هؤلاء الأشقياء أو الصلحاء أكرم عند الله من الأنبياء
(سبحانك هذا بهتان عظيم) ومما يقضي بالعجب أن مسألة التصرف في الكون
لقد هزلت حتى بدا من هزالها ... كلاها وحتى سامها كل مفلس
يدعيها الدجال المسترسل في الفجور الذي أغواه الشيطان بشهادة الفساق أو
الكفار له بالقطبية والغوثية من مراتب الولاية لينالوا منه مالاً أو جاهًا، وحسب العاقل
هذا في النفور عن أهل هذه الدعوى وتكذيبهم، فكيف والوجود بكذبهم والشواهد التي
أشرنا إليها تفند مزاعمهم؟! وفوق ذلك كله كتاب الله يخاطب نبي الله إرشادًا لعباد الله
بمثل قوله: {قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلاَ ضَراًّ} (الأعراف: ١٨٨) وقوله: {قُلْ
إِنِّي لاَ أَمْلِكُ لَكُمْ ضَراًّ وَلاَ رَشَداً} (الجن: ٢١) نعم إن الدجالين قد جعلوا مسألة
التصرف من باب كرامة الله لأوليائه. وسيأتي الكلام على الكرامات إن شاء الله
تعالى.